الدكتور سامي الدهان

عبد الله يوركي حلاق

الدكتور سامي الدهان

بقلم: عبد الله يوركي حلاق

( الحياة عطاء وتجديد وإبداع، ومن حقنا أن نعطي من ذوب قلوبنا، وعصير أدمغتنا، لنكون جديرين بالعيش الكريم، وبمحبة الأجيال الصاعدة. )

                                    سامي الدهان

تعودُ بي الذكرى، إلى أجمل عهود الحياة، وأكثرها عطاء وحركة وانطلاقاً في آفاق الصبا الريان، واللهو البريء، وكلما عاودتني هذه الذكرى شعرتُ بعاملين خفيين متناقضين يملآن كياني، ويجعلاني أفكّر في الماضي الذي لن يرجع، وفي الوجوه العزيزة التي غابت عن الأرض، وبقيت في سماء الذاكرة، وفي صفحات التاريخ.

العامل الأول: يذكّرني بالشباب الباسم، والصحة الكاملة، والليالي البيض، ويمثّل لي مجالس الأنس، وحلقات الطرب الحافلة بالغيد الحسان، ويسمعني أعذب وأحلى ما كانت تجود به الصبايا الملاح، من وشوشات الغزل، وأهازيج العاطفة المتدفقة بالحب والجوى، والممتزجة بآهات الناي، ونقر الوتر، وأغاريد المنشدين.

والعامل الثاني: يضعني على عتبة الواقع الأليم، فألتفت، وأنا في زوايا وحدتي، فلا أرى من كانوا في الثلاثينيات والأربعينيات، زهورَ المجتمع، وكواكب الأدب، ورفاق الحرف في طريق الجهاد.

وإذا كان الإنسان يعيش بذكراه كما يقول بعض الفلاسفة والشعراء، ففي ذاكرتي صور كثيرة تمثّل إخواناً أحبّاء، لم يعيشوا لنفوسهم فحسب، ولكنهم عاشوا لخدمة أمتهم ولغتهم، وناضلوا من أجل عزّتها ورفعة شأنها، في زمن كان المناضلون فيه، عرضة لنقمة الحاكمين القابضين على مقدّرات البلاد بأيدٍ من حديد.

ولكن أبطالنا الأشاوس، عرفوا كيف يثبتون في معترك الكفاح، وكيف يقاومون بالقلم حيناً، وبقوة الشعب المتحد أحياناً، ذلك الحاكم القوي الدخيل، الذي لم ير بداً من أن يحمل عصاه ويرحل.

تتزاحم الآن أمامي، وأنا أكتب هذه الكلمة عن أخ كريم وصديق غال، ذكريات تطلّ من كوى الماضي، وتريني بوضوح وجلاء تلك النخبة الطيبة من أخدان الصبا ومحبّي الفصحى، وعشّاق الكلمة الرقيقة المعبّرة بصدق وإيجاز، عن أدق ما يجول في الفكر، أو يختلج في أعماق الصدر.

كنا في مطلع الثلاثينيات نحو عشرة شبّان، بقي منهم والحمد لله، الصديقان عمر أبو ريشة والدكتور ممدوح حقي وأنا، ولاقى الباقون وجه ربهم مخلفين في قلوب أهلهم وعارفيهم الحسرة والأسى، وتاركين للمكتبة العربية، آثاراً فكرية تجدد ذكرهم على مدى الأحقاب.

إني أؤمن، بأن عمر الإنسان إلى زوال، كثرت أعوامه أو قصرت. أما ما يقدمه إلى أمته من خير، فهو باق، وبه يقاس مقامه بين مواكب الأحياء.

ومقام سامي الدهّان في أعلى ذروة من العلم والأدب، وما خلّفه من مؤلفات نفيسة يضمن له الخلود، ويجعله بين أعلامنا المكللين بغار الفخر والثناء.

ولد سامي الدهان في مدينة حلب بتاريخ 9 نيسان 1912 وربيّ في كنف أسرة محافظة، وما كاد يتعلم القراءة، حتى أكبّ على القرآن الكريم، يحفظ كثيراً من آياته وسوره، ويتزوّد مما فيها من بلاغة وفصاحة وإعجاز.

وكان وهو على مقاعد المدرسة الفاروقية، مثال الطالب الذكي، المحب للثقافة والتقدّم وارتشاف العلوم من أصفى ينابيعها وأغزر مناهلها.

وعندما نال الشهادة الابتدائية، انتقل إلى مدرسة التجهيز، وكانت تُعرف وقتئذ بمدرسة "السلطاني" وفي هذه المدرسة، تفتّحت براعم موهبته الأدبية، فعكف على الترجمة والتعريب، وقد عرفته مجلة "الضاد" في عام 1931 يوم نشرت له مقالة صغيرة عنوانها "لست أخشى الشيخوخة"(1) عرّبها نثراً عن الشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوغو(2)، كما عرفته مجلة "الكلمة" يوم نشرت له في العام نفسه مقالاً معرباً عن هوغو أيضاً بعنوان "نابليون الثاني"(3) فقد كان هذا الطالب العربي الناشئ، يحب ذلك الشاعر والكاتب والروائي الفرنسي الذي امتاز بقوة خياله، ودقة وصفه، وصدق عاطفته، وسلاسة إنشائه، حتى اعتُبر بحق من أكبر وأشهر أدباء عصره.

وقد أكثر سامي الدهان، من تعريب هوغو، ثم عمد إلى تعريب نفثات فيني ولامارتين وموسه وغيرهم من مشاهير شعراء أوروبا، فأجاد في نقل أفكارهم إجادة تدل على تمكنه من اللغة الفرنسية، والإلمام بقواعدها، ودراسة آدابها بتعمق وشمول، وقد نشر معظم مترجماته في الصحف الحلبية كالحديث والضاد والكلمة والتقدم، كما نشر في مجلة "الرسالة" بمصر، مقالة معربة عن فيني عنوانها "موت الذئب" وله في مجلة "الدليل العربي" مقالتان معرّبتان: الأولى بعنوان: "الصباح" لفيكتور هوغو. والثانية بعنوان: "وداعاً" لأفريد دي موسّه.

هذا الفيض الأدبي الغزير، الذي قدّمه سامي الدهان وهو في التاسعة عشرة من عمره، بات يبشّر بمولد عبقرية أدبية جديدة، تتجلى فيها أجمل المقوّمات الفكرية، وأسمى العناصر الإبداعية.

في ذلك العهد، وعلى وجه التحديد، في عام 1931، عرفنا سامي الدهان، فأعجبنا بأدبه واندفاعه وطموحه، وشغفنا بحسن حديثه، وخفة روحه، ولطف عشرته، وسرعة بديهته.

كان مرحاً ومحدثاً لبقاً، يضفي على سامعيه النكتة الحلوة، والأحاديث الطريفة التي تشرح الصدور، وترنّح الأعطاف.

ولم نكن نحلم، ونحن في ربيع العمر وزهوة الشباب بغير خدمة الوطن عن طريق القلم والأدب أولاً، وعن طريق الاتحاد والنضال ثانياً. وكانت تسود معظم اجتماعاتنا الروح القومية، فنردد الأناشيد الوطنية بحماسة قوية تشق عنان السماء، فيرددها معنا صبيان الحي وطالبات المدارس.

ومع أن سامي كان محباً للغة الفرنسية، توّاقاً إلى التزوّد بالثقافة العليا من جامعات باريس، فقد كان يصبو إلى سيادة شعبه واستقلال بلاده، فالواجب القومي شيء، ومحبة الدراسة في بلاد الغرب شيء آخر.

ومال سامي الدهان إلى مهنة التدريس، وأصبح معلماً في بعض المدارس الرسمية، وهناك لمس ما تعانيه مدارسنا من نقص في مجال التدريس المبني على أمتن القواعد التربوية السليمة، فنشأ عنده شعور في إصلاح طرق تعليم لغتنا، فنشر بالعربية كتاب "البيداغوجيا الممارسة" لشاربيه، وطبّق فيه ما طبقه الغربيون على لغتهم، وقدّم لهذا الكتاب الشيخ بدر الدين النعساني، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق يومئذ، كما صدّره بقصيدة من شعره، صديقه ورفيقه الشاعر النابغ عمر أبو ريشة، وكان هذا الكتاب أول آثاره في عالم التأليف، ثم أتبعه بكتاب في قواعد الإملاء يقع في جزءين صغيرين بعنوان "الكتابة" طبع سنة 1936.

وكان سامي الدهان حركة دائمة لا تقف عن السعي وراء الأفضل والأكمل، وكانت معرفته باللغة الفرنسية تفتح أمامه أبواب التقدم السريع، وما كاد يُعلن في سورية عن امتحان بعثة علمية إلى فرنسا حتى دخل سامي الامتحان ونجح فيه بتفوق ونال الدرجة الأولى بين المتسابقين، وسافر إلى فرنسا سنة 1937، لدراسة الأدب العربي في جامعة "السوربون"(4) بباريس.

وفي السوربون، تابع محاضرات كبار المستشرقين مثل: غودفروا ديمومبين، وليم مارسيه، لويس ماسينيون، جان سوفاجيه، هنري ماسيه، وفي أقل من ثلاث سنوات، حصل على "الليسانس" في الأدب العربي، ثم تقدم لتحضير الدكتوراه، واختار أبا فراس الحمداني موضوعاً لأطروحته، وراح يطوّف في حواضر أوروبا، وراء نسخ ديوان ابن عم سيف الدولة، فكان أن أضاف إلى المعروف من شعره، قصائد عديدة كانت ضائعة في بطون دواوينه المحفوظة في مكتبات، لا يستطيع الوصول إليها، إلا عشّاق البحث والتدقيق.

ولما نشبت الحرب العالمية الثانية، عاد سامي الدهان في عام 1940 إلى حلب، حيث درّس الأدب العربي مدة خمس سنوات في كبريات المعاهد في جملتها المعهد الفرنسي العلماني "اللاييك" وكنت أدرّس فيه اللغة العربية، فتوثقت بيننا أواصر المودة والإخاء وكان لي نعم الصديق والرفيق والزميل، وكان لمجلة الضاد نصيراً مخلصاً يمدّها بالجديد الطريف من بنات أفكاره.

وفي أثناء الحرب شرع سامي يعدّ طبع ديوان أبي فراس، وما كادت تنتهي الحرب حتى أسرع إلى باريس، وتقدّم إلى مناقشة الدكتوراه بدراسة في الفرنسية عن ذلك الشاعر الفارس، ونجح في دكتوراه الدولة بدرجة مشرِّف جداً، وظفر بتهنئة خاصة من اللجنة الفاحصة، وفي صيف 1946 عاد إلى دمشق وانتُدب بقرار جمهوري، عضواً في المعهد الفرنسي للدراسات العربية العالية، التابع لجامعة السوربون، فانصرف الدكتور سامي بكليته، إلى تحقيق طائفة من أهم كتب تراثنا الأدبي، مثل: "ديوان الوأواء الدمشقي" و"زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم" و"طبقات الحنابلة لابن رجب" وكانت باكورة تحقيقاته وأهم أعماله الأدبية في نظرنا، قد تجلّت في "ديوان أبي فراس الحمداني" الذي كان قد طبع في مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت عام 1944 وقد جاء هذا الديوان في ثلاثة مجلدات تبلغ حوالي 825 صفحة.

وأثارت أعمال الدكتور الدهان إعجاب أعضاء مجمع اللغة العربية بدمشق، فانتخبوه عضواً عاملاً فيه، بتاريخ 7 شباط 1953، فكان من خيره زملائه المجمعيين، علماً وحيوية ونشاطاً واطلاعاً على أدب الغرب، وخصوصاً على الأدب الفرنسي الذي أحبّه منذ صغره، وترجم الكثير من روائعه.

وذاعت شهرة الدكتور سامي الدهان، كباحث ومحقق وأديب كبير ومحاضر قوي الحجة واسع المعرفة، فدعته جامعات الولايات المتحدة الأميركية لزيارتها فزارها، كما زار بعد ذلك، مع وفد من مجمع اللغة العربية بدمشق، أكاديمية العلوم والآداب السوفيتية، واشترك في مؤتمرات أدبية، ومهرجانات شعرية عديدة.

وتوالت رحلاته إلى استانبول وبغداد والنجف والقاهرة والمغرب وإلى كثير من الأقطار العربية والأوربية، بقصد دراسة ما تحويه مكتباتها العامة من مخطوطات عربية. وقد استطاع أن يصور كثيراً من نفائس تلك المخطوطات المشتملة على كنوز فكرية رائعة، تدل على عبقرية أسلافنا، وعلى تفوقهم في ميادين العلم والأدب والفن والحضارة.

وعندما أعلنت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، عين الدكتور الدهان عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ثم انتخب مقرراً للجنة النثر في المجلس نفسه بدمشق.

وفي 24 كانون الأول 1960 اختاره المجمع اللغوي في العراق عضواً مراسلاً فيه، فكان يبذل الجهود الجبارة في سبيل خدمة العلم والأدب ويكب ليل نهار، على التأليف والتصنيف، وتحقيق أمهات الكتب والتعليق عليها.

وللدكتور الدهان تسعة وعشرون كتاباً مطبوعاً(5) منها اثنا عشر كتاباً حققها وعلق عليها، وسبعة عشر كتاباً ألفها بأسلوبه البديع الذي يستهوي القراء، ويجعلهم يعيشون في أجواء ممتعة شيقة من الأدب والتاريخ وسير نوابغ الفكر العربي.

في شهر آذار 1969، أصيب الدكتور الدهان بمرض عضال، حال بينه وبين إنجاز ما كان قد بدأ به من مشروعات أدبية جليلة. وكان كتاب "درب الشوك" آخر ما طبع من مؤلفاته. وفيه يصف جدر الشوك التي اجتازها، والصعاب التي تغلب عليها، والأهوال التي لم تثنه عن اندفاعه إلى الأمام.

يقول الأديب الكبير، والصديق الكريم الأعز، الدكتور عدنان الخطيب نائب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، في وصف "درب الشوك": إن حروفه من نور عيني مؤلفه، ومداده مما علق على أشواك دربه من نجيع.

وسافر سامي إلى أميركا وفرنسا طلباً للعلاج الشافي والدواء الناجع، ولكن الجهد المضني الذي بذله طيلة حياته، أضعف قلبه وأذاب دماغه، فدهمته المنية في 20 تموز 1971 وهو في التاسعة والخمسين من عمره.

ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه حلب، فودعناه بذوب القلب، ودموع المقلتين، وبقصيدة تحمل أعمق معاني الحزن والأسى.

وبمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته، أقامت له الشهباء حفلاً تأبينياً مهيباً، عبرت فيه عن وفائها لابنها البار، وعن إعجابها الوافر بنبوغه، وعن ألمها الشديد لغيابه عن عشاق أدبه.

وكان صديقنا الراحل، ذا خلق عربي أصيل، وجلد نادر على الكتابة والتأليف. وكان يعتز بأسرته، وبمكتبته الزاخرة بنفائس الكتب العربية والأجنبية، وبمدينته التي أنجبت كبار المجاهدين، وأفذاذ الكتاب والشعراء.

ووفاء لهذه المدينة العربية العريقة، وخدمة لأجيالها الصاعدة، قررت السيدة رصينة العطار حرم الدكتور سامي وكريمتاها السيدتان غادة وهالة الدهان، وبقية أعضاء أسرته، أن يقدموا مكتبته كلها إلى كلية الآداب في جامعة حلب، إخلاصاً لذكرى فقيدهم، وإرضاء لروحه الزكية.

وأمام هذه المأثرة الخالدة، أقامت جامعة حلب في مساء يوم الخميس 8 أيار 1975، حفلاً خطابياً رائعاً، افتتحت في نهايته قاعة تدريسية واسعة، أطلقت عليها اسم الدكتور سامي الدهان، وساهمت مساهمة كريمة في إصدار عدد خاص من مجلة "الضاد" ضم كل ما قيل في ذلك الحفل الخطابي، وبعض ما ورد علينا من كلمات محبي ذلك الأديب الكبير الذي أطلقت العاصمة السورية اسمه على شارع من شوارعها، تمجيداً له وإحياء لذكراه.

بقي على بلديتنا، أن تبادر إلى تكريم ابنها الوفي، فتسمي أحد شوارعها الرئيسية باسمه، عرفاناً لجميله على وطنه ولغته وأدب أمته.*

          

هوامش:

(1) الضاد: العدد 8/ ت2/1931 ص 355.

(2) Victor Hugo 1802 – 1885 شاعر وكاتب وروائي فرنسي من أعلام الحركة الرومنطيقية في أوروبا، من مؤلفاته الشعرية: "الشرقيات" و"أوراق الخريف" و"أغاني الغسق" و"ملحمة الأجيال". ومن مؤلفاته النثرية: "البؤساء" و"سيدة باريس" و"هرناني".

(3) الكلمة: العدد 1/ ك2/ 1931 ص 27.

* عن مجلة الضاد الحلبية.

(4) السوربون ٍٍSorbonne دار للتعليم أنشأها روبي ردي سوربون سنة 1253، وفي القرن السادس عشر أصبحت مدرسة لتعليم اللاهوت، وفي عام 1626 جدد ريشليو بناءها، وفي سنة 1808 ضمّها نابليون إلى جامعة باريس، وتعتبر السوربون من أهم جامعات أوروبا.

(5) ذكرنا أسماء هذه الكتب كلها، في الصفحتين 11 و12 من العدد الخاص الذي أصدرته مجلة "الضاد" بالاشتراك مع جامعة حلب، عن الدكتور سامي الدهان (عام 1975).