عبادة التَّرك

رسالة المنبر ١٦ - ١٠ - ٢٠١٩م

المحاور

 يعتقد البعض بأن العبادات تقوم على طاعة الخالق سبحانه وتعالى فيما أمر دون نظر إلى ما نهى عنه وزجر، والصحيح أن العبادات تقوم على مطلق الإلتزام بما جاء في مصادر التشريع المعتبرة من أمر ونهي، وطلب فعل وترك، على قاعدة الثقة المطلقة بحكمة الحكيم سبحانه فيما يأمر وينهى.

 قد يجد الدعاة إلى الله تعالى سهولة في الأمر بالمعروف فيما يقابل ما يعانونه من شدة وصعوبة في النهي عن المنكر، باعتبار أن إقبال الناس على الفعل أكثر من استجابتهم للنهي والترك، لا سيما إذا كان المطلوب تركه مما أدمنت عليه واعتادته النفس من الشهوات والأهواء، أو مما زينه الشيطان للناس من منافع يجدونها في المنكرات.

 عندما تجد من يؤدي زكاة ماله ثم هو في الوقت ذاته يتعامل بالربا، وآخر يصوم لكنه لا يترك التدخين ولا الغيبة التي اعتادها، وثالث يؤدي الفرائض لكن له وظيفة في بنك ربوي أو مكان يؤذي فيه العباد؛ تشعر بوجود حالة من الانفصام المذموم عند قوم يأخذون من الدين المريح، ويدعون منه ما يرونه ثقيلاً على أنفسهم!!

 بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم منهج الإسلام في العبادات الفعلية والعبادات التَّركية حين قال: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم" رواه البخاري ومسلم، فكان حازماً حاسماً بشأن النهي والترك.

 لقد تفوق جيل الصحابة على أنفسهم كثيراً حين تركوا الكثير من العادات والمألوفات، بل وتركوا ما ائتلف عليه مجتمعهم، وما توارثوه عن آبائهم، مما أحدث صراعاً كبيراً في أنفسهم، بل وبينهم وبين قومهم .. ولكن يقينهم الصادق على الله تعالى جعلهم لا يترددون ولا يتأخرون ولا يرتابون في أن الله تعالى لن يترك من ترك كل شيء لأجله، ومن متروكاتهم التي اعتادوها بل أدمنوا عليها ثم تركوها:

١. عبادة الأصنام المتوارثة عن آبائهم.

٢. الربا والاحتكار والغش.

٣. الزنا والفواحش.

٤. شرب الخمر.

٥. الحلف بالأصنام، والاستقسام بالأزلام.

٦. وأد البنات وحرمان النساء من حقوقهن.

٧. الطبقية واستعباد الخلق.

حيث سوّل لهم الشيطان أن لهم بكل ما سبق فائدة ونفع ومصلحة .. فكان في ترك ذلك مشقة وصعوبة بالغة.

 لم يتوقف ترك الصحابة لأجل الله تعالى على هذه المنكرات والمحرمات فحسب، بل تركوا شيئاً من المباحات استجابة لأمر الله تعالى، فاستجاب لهم كما استجابوا له، ومن متروكاتهم كذلك:

١. تركوا الراحة والدعة والتحقوا بركب الدعوة العظيم، وقد وجدوا فيه المشقة والعنت.

٢. تركوا المال صدقة لله تعالى، قال تعالى: "قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ: 39).

٣. تركوا بلادهم وهاجروا إلى الحبشة والمدينة، بل وانتشروا في أصقاع الدنيا دعاة فاتحين.

٤. تركوا الحياة كلها زهداً وجهاداً، قال تعالى: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" (الأحزاب: 23).

 لقد جاء العوض من الله تعالى في الدنيا لهؤلاء الكرام الذين تركوا ذلك كله ابتغاء رضوان ربهم، هذا فضلاً عما ادخره لهم سبحانه في الآخرة، قال تعالى:" مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" (الإسراء: 19)، ومما عوضهم الله تعالى به في الدنيا:

١. رفع الله ذكرهم وصار الناس عبر الجغرافيا والتاريخ يدعون لهم بالرضوان (رضي الله عنهم).

٢. فتح الله لهم البلاد وقلوب العباد.

٣. غنموا من الأموال والضِياع الشيء الكثير.

٤. دانت لهم دولة الفرس والروم، وكسرت تحت أرجلهم شوكة اليهود وأخمدت نار المنافقين.

٥. صاروا سادة وقادة ولم يخسروا حتى الزعامة التي كانوا عليها في الجاهلية، بل ربحوا ما هو أشرف منها.

٦. سطروا لأحفادهم مجداً وصنعوا للبشرية نموذجاً راقياً في الإصلاح والتغيير والدعوة والجهاد.

 لقد ترك صهيب رضي الله عنه ماله عند الهجرة لأجل الله تعالى، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالعوض، وانظر له وهو يروي قائلاً:".. وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقِباء قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: يا أبا يحيى! ربح البيع، ثلاثا، فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام" رواه الحاكم .. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة: 207 ): "نزلت في صهيب بن سنان وأصحابه، اشترى نفسه بماله من أهل مكة".

 لقد ترك مصعب بن عمير رضي الله عنه ما كان فيه من نعمة وأسلم ثم هاجر إلى الحبشة وبعدها هاجر إلى المدينة حتى استشهد يوم أحد فما وجدوا غطاءً كاملاً له .. لقد ترك كل شيء لله .. فنحسب أنه سينال كل شيء عند الله.

 إن هنالك ترك إجباري للمعاصي .. وهذا الترك قد لا يثاب عليه صاحبه إلا بمشيئة الله تعالى، ومن ذلك: أن يترك المسلم الخمر والتدخين وأكل لحم الخنزير بأمر من الطبيب لأسباب صحية، أو أن يترك المسلم الربا لتحقق ضرره لا لحرمة أصله، أو أن يترك المسلم الزنا والفاحشة لثبوت الأمراض أو الفضيحة المتعلقة به .. فكل ذلك الترك يحتاج إلى نية ليحصل به الأجر والثواب.

 لم يكن سهلاً حتى على من سبقنا من الأمم ترك ما اعتادوه، والانقياد لأنبيائهم، قال تعالى:" مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ" (هود: ٥٣)، بل لقد كانوا من الذكاء وحسن الربط بين فعل المأمورات وترك النواهي والمكروهات، لدرجة أنهم قالوا لشعيب عليه السلام: "قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا " (هود: ٨٧).

 لقد كانت الهجرة الى المدينة عنواناً من العناوين البارزة لعبادة الترك .. ترك الوطن ومغادرة مسقط الرأس ابتغاء الثواب والأجر فعوض الله تعالى المهاجرين بصحبة الأنصار والسكن في خير دار وبناء دولة الأحرار مع النبي المختار .. وقد مضت الهجرة لأهلها فهنيئاً لهم .. ولكن بقي من معانيها مبدأ الترك لأجل الله، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" رواه البخاري.

 لقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك أمور، وبيّن لنا ثمرة هذا الترك وبركته، حتى يكون في ذلك حافزاً كبير لنا على ذلك، ومن الأمور التي حثنا على تركها:

١. روى الترمذي عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ: دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَىِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا" إسناده حسن.

٢. روى أحمد عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ: دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ" إسناده حسن.

٣. روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تركَ الكذبَ وهو باطلٌ بُنيَ لهُ في ربضِ الجنة، ومن تركَ المراءَ وهو محقٌّ بُنيَ لهُ في وسطِها، ومن حسُنَ خُلقُهُ بُنيَ له في أعلاها" إسناده حسن.

٤. أخرج السيوطي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن ترَكَ الخمرَ وهو يقدِرُ علَيهِ لأسقينَّهُ منهُ مِن حَظيرةِ القُدسِ" إسناده حسن.

 بل إن في الإسلام من أساليب الوقاية والاحتياط ما تجعل المسلم يترك المشتبهات خشية الوقوع في المحرمات، فقد جاء في السلسلة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حلالٌ بيِّنٌ وحرامٌ بيِّنٌ، وشُبُهاتٌ بين ذلك، من ترك ما اشتبهَ عليه من الإثمِ كان لما استبانَ له أتْركُ، ومن اجترأَ على ما شكَّ فيه أوشكَ أن يُواقعَ الحرام، وإنَّ لكلِّ ملك حمًى وإنَّ حمى اللهِ في الأرضِ معاصِيه أو قال: محارمه" إسناده صحيح على شرط الشيخين، وفي ذات السياق طلب منا النبي صلى الله عليه وسلم ترك ما نرتاب منه حين قال:" دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" رواه الترمذي وهو صحيح.

 إن في إتيان المعاصي والمنكرات تركٌ في الوقت ذاته للطاعات والخيرات .. وهذا الترك السلبي يجلب على أصحابه شؤماً ونكداً في الدنيا والآخرة، قال تعالى في شؤم ترك فضيلة ذكر الله في اللسان والسلوك:" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" (طه: 124).

 ومن المعاصي والمنكرات التي يجب علينا تركها على الرغم مما نجده من كُلَف وتضحية بالغة عند تركها وقد أدمنّا عليها .. حتى نجد عوضاً من الله تعالى في زماننا:

????أولاً: في المستوى السياسي:

١. ترك الحكم بغير ما أنزل الله والتحاكم لشريعة الله الحكيم "ومن أحسن من الله حُكماً لقوم يوقنون".

٢. ترك الموالاة لأعداء الله، والإلتفاف حول الكرام الطيبين، قال تعالى: "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ" (المائدة: 52).

٣. ترك تنصيب الضعفاء أو الخبثاء، والبحث عن الأقوياء الأمناء.

????ثانياً: في المستوى الاقتصادي:

١. ترك الربا والمعاملات المالية المحرمة.

٢. ترك نظام الضرائب المستنزِفة للفقراء، وتفعيل ركن الزكاة من جيوب الأغنياء، قال تعالى مؤكداً شرف ترك كبيرة الربا وبركة الصدقة والزكاة: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات".

٣. ترك صناديق النقد الدولية والمعونات الغربية، فهي صورة من صور الاحتلال الجديد.

????ثالثاً: في المستوى الاجتماعي:

١. ترك العادات والتقاليد المحرمة في أفراحنا وأتراحنا وعموم علاقاتنا.

٢. ترك الطبقية والعنصرية.

٣. ترك الإضرار بالبنات والزوجات، سواء أكان هذا الإضرار بمنعهن حقوقهن، أو بإطلاق الحبل لهنّ بلا حسيب ولا رقيب.

????رابعاً: في مستوى العلاقات والأفكار:

١. ترك الوظيفة والصحبة والجوار والموقع والشراكة والبيئة التي تؤثر فيك سلباً ولا تستطيع التأثير فيها إيجاباً.

٢. ترك فضول الكلمات والنظرات والإشارات التي تؤذيك في الدنيا والآخرة، ولا تنفعك.

٣. ترك المناهج والبرامج والمنابر والصفحات والمواقع والفضائيات والمجلات والروايات التي تسحبك إلى دائرة الشبهات، لتوصلك إلى مستنقع الشك والإلحاد.

وختاماً

إن أعظم ما يجده التاركون للمنكرات والمشتبهات بصورها ومستوياتها؛ تلك الحلاوة في قلوبهم، واللذة في صدورهم، والمتعة غير المسبوقة في حياتهم، لأجل مجرد أمتثالهم لأمر ربهم وهدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهنيئاً لهم .. ثم هنيئاً لهم .. وإن كان الأمر في ظاهره خسارة للموقع والصحبة والمؤانسة والمال والجهد وغيرها .. إلا أنه الربح الحقيقي .. كيف لا وقد سعدوا بمعونة الله تعالى لهم على عبادة الترك هذه .. وإلا فالإنسان أعجز من أن يترك ما اعتاد عليه .. لأجل ذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفعنا قائلاً: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" رواه مسلم.

وسوم: العدد 846