( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا )

وجمهور المفسرين على أن الآية نزلت في مشركي مكة ، وأنها نسخت بآية السيف في براءة .

ولعل إعمال مثل هذه الآيات المحكمات يستعيد حكمه حين يستعيد ظرفه . وقد ورد  في القرآن الكريم الأمر بالهجر الجميل ، والصبر الجميل ، والصفح الجميل ، والسراح الجميل ..ولا نظن أن حكم شيء من ذلك ينسخ بالكلية .

وحين نلحظ في هذه الأيام حالة التشظي والشقاق التي يعيشها المسلمون ، واللدد في الخصومة بل الفجور فيها التي يوغل فيها البعض منهم ممن ينحازون إلى صفوف أعداء الأمة ، من صهيوني ، وصفوي ، متعالين على دماء الملايين من المسلمين ، وأعراض الألوف من المسلمات ؛ ولا تنفع معهم ذكرى ولا تذكير ، ولا مراجعة ولا تحذير ، يحضر في هذا المقام حكم ترك اللدد واللجاجة والمبادأة بالعداوة والبغضاء ، والعياذ بالهجر الجميل ..

قال المفسرون : الهجر الجميل ، الذي يكون في الله ولله ،

وهذا شرط أول ، وعلى كل مسلم أن يتفحص قلبه ..

ثم الهجر الجميل يقتضي الصبر والإعراض والاعتزال ، فلا تنفع كثرة التذكير ، وقد علم الإنسان أنها ستفضي إلى المزيد من العداوة والبغضاء .

والهجر الجميل نوع من البراءة الصغرى ، لا ترد على الأذى بأذى ، ولا على التجريح بتجريح ، ولا على الاستفزاز باستفزاز ، ولا على تصعير الخد بتصعير خد ، ولا على الادعاء بادعاء ولا على الاستخفاف باستخفاف .. ،

الهجر الجميل أن تحفظ فتنشد :

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب  .. عني ولا أنت دياني فتخزوني

وفي سياق الهجر الجميل يكون من الحمق  الإمعان في الجهل بتكرار النصح الذي سيؤدي كل مرة  لاستعار نار العداوة والبغضاء .

الهجر الجميل أن لا ترد على عدوان المهجور بعدوان ، ولا على إساءته بإساءة ، ولا على تنمره عليك بتنمر ...بل تعلن براءتك منه ، وتدير ظهرك له،  ولا تضيع سهمك بالرمي عليه ..تنساه وما رضي لنفسه من ذلة وتبعية ، وانحراف عن الصراط .. تذكر قول امرئ القيس لفاطمة بنت عمه :

أفاطم بعض هذا التدلل ..وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

وإن تكن قد رابتك مني خليقة ...فسلي ثيابي من ثيابك تنسلِ

وأن تبادر أنت فتسل ثيابك من ثياب من يهون عليه دمك وعرضك ، ولا يؤلمه جرحك ، ويمد يد الوصل لعدوك يدعمه ويشد أزره ويكون مع عدوك لا معك في سرائه وضرائه ويجعلك خلف ظهره ، ودبر أذنيه ، ولا يزال ينال منك طعنة بصدر وأخرى بظهر كلما واتته فرصة لم يتأخر في انتهازها . وكأنه يقول بلسان الحال والمقال : أنت العدو ..

ولا يقيـم على ضيم يراد به .. إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته ..وذا يشج فلا يرثي له أحد

ومن الهجر الجميل أن تقول ، حين يصر بعضهم على العماوة والضلالة واتباع غير سبيل المؤمنين : سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين  ..

ونعم الهجر هجر يخصم اللجاجة ، ويقطع سبيل البغضاء والعداوة . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .  وعسى أن يجعل الله  بينكم وبين من هجرتم أو خالفتم  فيه وله ونصرة لشريعته، وانتصارا لعرض نبيه ، مودة .. ..والله قدير

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 905