ماذا يدور بخلد الإنسان المؤمن وماذا يحدث في وجدانه حين يتلو القرآن الكريم ؟

من المعلوم أنه لكل إنسان مهما كان خلد ووجدان ، أما الخلد والوجدان معا فيطلقان في اللسان العربي على النفس والقلب ، كما أن الخلد يطلق على البال ،  ويطلق الوجدان على قواه الشعورية الباطنية المتأثرة باللذة أوالألم ،ومركزها القلب . ويطلق القلب في القرآن الكريم على الحاسة العاقلة في قول الله تعالى : (( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب لا يعقلون بها )) . ومع هذا البيان من الله عز وجل، وهو الخالق المبدع العالم بأسرار الخلق ،لا زال البعض ينكرون أن تكون قلوبهم عاقلة.

ولمّا كان القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة المنزلة إلى البشرية حتى تقوم الساعة ،فقد ضمّنه الله عز وجل ما يغطي  جميع ما يمر به الناس من أحوالها لتستقيم حياتها الدنيا  الفانية، فتستقيم بذلك حياتها الأخرى الخالدة . ولقد تعبّد الله عز وجل الناس بتلاوة القرآن الكريم لحكمة يعلمها ، وقد يعلمون هم منها أمورا  ولكنهم يجهلون أخرى مما استأثر بعلمه هو سبحانه وتعالى . ولقد أمرهم بتلاوة القرآن الكريم في صلواتهم، وهي حال تكون مساعدة على استيعابه، وتأمله ،وتدبره لتنزيله عمليا وإجرائيا ،وكما أنه أمرهم بتلاوته خارج حال الصلوات أيضا لنفس الغرض، ولحكمة أخفاها عنهم فقال : (( فاقرءوا ما تيسّر من القرآن )) .

واليسير من القرآن الكريم يحدث في خلد قارئه ووجدانه أمورا غريبة عجيبة سنستعرض بعضا منها . وقبل ذلك نشير إلى أن كتاب الله عز وجل باعتباره الرسالة الخاتمة يتناول أمورا ماضوية ، وأخرى مستقبلية  لا زالت مغيبة ، وما بينهما أمور آنية بالنسبة للأحياء من الناس في كل فترة تاريخية .

والذي يتلو ما تيسر من القرآن الكريم ،لا يخلو من أن يمر بثلاثة أحوال وهي: إما استعراض أخبار الماضي أو استعراض أخبار المستقبل المغيبة أو استحضار أحوال آنية يمر بها . وخلال التلاوة يدور بخلده ووجدانه ما يلي :

فإذا  ما تعلق الأمر بأحداث الماضي ،فهو يسرح بوجدانه في تخيّلها حسب قدرته على التخيل ، وقد يخالط تخيله لتلك الأحداث شيء مما راكمه من  مدارك وتجارب سابقة  أو ما لقن له من معلومات، فيسقط ذلك عليها دون  إمكان إدراكها على حقيقتها كما وقعت ، ويكون نصيبه من تخيل  أحداث الماضي على قدر رصيده من فهم لغة القرآن الكريم، و فهم بلاغته وأساليبه ، وعلى هذا القدر من الفهم يزيد ذهنه قربا من  تخيل تلك الأحداث .

ومع دخول فن السينما حياة الناس في زماننا ، وهو فن يحاول أصحابه  تقديم أحداث الماضي بصور من أخيلتهم الخاصة التي تؤثر في كثير من الناس وهم يقرءون القرآن المستعرض لأحداث الماضي  بتخيلهم صورا متخيلة لها في خيال  فن السينما ، وهو أمر لم يكن له تأثير على أخيلة من كانوا قبل ظهور هذا الفن وإنما  كانوا يعتمدون على ما يقع في خلدهم أو وجدانهم من تخيل لأحداث الماضي التي سردها القرآن الكريم باعتماد فههم لتصويره . ولا شك أن ما يقدمه فن السينما من صور متخيلة لتلك الأحداث يشوش على قراء القرآن الكريم ، ويحدّ من آفاق تخيلهم . فعلى سبيل المثال تصور الأفلام التاريخية العربية خلال فترة النبوة بأخيلتها، فتقدم على سبيل المثال كفار قريش بهيئات وأشكال مستقبحة تتقزز منها النفوس ،وهي مما  توحي به  صفاتهم وأعمالهم القبيحة  الواردة في القرآن الكريم ،مع أنه من الممكن أن هيئاتهم وأشكالهم كانت مخالفة لصفاتهم وأعمالهم، ولكن خيال السينمائي  يجعلها متطابقة ،لأن وجدان وخلد المشاهدين يقبل ذلك، ويستسيغه ،وهو ما يؤثر عليهم حين يستعرضون أحداث كفار قريش  وهم يتلون القرآن الكريم. ولا ندري كيف كانت صور وهيئات كفار قريش عند قراء القرآن الكريم قبل ظهور فن السينما؟ مع ترجيح أنها كانت كأشد ما يكون القبح ، وقد نسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله قوله  :

وكالأفلام التاريخية في البلاد العربية الإسلامية ،الأفلام التاريخية في غيرها من البلاد غير الإسلامية، خصوصا تلك التي تصور أحداث ورد ذكرها في كتاب الله عز وجل كقصة موسى عليه السلام حيث لا يستطيع من شاهد الفيلم المصور له أن يتخلص من تأثير الخيال السينمائي في خلده ووجدانه .وقد لا تغادره صورة الممثل الذي مثل نبي الله موسى عليه السلام ،وهو يقرأ أخباره في كتاب الله عز وجل ، ولهذا ينتقد علماؤنا تشخيص الأنبياء سينمائيا حتى لا يؤثر ذلك فيما يتخيلونه أنهم كانوا عليه من صور وصفات حين يتلون القرآن الكريم . ولقد تأثر كثير من المسلمين بما قدمته السينما الإيرانية  على سبيل المثال عن نبي الله يوسف عليه السلام مع أن من مثل دوره لن يبلغ شيئا من وصف القرآن الكريم له إذا قال الله تعالى : ((  فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم )) .ولو رأت تلك النسوة صورة من مثّل  دور يوسف عليه السلام في الفيلم الإيراني لما قطّعن أيديهن ولما قلن إنه ملك كريم لأنه لا حسن له يدعو إلى القول بأنه ملك كريم .وكان الله في عون امرأة العزيز وصويحباتها .ولو أن نساء هذا العصر رأين يوسف عليه السلام لقطّعن أيديهن وأرجلهن وأعناقهن أيضا، خصوصا وأن بعضهن ينتحرن بسبب ممثل أو مغن قد يكون من الشواذ المثليين .

ومما يؤثر في قرّاء القرآن الكريم ما تصوره الكاميرات في هذا الزمان من كوارث طبيعية ،فيسقطونها على ما جاء في كتاب الله عز وجل من أوصاف لأنواع من العذاب كان يسلطه سبحانه وتعالى على أقوام بائدة من الكافرين ، فيظن أن الطوفان، والريح العاتية ،والخسف، والصيحة... مما جاء في القرآن الكريم  من أنواع العذاب كل ذلك يشبه ما تلتقطه عدسات الكاميرات ، والواقع أن ذلك مجرد توهم لأن وصف الله عز وجل لتلك الأنواع من العذاب فوق ما يتصوره الناس وما يتخيلونه  في هذا الزمان .

وكما يعتمد قرّاء القرآن الكريم على  تخيل الأحداث الماضوية في القرآن الكريم بالاعتماد على ما يعلق بأذهانهم مما يعرضه عليه الخيال السينمائي ، فإنهم يتخيلون الأحداث المستقبلية المغيبة بنفس الطريقة ، فيرون أحداث الساعة المهولة المرعبة بعين الخيال السينمائي ، وهي  في الحقيقة فوق ما يمكن أن يبلغه خيال إنسان مجنح الخيال ، وبنفس الخيال يتخيلون عذاب جهنم، وهو مما لا يستوعب حجمه خيال بشري .وقد تسرح أخيلتهم  أيضا في تخيل نعيم الجنة ، فيقيسون حدائقها ، ومياهها، وقصورها، وما فيها من متاع ...على حدائق ومياه الأرض وقصورها وما فيها من متاع الدنيا ، وقد يؤثر فيهم أيضا  ما يقدمه لهم الخيال السينمائي ، والحقيقة أنه ليس بإمكانهم تخيل ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الأثر .

 هذا ما يتعلق بالتخيل المتعلق بما يسرده القرآن الكريم من أحداث الماضي  وأحداث المستقبل المغيب ، أما ما يحدث لقراء القرآن الكريم على مستوى المشاعر فهو كالآتي :

ـ إن قراء القرآن الكريم من المؤمنين به كوحي منزل لا تخلو أحوالهم النفسية من أن تكون إما رهبا أو رغبا ، ذلك أنهم حينما يستعرضون ما فيه  من صور النعيم في الآخرة تسيطر عليهم  مشاعر الرغبة ، وحينما يستعرضون ما فيه من صور الجحيم يصيبهم الرعب  ، وهم في ذلك بين خوف ورجاء ، ولذلك تعبّدهم الله عز وجل بتلاوة ما تيسر من كتابه الكريم . واليسير منه قد يجعلهم في حالة رهب أو في حالة رغب أو فيهما معا . والحالاتان معا هما الوازع  الذي يحملهم على الطاعة لخالقهم والانضباط  لأوامره ونواهيه . ومما يحصل نفسيا أيضا لقرّاء القرآن الكريم حين يستعرضون ما أعد الله عز وجل من نعيم لعباده المؤمنين المنضبطين لطاعته أنهم يستقلّون طاعتهم له، ويحتقرونها  قياسا بما يقومون به من أعمال ، فيخالط لديهم شعور الرغبة شعور الرهبة لما يقرّون به في قرارة أنفسهم من تقصير  في سعيهم لا يمكن أن يمكنهم من بلوغ ذلك النعيم . وهذا في حد ذاته حافز على مراجعة الذوات ، والاجتهاد في الطاعات على أن ذلك لا يجب أن يترتب عنه غرور بالظفر به أو يأس من بلوغه، فكلامها  شعورلا يحسن بمن يتلون كتاب الله عز وجل إذ لا بد من اعتماد كياسة تدين النفوس ، وتنكب عجز يجعلها تتمنى على الله دون سعي تسعاه .

ومما يحضر في خلد ووجدان قرّاء كتاب الله عز وجل ما ينسحب على حياتهم من أحوال وأوضاع ...مما ليس من الأحداث الماضوية أو الأحداث المستقبلية المغيبة ، فهم حينئذ يحرصون على التموقع المناسب فيها ، وهي أقرب إلى الواقع الملموس  في خلدهم ووجدانهم من المتخيل، ذلك أن العبادات  والمعاملات التي تعبّدهم بها الله عز وجل يحاولون ترجمتها إلى واقع ملموس معيش كل على قدر اجتهاده في ذلك دون أن يقر في نفوسهم أنهم قد استنفدوا الجهد في  ذلك الاجتهاد عبادة ومعاملة .  ولهذا تعبّدهم الله عز وجل بتلاوة ما تيسر من كتابه الكريم والمواظبة على ذلك حتى لا تحصل منهم غفلة أو سهو أو تراخ أو تقصير ، ذلك أنه على قدر معاشرة القرآن الكريم، تكون طاعة الله عز وجل ويكون الانضباط  لما تعبد به عباده  .

وكل تلاوة لكتاب الله عز وجل لا تحدث أثرا في الخلد والوجدان لا فائدة فيها، ولا طائل يرجى منها بل هي مجرد لوك لآياته مع غفلة الخلد والوجدان، وربما سرحا معا بعيدا عن أجواء القرآن الكريم ، وخاضا في أجواء هموم الدنيا الفانية، فيفوت حينئذ على قارىء القرآن الكريم ما أراده الله تعالى من وراء تلاوته  له .

وسوم: العدد 905