( إنما يخشى الله من عباده العلماء )

من المعلوم أن الله عز وجل قد أحاط الإنسان بنعم  كثيرة لا حصر لها تعدّد ولا تعدّ مصداقا لفوله عز من قائل : (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) . ومن أعظم تلك النعم نعمة العقل الذي جعل الإنسان مكرما ومفضلا على كثير ممن خلق الله تعالى تفضيلا ، وهو ملكة تزوده بالعلوم والمعارف التي توصله إلى حقيقة وجوده في هذه الحياة الدنيا ، وإلى معرفة خالقه سبحانه وتعالى  ومعرفة ما خلق وما برأ في هذا الكون الفسيح ... إلى غير ذلك مما لم يكن يعلم .

ولقد تكرر ذكر هذه الملكة في كتاب الله عز وجل عدة مرات بألفاظ مختلفة منها اللب ،ويجمع على ألباب ،كما جاء في قوله تعالى : (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) ، والنهية  وتجمع على نهى ،  كما في قوله تعالى : (( إن في ذلك لآيات لأولى النهى ))، والقلب ويجمع على قلوب كما في قوله تعالى : (( لهم قلوب لا يفقهون بها )) ، ولم ترد كلمة قلب كاسم في كتاب الله تعالى، ولكن دل عليه فعله كما في قوله تعالى : (( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )) ،وقوله أيضا : ((  أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها )) ، وفي هذه الآية اقترن  ذكر الفعل الدال على العقل بذكر القلب .

ولا يذكر أولي الألباب أو النهى أو القلوب التي تفقه أو تعقل في كتاب الله عز وجل إلا في معرض التنويه بهم، والسر في ذلك أنهم أصحاب علم حصّلوه بعقولهم ، فأوصلهم إلى أكبر الحقائق ،والتي على رأسها  حقيقة وجود الخالق سبحانه وتعالى الذي لا تدركه الأبصار وهو يدركها ، ولكن تستدل العقول على وجوده بالأدلة التي يقدمها لها في السفرين المقروء ، والمشهود  على حد سواء .

والعقول البشرية تصل إلى المعرفة أو العلم بحقيقة وجود الخالق سبحانه وتعالى وما يترتب عنها من حقائق أخرى إما بالنظر في السفر المقروء، وهو كتاب الله عز وجل أو الكتب السابقة عليه ، وإما بالنظر في السفر المشهود ،علما بأن السفر المقروء يحيل العقول على النظر في السفر المشهود لتحصل لها المعرفة والعلم .

ومما وصف به الله عز وجل في محكم التنزيل أولي الألباب مشيدا بهم أنهم علماء لما وفقهم إليه من إعمال عقولهم لتحصيل المعارف والعلوم ، ولم يسوّهم بمن لا ينهج نهجهم ، ولا يتبع طريقتهم في استعمال العقل في قوله عز وجل : (( قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون )) ،وهذه الآية تدل على تفضيل  الله عز وجل من يعلم على من لا يعلم ، وفي هذا دليل على عظمة نعمة العقل ، ذلك أن تعطيل الإنسان له يجعله ينحدر إلى درجة الأنعام أو أضل كما قال الله تعالى : ((  أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا )) .

ومن صفات أولي الألباب العلماء خشية الله عز وجل كما جاء في الذكر الحكيم : ((  إنما يخشى الله من عباده العلماء )) ،وقد جاء هذا الوصف في معرض الحديث عمّا خلق الله تعالى من مخلوقات مختلفة الألوان في النوع الواحد ،وفي الجنس الواحد ، وهو دليل على عظمته وقدرته  سبحانه وتعالى .

  والخشية المقصودة في قوله تعالى هي نوع من الخوف يكون سببه تعظيم  الخالق العظيم سبحانه وتعالى وإجلاله ومهابته ، وقد  ميّز الله تعالى بين خشيته ، وخشية غيره من الخلق فقال : ((  ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ))  ، فشتان بين خشية الله تعالى عند  أولي الألباب من العلماء  ، وخشية  الناس أو غيرهم من المخلوقات عند من لا علم لهم  ممن يعطلون عقولهم ، ويخضعون لأهوائهم .

ومعلوم أن الذي بوّأ العلماء مرتبة خشية الخالق سبحانه وتعالى ، وهو من  توفيقه لهم استعمال عقولهم الاستعمال الصحيح ، وهو ما يبلّغهم العلم والمعرفة الصحيحين به ، ومن ثم الاستقامة له كما ينبغي لا يعصون له أمرا  أمرهم به ، ولا يتجرؤون على نهي  نهاهم عنهم بل قولهم  كما جاء في الذكر الحكيم  : (( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا أولئك هم المفلحون )) ، وهذه هي الترجمة الفعلية أو الإجرائية لخشية الله تعالى أو هذا هو الحال المقابل للمقال ، ذلك أن شتان بين من يدعي خشيته سبحانه وتعالى لكنه حين يدعى إليه جل جلاله ليحكم  عليه أو ليحكم بينه وبين غيره لا يسمع ،ولا  يسلّم ويطيع بل يطيع هواه ، وهذا هو الذي قال فيه الله عز وجل : (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه بعد الله أفلا تذّكرون )) .

إن الذي يتبع هواه إنسان لا يعمل عقله أو يشغله كما أراد له  ذلك خالقه سبحانه وتعالى ، بل يعطله فيختم عليه ،  وحينئذ لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل ، ومن ثم لا يهتدي سبيلا .

وكثير من الناس يزعمون أنهم يخشون الله عز وجل ولكنهم طوع أهوائهم حين يدعون إلى الله عز وجل ليحكم بينهم بل أكثر من ذلك يتجاسرون على حكمه بجعل حكم أهوائهم محل حكمه أو فوقه  تعالى عما يفعلون ، وهؤلاء قد حذرهم جل وعلا بعقوبات فقال : ((  فليحذر الذين يخالفون عن أمره  أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) و إذا كان الضمير في الآية يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن طاعته من طاعة الله عز وجل لقوله تعالى : (( من يطع الرسول فقد أطاع الله )) .

وكل من عرض له  في حياته  أمر أو قضاء أو حكم قضى به الله عز وجل ورسوله، فأعرض عنه أو  تجاهله أو خالفه  أو لم يرض به مطاوعا بذلك هواه ،فإنه يعرض نفسه لما توعد به الله تعالى المخالفين عن أمره أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهو إما فتنة أو عذاب أليم . وقد تنزل الفتنة أو العذاب بالإنسان فيرده إلى أسباب لتبريرها دون أن يسائل نفسه عمّا إذا كان السبب هو مخالفته أمر من أوامر خالقه سبحانه وتعالى  استهان به أو سوّلت له نفسه ذلك مطاوعا هواه ومقدمه على شرع مولاه .  

ومما يوقع الإنسان في مطاوعة هواه تعطيل عقله، فتحل بذلك الخرافة والوهم  محل العلم والمعرفة ، وكفى بذلك فتنة يفتن بها ، وعذابا يعذب به ، وقد تفضي به ذلك  إلى ما لا تحمد عقباه ، فتحل عنده  خشية المخلوقات محل خشية الله تعالى الواجب الخوف منه  تعظيما وإجلالا وتقديرا وتوقيرا .

مناسبة حديث هذا الجمعة هو حلول الموسم الدراسي الجديد الذي هو موسم علم ومعرفة ، ومن ثم هو موسم إعمال وتشغيل عقول الناشئة المتعلمة الإعمال والتشغيل الصحيحين من أجل علم ومعرفة صحيحين يفضيان بها إلى التنشئة الصحيحة التي يكون قوامها خشية الله تعالى من خلال الانضباط لما شرع وما قضى وما حكم ، وهو الهدف المفقود في منظومتنا التربوية مع شديد الأسف والحسرة والألم حيث صرنا أمام ناشئة متعلمة زادها من التربية الإسلامية صفر فلا أقوالها ولا أحوالها تعكس شيئا من هذه التربية التي أمر بها الخالق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل ، وبلغها عنه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته المشرفة . ويكفي أن نستعرض مشاهد مما يتناقله الناس  عبرسائل التواصل الاجتماعي  من أحوال أو أقوال الناشئة المتعلمة ، أو مما يعاينونه منها  بأمهات عيونه في محيط المؤسسات التربوية أو حتى داخل فصولها أو في الشوارع لنقف على ما آل إليه أمر التربية الإسلامية التي حلت محلهاالتربية الفاسدة المنحرفة المترتبة عن تعطيل الآباء وأولياء الأمور عقولهم في تنشئة أبنائهم وبناتهم ، ومن ثم انتقل تعطيلها إلى هذه الناشئة التي هي في حكم الضائعة في هذا الزمان الغريب  . ومما زاد في ضياعها أن المقررات الدراسية أصبحت خالية من التربية على مبادىء وقيم وأخلاق الإسلام ، وهو ما تدعو إليه الجهات الفاسدة المفسدة ، وتستغله لإفساد تربية  الناشئة التي صارت ضحية فساد أخلاقي غير مسبوق يسوق تسويع السلع ، ويستهلك استهلاكا غير مسبوق أيضا.

وما لم يتدارك الآباء وأولياء الأمور والمربون هذه الناشئة الضحية ، فإن الخسارة ستكون فادحة ، والندم سيكون شديدا ولات حين مندم .

اللهم تداركنا وتدارك أبناءنا وبناتنا بألطافك الخفية ، ورد بنا إلى هديك وهدي رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام  قبل أن نذل ونخزى . اللهم ارزقنا خشية عبادك العلماء ، واهدنا واهدي أبناءنا وبناتنا إليها ، فإنه لا يهدي إليها إلا أنت سبحانك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 949