أيّها العلماء ويا طَلَبَة العلم

كلامي لعلماء الشرع وتلامذتهم، وإن كان يناسب كذلك المشتغلين بالعلوم الأخرى.

مَن هيّأ اللهُ له علماً فقد وضع في عنقه مسؤولية تُكافئها. وسنذكر أهم الصفات التي ينبغي لأهل العلم أن يتّصفوا بها، ونجعل ذلك في مجموعة من الزُّمَر، وإن كانت هذه الصفات متداخلة، وبينها وشائج لا تخفى.

الزمرة الأولى من الصفات هي الإخلاص لله تعالى وابتغاء وجهه. فالعلم هو، قبل كل شيء، خشية لله وطهارة للباطن. ألم يقل الله تعالى: (إنّما يخشى اللهَ مِن عباده العلماء)؟. ويتفرّع عن ذلك أن يحبّ العالمُ الخير لإخوانه وأقرانه وللمسلمين جميعاً، وينصح لهم، لوجه الله، وليس للتشهير بهم.

ويتفرّع عنه كذلك أن يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، فإنْ وجد نفسه دون ذلك، أو رأى أن تجنُّبَ الصدام مع الظالمين أيسر عليه أو أنفع لدعوته، والله حسيبُه، فلا أقلّ من أن يمتنع عن مديح الظالمين وتملّقهم والتزلف إليهم وتسويغ جرائمهم...

وما أجمل ما قاله القاضي علي الجرجاني:

ولو أنّ أهلَ العلمِ صانوه صانهم     ولو عظّموه في النفوس لعُظّما

ويتفرّع عنه أن يكون طلب الحق والصواب هو دأبه، وليس الانتصار لرأي رآه أو لمذهب اتّبعه، فضلاً أن يكون انبهاراً بقيم الجاهلية وثقافة الغرب... فيأتي ليطوّع نصوص كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بما يوافق تلك الآراء والقيم.

ويتفرّع عن ذلك، بل يتقدّم عليه، أن يكون تحصيله العلم تقرّباً إلى الله تعالى، وطلباً لرضوانه، وليس طلباً للدنيا والرياء والعُجب وحبّ الرئاسة... وقد روى الإمام مسلم في ذلك حديثاً في صحيحه، وفيه: "إنّ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه... ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن. فيُقال له: ولكنّك تعلّمتَ العلم ليُقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليُقال: قارئ، فقد قيل".

والزمرة الثانية: أن يتخلّق بأخلاق أهل العلم، وأن يعمل بما عَلِمَ، فيتّصف بالحلم والسماحة وعفّة اللسان وطهارة القلب واستقامة السلوك، والدأب في القراءة والبحث، والاستفسار عما أشكل عليه، والتواضع لمن علّمه... ولا يستنكف عن قوله: لا أعلم، إذا لم يعلم حكم الله تعالى في مسألة، أو لم يعلم تفسير آية أو توثيق حديث نبويّ أو تأويله...

والزمرة الثالثة: أن يتحرّى الحكمة فيما يتعلّم ويُعلّم، فيبدأ بمعرفة كل علم من علوم الدين بحدّه الأدنى أو فوق ذلك، ثم يتابع التعمّق في بعض هذه العلوم، والازدياد من كل علم نافع، وليقل: (ربّ زدني علماً). وقد جاء في الأثر: منهُومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها. [ورد هذا موقوفاً على بعض الصحابة، كما أن الإمام الحاكم رواه مرفوعاً وصحّحه، ووافقه الذهبي].

وإذا صار عالماً في علم منها فلا يقلّل من شأن علمٍ آخر، وعندما يتصدّى لتعليم بعض الطلبة فلْيراعِ قُدراتهم، ويتدرّج معهم من السهل إلى الصعب، ومن المحسوس والملموس إلى المجرّد والمعقول، ويُنبّههم إلى أخطائهم العلمية بأدب ولطف ورفق، ويزجرهم عما يبدر عنهم من سوء خُلق، ويرفُق بهم... ويتكلّم عن الأئمة بإكبار وإجلال ولو نقل عنهم ما يخالفهم فيه، ويوسّع صدره لمسائل الخلاف، وما أكثرها، فلا يسفّه رأياً لإمام ولا يحقّره، وإنما يكتفي بالقول: ونرى أن القول الآخر أرجح وأقوى بدليل كذا وكذا...

ولْيذكرْ في ذلك كله ما رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغُه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". وما رواه الإمام البخاري عن علي رضي الله عنه: "حدّثوا الناس بما يعرفون. أتُحبّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!". وما رواه أبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي في الشُّعب عن عائشة رضي الله عنها: "أمَرَنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نُنزِلَ الناسَ منازلهم".

وحبّذا لو قرأ كلٌّ منّا كتاب "جامع بيان العلم وفضله" للإمام ابن عبد البرّ، ففيه فوائد جمّة وتوجيهات سديدة للعالم وطالب العلم.

وسوم: العدد 954