( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا )

من المعلوم أن الله عز وجل تعبّدنا بعبادات واجبة مفروضة يؤجر عليها  فاعلها ،ويعاقب معطلها ، ورغّبنا في الاستزادة منها تطوعا لمزيد من الأجر والثواب تكرما وجودا منه سبحانه وتعالى . ومن العبادات التي تعبّدنا بها عبادة الإنفاق ، ،ففرض علينا الزكاة ، ورغبنا في إنفاق التطوع ليكون دأبنا على الدوام  ، ولا يقتصر على وقت دون آخر لأن المحاويج في حاجة إليه كل وقت وحين .

وإذا كان عبادات الصلاة، والصيام ، والحج تصل المصلين والصائمين والحجاج  بربهم  مباشرة ، ولا يرتبطون فيها ببعضهم إلا ما يوجبه أداؤها توقيتا ومكانا ، فإن عبادة الإنفاق وإن كانت هي الأخرى تصلهم به  سبحانه وتعالى ، فإنها تربط المنفقين منهم بالمحاويج ، وهو ما يجعل الأواصر والعلاقات تتوثق فيما بينهم ، وتشيع بينهم المودة ،والمحبة ،والتراحم ، ويكون مجتمعهم خاليا مما يعكر صفو أمنه وسلامه بسبب تفاوت في الأرزاق  بحيث تكون دولة بين موسريهم دون محاويجهم .

وأفضل إنفاق التطوع هو  إطعام الطعام على حبه ،والنفوس تشتهيه، وليس لها منه إلا من تدفع به جوعها ، وهو حين حينئذ لا يقدر بثمن، وإن كان بسيطا لشدة الحاجة إليه سواء عند من يعطيه أو عند من هو أشد حاجة إليه منه . ولقد صور القرآن الكريم هذا النوع من الإنفاق ، وأشاد الله عز وجل بفاعليه  في قوله عز من قائل : (( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ))  ، ففي هذه الآية الكريمة ذكر لأفضل الإنفاق على الإطلاق  مع تحديد المحاويج الذين يقدم لهم، وهم المساكين، والأيتام والأسرى ، أما المساكين فهم الذين يعانون من فاقة تلازمهم إما لانقطاع سبل الكسب بهم أو لعجزهم عن ذلك ، وأما اليتامى فيكونون عرضة للمسكنة بموت من يعولهم ، وأما الأسرى فهم في حكم من لا سبيل لديهم للكسب ، ويدخل تحت هذا الصنف العبيد زمن كانت العبودية ، وأسرى الحروب ، ومن في حكمهم ممن يكون وضعهم مشابها  وذلك بانقطاع سبل الكسب بهم .

ومما يجعل هذا النوع من الإنفاق أفضل أنواع الإنفاق فضلا عن كون المنفقين يطعمون غيرهم ما هم في أمس الحاجة إليه ، هو أنهم لا ينتظرون ممن يستفيدون منه جزاء ، ولا شكورا  بل يحتسبون أجره عند الله عز وجل ، وهو أجر مضاعف لأنه  أجر  على ما أنفقوا ، وأجر على  الصبر عليه وهم في أمس الحاجة إليه . ومما ردف هذه الآية الكريمة قوله تعالى على لسان المنفقين الطعام على حبه : (( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسرورا ))  ، ففي هذه الآية الكريمة ذكر للنية التي كانت للذين يطعمون الطعام على حبه ، وهو الخوف من يوم القيامة ، اليوم العصيب أو العصبصب ،و القمطرير أوالقماطر ، وهو شديد  لما فيه من هول عظيم إذ يشيب فيه الولدان ، وتضع فيه كل ذات حمل حملها ، ويكون الناس فيه سكارى وما هم بسكرى . ولقد وعد الله تعالى من كانت هذه نيتهم حين يطعمون الطعام على حبه أن يقيهم شر ذلك اليوم العظيم ، وأن يجعل  لهم  حسنا وجمالا أو نضرة تكسو وجوههم ، ويغمر قلوبهم بسرور أوحبور يلازمهم  ولا انقطاع له  ، ويسكنهم نعيم الخلد المقيم .

إن مطعم الطعام على حبه  قد لا يخطر له على بال أن الله عز وجل قد ادخر له أعظم أجر حيث يؤمّنه من خوف يوم  عصيب ،وهو يوم  أكبر فزع على الإطلاق ثم يكسو وجهه حسنا وجمالا ونضارة  مع النظر إلى وجهه الكريم الذي يزيده بهاء  وحسنا ، ويسكن قلبه السعادة الأبدية ، وهذا ما يحدو مطعم الطعام أن يطعم مما يشتهيه لنفسه ، ولا يكون له سواه  بنية عتق نفسه من اليوم العبوس القمطرير ودون انتظار جزاء أو شكور ممن يطعمهم ، وليس هذا شأن من يطعم مما يزهد فيه من طعام أو مما يفضل عنه ، أو  ينتظر جزاء وشكور من يطعمه.

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير للمؤمنين بأهمية عبادة الإنفاق ونحن  في فترة غلاء المعيشة ، وعلى موعد قريب من شهر الصيام ، وهو شهر نذوق فيه ما يذوقه المحاويج من جوع لا نعرفه طيلة أيام السنة ، وحري بذوقنا له أن نلتفت إليهم، ونحس بهم ، ونشفق عليهم خصوصا وأن الله تعالى جودا منه قد جعل الأجر مضاعفا في شهر الصيام بما فيه أجر الإنفاق ، لهذا كان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أجود الناس أكثر جودا  في هذا الشهر العظيم لعلمه بعظيم أجر الإنفاق فيه .

ولا يمكن أن ندرك أجر الوقاية من اليوم العبوس القمطرير ، وأجر نضارة الوجوه، وسرور الأفئدة إلا إذا أنفقنا مما نحب ونشتهي خصوصا وقد تزامن شهر الصيام مع فترة الغلاء ، وقد دأب الناس  فيه على عادة اقتناء ما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة  يستأثرون بها ، ولا يؤثرون على أنفسهم المحاويج وهم أشد اشتهاء لها .  وعلينا أن نعقد صفقة رابحة  مع الله تعالى في هذا الشهر العظيم  بموجبها نطعم الطعام مما نشتهيه  وعلى حبه المحاويج  دون أن يفسد ذلك منا  رياء رغبة في سماع الشكر والثناء ، ومع سبق  صدق نية  ابتغاء وجه الله تعالى والخوف من اليوم العبوس القمطرير.

اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا ما بقي من أيام شعبان ، وأن تبلغنا جودا منك شهر رمضان ، وتباركه لنا ، وتوفقنا لصيامه وقيامة والإنفاق فيه على الوجه الذي يرضيك ونرضى به عنا . اللهم وفقنا لإطعام الطعام على حبه ، ونسألك الوقاية من الرياء في ذلك ، ونسألك وقايتك التي وعدت بها المطعمين الطعام على حبه من شر اليوم العبوس القمطرير ، ونسألك نضرة الوجوه ، ومسرة القلوب يا أكرم كريم ، ويا أرحم رحيم .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

تنويه :

 لقد وقعت أخطاء مطبعية في الإرسال الأول المرجو اعتماد هذا الإرسال وجزاكم الله عنا كل خير.