( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )

من المعلوم أن الله عز وجل قد عدّ ،وعدّد من صفات عباده المؤمنين في محكم التنزيل مشيدا بها ، وذلك  لحثهم على التخلق بما رضي لهم من مكارم الأخلاق . وحري بمن استعرض تلك الصفات أن ينشدها ، ويجتهد في بلوغ شأوها .

ومن أعظم تلك الصفات صفتان تدلان على شرف النفس ، وقوة العزيمة ، وهما فضيلتان قد وردتا في سياق الإشادة بفضائل المفلحين عند ربهم عز وجل حيث قال : (( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )) . أما الأمانة فتكون في الغالب  مما يخشى ضياعه لأهميته أو نفاسته  مهما كان نوعه ، فيودع عند من يؤتمن عليه ، ويوثق به ، وبرد ما استودع عنده ، ويكون الله عز وجل شاهدا عليه . وأما العهد ، فهو التزم بين طرفين  أو أطراف يحرصان  أو يحرصون على حفظه ، ويكون الله عز وجل شاهدا عليه أيضا.

والله تعالى أشاد بأصحاب هاتين الفضيلتين في هذه الآية الكريمة مع أنهما مما أمر بهما عباده المؤمنين وافترضهما عليهم ، وألزمهما بهما ، وهما موضوع مساءلة بين يديه يوم القيامة . ويفهم من الإشادة بهما أنها تأكيد لأمره سبحانه وتعالى بالتخلق بهما .

وما حرص الله عز وجل على الأمانة والعهد إلا لأنهما معرضتان للضياع ،ذلك أن الأمانة إذا كانت ثمينة وذات قيمة أو نفع كبير قد تغري المؤتمن عليها بعدم رعايتها وحفظها ، فيضيعها ، ويكون ذلك بعدم ردها إلى من ائتمنه عليها متعمدا ذلك ،ومصرا عليه ، كما أن العهد قد يحدث ما يغري المعاهد بنقضه لوجود مصلحة له  فيه . وبتضييع الأمانة، ونقض العهد، وهما سيّان في الأهمية ، وذلك لوجود الله عز وجل شاهدا على المؤتمنين والمعاهدين  .

والأمانة والعهد وهما كما يقال صفحتان لورقة واحدة أو وجهان لعملة واحدة  نوعان : أمانة وعهد لله تعالى  في أعناق الخلق ، وأمانة وعهد للخلق في أعناق بعضهم البعض ، والله عز وجل شاهد عليهم فيهما معا .

ولقد ذكر الله تعالى في محكم التنزيل الأمانة الكبرى التي طوق بها أعناق الخلق  فقال : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) ، وما أبت هذه المخلوقات العظيمة حمل هذه الأمانة والإشفاق منها ، والخوف من عدم رعايتها حق الرعاية  إلا لعظيم شأنها ، وهي أمانة العبودية لله تعالى بما تعنيه هذه الكلمة من خضوع له ، ورعاية لحدود حدّها سبحانه وتعالى للناس قوامها أوامره ونواهيه ،وهي موضوع امتحانهم وابتلائهم في حياتهم الدنيا . وهذه الأمانة العظمى هي في نفس الوقت عهد تعهد به الإنسان لخالقه يوم خلقه كما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى : (( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الله عز وجل قد أخذ عهدا من بني آدم بألا يعبدوا إلا إياه  ، وقد أقروا له بالألوهية والربوبية  وبخلقه سبحانه وتعالى لهم ، وهو أعلم  جل شأنه بالكيفية التي حصل بها أخذ هذا العهد عليهم ، والذي يؤكده قوله تعالى : (( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين .... الآية )) ، ولا أعذار ولا ذرائع  لما عاهدوا ونقضوا العهد .

وتأتي بعد هذه  الأمانة العظمى  التي قلدها الله تعالى بني آدم ،و هذا العهد الغليظ الذي عاهدوه عليه باقي الأمانات والعهود التي تكون فيما بينهم خلال معاملاتهم المختلفة ، وهم يختبرون فيها ويمتحنون ليحاسبوا على ذلك بين يدي خالقه يوم القيامة .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير للمؤمنين بأمانة تقلّدوها ،وعهد  تعهدوا به وألزموا به أنفسهم وقد لزمهم  خلال شهر الصيام ، وهو طاعة الله عز وجل ، والاستمرار فيما ما كانوا عليه خلال هذا الشهر الفضيل من طاعة ، واستقامة ، وما التزموا به من توبة نصوح مقابل غفرانه سبحانه وتعالى ما تقدم من ذنبهم . ولقد كانوا يسألون ربهم أن يبلغهم رمضان ، وليلة القدرالمباركة ، وأن يعتق رقابهم من النار ، ويعفو عنهم ، ويغفر لهم ما تقدم من ذنبهم ، وهم بذلك يعاهدونه  عهدا غليظا على توبة نصوح ، وإنه من العبث أن يعودوا إلى ارتكاب المعاصي والذنوب والخطايا وقد غفر الله تعالى لهم ، وهو الذي لا ينقض له عهد،  ولا يخلف  له وعد  .

وعلى المؤمنين أن يستحضروا العهد الذي عاهدوا عليه ربهم وهم صيام وقيام ، وألا ينقضوه ، وقد أنجز سبحانه وتعالى ما وعدهم من مغفرة ، وعفو ، وعتق من النار.

اللهم إنا نسألك عونا منك لرعاية ما استأمنتنا عليه ، ولحفظ ما عاهدناك عليه جودا وفضلا منك  سبحانك لا إله سواك  . اللهم إنا نعوذ بك من تضييع أمانتك وأمانات خلقك ، ونعوذ بك من نقض عهدك ، ونقض عهود خلقك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 980