( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )

سبق لنا  أن ذكرنا في حديث سابق من أحاديث الجمعة أن الله عز وجل قد خصّ عباده المؤمنين بأوصاف ونعوت محمودة خصهم بها  مشيدا بهم  ، وقد ذكرنا بعض تلك الأوصاف  فيما مضى ، وسنواصل  إن شاء الله تعالى في حديث هذه الجمعة ذكر البعض الآخر منها ، لكن لا بد  قبل ذلك من ذكر ما حذر منه  الله عز وجل عباده المؤمنين من مولاة أهل الكتاب يهودا ونصارى من الذين كانوا يكيدون لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولرسالته الخاتمة للعالمين ليظل كتاباهما المحرفان مسيطرين وبلا منافس ، وليظل ما بهما من افتراء على  دين الله عز وجل وعلى شرعه هو السائد والمهيمن حيث قال : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ))  ثم ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يحمل من يوالونهم من المنافقين على مولاتهم بقوله : (( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم من النادمين )) وبعد ذلك مباشرة يسمي سبحانه وتعالى موالاة هؤلاء ردة ، ويحذر منها ، ويبشر من يتجنبها فيقول : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعز على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )) .

ففي هذا السياق يسوق الله عز وجل أوصاف عباده المؤمنين الذين لا يوالون أعداء دينه من أهل الكتاب  كما هو حال المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وأول تلك الأوصاف حب متبادل بينهم وبين خالقهم ، وهو شعور قلبي عندهم له مقابل عملي وإجرائي هو طاعته لأن المحب الحقيقي هو من يطيع حبيبه ، ولا يكتفي بالتعبيرعن ذلك بلسانه فقط . والمثير للانتباه أن الله تعالى جعل حبه لعباده المؤمنين سابقا لحبهم له ، وذلك من فضله  الواسع جل وعلا عليهم ، وبحبه لهم يهديهم إلى طاعته التي بها يستقيمون له استقامة على صراطه المستقيم، ويا سعادة من خصه الله تعالى بحبه بداية . وحب عباد الله له  إنما يكون بتلك الاستقامة وبتلك الطاعة . ومن حب عباده له جل وعلا أن يحبوا ما يحبه ، ومن حبه سبحانه لهم أيضا  أن يحبوا ما حببه لهم من إيمان ، ويكرهوا ما كرّهه لهم من كفر وفسوق وعصيان. ومما  كرّه لهم مولاة اليهود والنصارى حتى لا يكونوا مثلهم أويعتبروا منهم كما هو حال المنافقين المسارعين فيهم وهم يتذرعون في ذلك بمخافتهم من الدوائر، والحقيقة أنهم إنما يوالونهم محبة في  السير على نهج ضلالهم ، متابعة لهم في  حقدهم على دين الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين  .

ومن أوصاف القوم الذين يأتي بهم الله عز وجل كلما وقعت ردة من غيرهم عن دينه أنهم فضلا عن حبه سبحانه وتعالى لهم يهديه لهم إلى صراطه المستقيم ، ويكون بذلك حبهم له باستقامتهم على ذلك الهدي أنهم أيضا يتصفون بصفة  الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين ، وهما صفتان متلازمتان  مع أنهما متقابلان وعلى طرفي نقيض إذ الذلة على المؤمنين تقتضي بالضرورة العزة على الكافرين. أما الذلة على المؤمنين فعبارة عن شفقة وحنو عليهم تترجمهما المواقف ولا يكتفى بادعائهما وواقع الحال يكذبهما  ، وأما العزة على الكافرين فعبارة عن منعة واستقواء عليهم تترجمهما المواقف أيضا ،ولا يكتفى  بادعائهما ، وواقع الحال يكذبهما ، ولهذا يقول المثل العرب : " ليس من بكى كمن تباكي " .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما حذر منه الله عز وجل وسماه  ردة أو ما كان في حكمها مما لا ينتبه إليه أو ما يغفل عنه أو يستخف به  من قبيل  موالاة ما لا يحب الله عز أن يوالى ، ويحسب هينا وهو عند الله عز وجل عظيم.

وعلى المؤمنين أن يأخذوا بما جاء في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى  الله عليه وسلم أخذا جادا وإجرائيا ، ولا يكتفوا بادعاء التزامهم  بهما بأقوال دون أفعال ،لأن ذلك مما يجعل مقت الله عز وجل يكبر مصداقا لقوله عز وجل : (( يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) . وعلى كل من يدعي الانتماء إلى حظيرة الأيمان ، ويدعي حب الله عز وجل، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل نفسه التي لا يمكنه أن يكذب عليها أو يخادعها عن حقيقة حبه لهما ،ويقيس ذلك بذلته على المؤمنين، وبعزته على الكافرين ، وبجهاده في سبيل الله عز وجل ،وذلك ببذل كل الجهد في نصرة دينه . ومن حصل له شيء من ذلك، فليعلم علم اليقين أنه سبحانه وتعالى قد خصه بفضله العظيم ، ومن لم يجد في نفسه شيئا من ذلك، فليعجل بالإنابة إلى خالقه عسى أن يخصه بفضله الواسع العظيم ، ويجعل  له أول هذا الفضل محبة منه سبحانه وتعالى . ومن رضي بما يسخط الله عز وجل فلا يلومنّ إلا نفسه ، وقد حذره الله عز وجل نفسه .

اللهم إنا نسألك عطاء من فضلك الواسع العظيم  ، واجعل اللهم أوله حبا تحبنا به ، ونحبك به ، واجعلننا اللهم أذلة على عبادك المؤمنين، أعزة على أعدائك الكافرين ، وحبب اللهم إلينا بذل ما في وسعنا من جهد في سبيل نصرة دينك ، ونصرة عبادك المؤمنين ، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 981