ومضة نور من تاريخنا المجيد

تزخر كتب السيرة بالمآثر الجليلة ، والإنجازات العظيمة في مجالات الحياة العامة ، وفي حياة المجتمع خاصة ، فسير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسير التابعين ، وسير الآباء والأجداد الذين سطروا صفحات المجد ، وشهد لهم الناس بالفضل ، وبالأثر العظيم الذي تركوه . فرجال دعاة إلى مافيه خير البشر ، ورجال أبطال رهبان في الليل فرسان في النهار ــ كما يصفهم الناس ــ في حين جاءت تعاليم الإسلام واضحة جلية ، في بيانها وفيما أعد الله للعاملين بها من الثواب والمكانة العالية عنده سبحانه وتعالى . والسر في ذلك ــ وهو ليس بسر ــ أن القرآن الكريم والسُّنة الشريفة فيهما أمر بالعمل ، وبما ورد فيهما توجيهات غالية وتعليمات نفيسة للمجتمع الفاضل ، فالعلم بلا عمل جادٍ بمقتضاه كالشجر بلا ثمر ــ كما علمنا أساتذتُنا الأفاضل في المدارس ــ فلا بد من العمل بصدق وإخلاص ، ولابد من النية المباركة في نيل رضوان الله من العمل ، ولا يجهل أحد مكانة العلم مع العمل ، وكلنا نحفظ العديد من الآيات الكريمات ، والأحاديث المباركات في هذا الشأن . وفي هذه الأزمنة التي تقاعسنا فيها عن أداء الكثير من الأعمال التي حثنا عليها العلمُ الذي ندرسه ، والذي تزخر به مكتبتنا الإسلامية الغنية بالنفائس ، وتجاهلنا وجوده في حياتنا اليومية ، كأداء الصلاة ، أو مساعدة المحتاج ، أو زيارة المريض ، أو مساعدة الجيران ... وغير ذلك من الأعمال الطيبة التي تؤكد تماسك المجتمع وتكافله في قضايا لابد لها من تعاون ومشاركة لتُؤتي ثمارها اليانعات .

ولا ضرورة للتفصيل في هذا المطاف ، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون . فكلنا نعلم أهمية تفعيل القيم الاجتماعية في حياة الناس . ولقد استوقفتني عشرات القصص بل مئات منها حول أهمية العمل بما يعلم الإنسان ،  ولعلي أقف عند ومضة من نور ماتركته السير المباركة لمجتمعاتنا على مرِّ العصور . يقول أنس بن مالك رضي الله عنه بينما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعس في إحدى الليالي ، مــرَّ بأعرابي يجلس في فناء خيمة له ، فسلم عليه وجلس يحدثه ويسأله ، وكان الرجل يجيب ، وبينما هما كذلك إذ سمع عمر رضي الله عنه أنينا داخل الخيمة . فقال للرجل : ماهذا الأنين الذي أسمعه ؟ فقال الرجل : أمـرٌ ليس من شأنك ، امرأة في حالة ولادة . فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن قام ورجع إلى بيته ، وقال : يا أم كلثوم شدِّي عليك ثيابك واتبعيني . ففعلت رضي الله عنها ، وسارا حتى وصلا خيمة الرجل ، فقال له : هل لك أن تأذن لهذه المرأة أن تدخل على المرأة في الخيمة فتؤنسها ؟ قال الرجل نعم ، وأذن لها فدخلت أم كلثوم رضي الله عنها على المراة وهي في مخاض الولادة . فلم تلبث إلا قليلا من الوقت ، حتى قالت : يا أمير المؤمنين بشِّرْ صاحبَك بغلام . فلما سمع الرجل قولها : ياأمير المؤمنين وثب من مكانه فجلس بين يَدَي ‘عمر رضي الله عنه ، وراح يعتذر له ، وأنه لم يعرفه ، فقال له : لاعليك . إذا أصيحت فأتنا . فلما أصبح الرجل جاء إلى أمير المؤمنين ففرض لابنه وأعطاه .

حقا هي ومضة نور في زماننا هذا ، أمير المؤمنين يعس في الليل ، ويتفقد أحوال الناس ، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم ، وكان يحكم شرق الدنيا وغربها . ولهذا الخليفة العظيم كما لبقية خلفاء المسلمين من المواقف الكريمة والإنجازات الفائقة مالا ينساه التاريخ ولا تخفيه السير الفوَّاحة بالطيب  والرحمة والإنسانية . ولقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ) . وورد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (الخلقُ كلُّهم عِيالُ اللهِ، فأَحَبُّ خَلْقِهِ إليه، أنفعُهم لِعِيالِه ) . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، و مَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ) . فأين المسلمون ؟!

وسوم: العدد 984