( ولا تبذّر تبذيرا إن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا )

من تكريم الله عز وجل لبني آدم أنه رزقهم من الطيبات مصداقا لقوله تعالى : (( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر و رزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) ، ولقد سخرها لهم تسخير إسباغ مصداقا لقوله تعالى : ((  ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة )) . ومع إسباغه أو توسيعه تلك النعم على بني آدم ،  فقد أمرهم بحسن التصرف فيها عن طريق التوسط  في استعمالها بين الإسراف والتقتير مصداقا لقوله تعالى في وصف عباده المؤمنين : (( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما )) ، والقوام هو العدل والقصد بين الإسراف والتقتير . وبهذا التصرف الحكيم تصلح  وتستقر أحوال الناس في معاشهم ، ذلك أن اختلال القوام في الإنفاق أو الاستهلاك، تترتب عنه حياة مختلة ومضطربة .

ولقد عرّف الفقيه  الشامي ابن عابدين الإسراف بأنه صرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي ، كما عرّف التبذير بأنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، بينما عرّف غيره التبذير بأنه انفاق المال في ما حرّم الله عز وجل .  و يعتبر كل من الإسراف والتبذير جحودا وكفرانا  بنعم الله تعالى ، ويكون ذلك بابتذالها ،وبتجاهل قيمتها وأهميتها.

وواضح من تعريف ابن عابدين للإسراف  أنه  اختلال القوام  فيما ينبغي بالزيادة على ما ينبغي كأن تكون حاجة الإنسان على سبيل المثال لا الحصر إلى قدر معين من طعام أو شراب ، لكنه لا يكتفي بما يحتاجه ، فيلقي بما يفضل عن حاجته في القمامة أو يتلفه بطريقة أو أخرى ،وهو بذلك يبتذل نعم الله عز وجل  عوض شكرها .

ولقد نهى الله تعالى عن آفة التبذير مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله مخاطبا كل المؤمنين بل العالمين جميعا  في رسالته الخاتمة إليهم  فقال : (( ولا تبذّر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا )) ، ففي هذه الآية الكريمة نهي إلهي  عن التبذير فيه تشديد ، والتبذير صرف نعمه فيما لا ينبغي على حد قول الفقيه ابن عابدين . ولقد جاء في كتب التفسير أن وجه النهي في هذه الآية الكريمة أن النعم جعلت لتغطية ما يحتاجه الإنسان من ضروريات، وحاجيات ،وتحسينيات ، وأن القصد أو القوام في استعمالها يضمن أمنه من الخصاص فيما هو أشد احتياجا إليه ، كما أن كل ما يتوفر منها يقام به أود المحاويج والمعوزين الذين يزداد عددهم باستمرار، وذلك  بسبب سوء التصرف فيها ، وهو ما يجعل المجتمعات يختل فيها نظام الحياة السوية ، علما بأن المقصد الشرعي أن تكون تلك النعم على اختلاف أنواعها عدة للأمة المسلمة، وقوة لبناء مجدها وازدهارها ، ورفاهيتها ،وسلطانها ، وهيبتها ومناعتها بين الأمم ،  والحفاظ على وجودها واستمراره .

ولقد وصف الله تعالى فعل التبذير المستقبح بأنه من فعل الشياطين الذين يوحون إلى أتباعهم المبذرين من بني آدم  الذين يرتبطون معهم ارتباط أخوة بما تفيده هذه الصلة من تلازم  بتعاطيه وممارسته تمردا على الخالق سبحانه وتعالى بابتذال نعمه .

ومعلوم أن كل من اعتاد التبذير، صار صفة  مستقبحة ملازمة له شأنها شأن كل خلق ذميم تتعلق به نفسه  ، ويسوء بذلك خلقه ، فيصير مذموما بين الناس أقاربهم وأباعدهم . وإذا كان من يعتاد الكذب على سبيل المثال  يصير عند الله كذّابا كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذّابا "، فإنه لا يزال يبذر حتى يكتب عند الله مبذرا ، فيصير بذلك شيطانا كفورا . و لقد ذكر العلامة الطاهر  بن عاشور رحمه الله تعالى في تفسيره  أنه جريا على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة يصدق القول : إذا كان المبذر مؤاخيا للشيطان ، وكان الشيطان لربه كفورا ، كان المبذر بالضرورة كفورا بتبذيره نعم الخالق سبحانه وتعالى ، كما ذكر رحمه الله تعالى أيضا أن التبذير كان من أخلاق أهل الجاهلية ، وكانوا يفاخرون به، لهذا نهى  الله  عز وجل المؤمنين عن التشبه بهم ،والتلبس بصفاتهم وقد كانوا أهل كفر وشرك .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بتحذير الله عز وجل من آفة الإسراف والتبذير بكل أشكاله وأساليبه مما صار سائدا في هذا العصر الذي أصبحت فيه نعم الله عز وجل تبتذل بشكل غير مسبوق ، وهي الواجب شكرها بحسن التصرف فيها  بما يرضي المنعم جل شانه .

ولقد بدأت  مؤخرا الأصوات تعلو للتحذير من عواقب الإسراف في استعمال الماء خصوصا وقد تعاقبت علينا السنوات العجاف ، ونضبت بسبب ذلك مياهنا الجارية ، و الجوفية ، وما أنضبها إلا غياب شكر نعم الخالق سبحانه وتعالى  التي أسبغها علينا ، وذلك عن طريق إعمال الإسراف والتبذير فيها فضلا عن كل أنواع المجاهرة بمعصيته جهارا نهارا جريا على عادة الأمم البائدة  التي أخبرنا سبحانه وتعالى عنها في محكم التنزيل، والتي كان يواجه كفرانها نعمه بالنقم ، ومن النقم انحباس القطر ، وغور الماء لأن النعم لا تزول إلا بما يصدر عن المنعم عليهم من ابتذالها وكفرانها كما جاء في قوله تعالى : (( ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم)) ، وما يقع من تغيير في نفوس الناس إنما هو كفران نعم الله تعالى ، وهو أعلم بكفرانهم .

ولقد وافت الوزارة الوصية على الشأن الديني عندنا  الجمعة الفارطة الخطباء بخطبة تدعو فيها الناس إلى شكر نعمة الماء بالاقتصاد في استعماله ، وهو أمر محمود إلا أن الخطبة اقتصرت على ذكر ما يمكن توفيره من أمتار مكعبة من هذه المادة الحيوية إذا اقتصد المتوضئون في استعمال الماء في وضوئهم دون أن تشير إلى ما لا يحصى من أمتار مكعبة مما يستنزف  في مسابح الفيلات والدور الفاخرة ، وفي أعشابها الخضراء، ونباتاتها  بأفنيتها ومحيطها... إلى غير ذلك مما يتلف الثروة المائية في شتى الاستعمالات التي لا تعدو التحسينيات ، وهي أضعاف ما يستعمل في عبادة الوضوء، لكن الخطبة مع الأسف الشديد لم تشر إلى شيء من ذلك وكأن أصحاب تلك الفيلات لا يعنيهم أمر الاقتصاد في استعمال الماء أو كأنهم لا يرتادون بيوت الله تعالى لأداء صلاة الجمعة . 

ومن المؤسف أن قنواتنا التلفزية تقدم إشهارا من أجل المحافظة على الماء لكنها تركز على الطبقة الهشة في المجتمع كما هو شأن إشهار سيدة يبدو من حالها أنها فقيرة  تقف بباب بيت متواضع، وتلقي بإناء  صغير من ماء قبالته ، وكان الأحرى أن يصور الإشهار الفيلات ، وما فيها من مسابح ، وأعشاب خضراء ، ويصور غير ذلك من أماكن  اللعب واللهو التي يهدر فيها الماء هدرا .

وإنه ليتعين على الأمة المسلمة أن تنتبه إلى ما تعبدها به ربها سبحانه وتعالى حين نهاها عن الحذو حذو الشياطين في تبذير نعمه على اختلاف أنواعها لأن ذلك كفران بها .

اللهم إنا تعوذ بك من أن نقتفي أثر شياطين  الإنس والجن في ابتذال نعمك ، وكفرانها ، ونسألك شكرها بالتصرف فيها على الوجه الذي يرضيك ، وترضى به عنا . اللهم بصّرنا بعيوبنا ، واجعلنا ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 998