( وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذّوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلا )

 لمّا اقتضت إرادة الله عز وجل ابتلاء الإنسان في الحياة الدنيا لمجازاته عن سعيه فيها قبل الرحيل عنها إلى الدار الآخرة  ، فإنه قد جعل مدار ابتلائه اختياره بين سلوك سبيلين  لا ثالث لهما ، وهما إما سبيل رشد ، أوسبيل غي ، فأما الأول فيفضي بالإنسان إلى نعيم مقيم ، وأما الثاني فيفضي به إلى  خلود في الجحيم .

وعلى قدر نيّة الإنسان  وقصده  في اختيار سبيل الرشد، يهديه الله تعالى إليه ، كما أنه إذا أصرّ على اختيار سبيل الغي ، فإنه يصرفه عن سبيل الرشد جزاء إصراره  .

ولقد تكرر في الذكر الحكيم ،وهو الرسالة الخاتمة للعالمين ما يؤكد جريان هذه السنة الإلهية في الخلق إلى يوم الدين . ومما جاء من ذكرها قوله تعالى :

(( سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذّوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين )) .

ولقد وردت هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن قوم موسى عليه السلام  بعدما أمره بتبليغ شريعته ، ولما كان القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة للعالمين ، فإن حكمها ينسحب عليهم جميعا إلى قيام الساعة ، ذلك أن كل من كذّب بما أنزل الله تعالى من آيات على رسوله صلى الله عليه وسلم  صرفه سبحانه وتعالى عنها فتنكب بذلك سبيل الرشد وتنكبه، وسلك سبيل الغي متبعا هواه .

وعندما نتأمل هذه الآية الكريمة ، فإن أول ما تستوقفنا فيها قوله تعالى : (( سأصرف  عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق  وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها )) ، وصرفه تعالى لهؤلاء عن آياته إنما هو دفعهم وصدهم عن تعطيل العمل بها أو إبطالها ،علما بأنها هي مصدر الهداية إلى الحق ، والقطيعة مع الباطل . ولقد ذكر الله تعالى سبب صرف هؤلاء عن آياته وهو تكبّرهم في الأرض بغير الحق ،علما بأن تكبّرهم هذا هو عجب بأنفسهم يتكلّفونه ، وقد دل على تكلفهم له صيغة التكبّر الدالة على  هذا التكلف . ومعلوم أن الكبرياء صفة الله تعالى لا ينازعه فيها أحد كما جاء فيما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جلّ جلاله : " قال الله عزّ وجلّ : العزّ إزاري ، والكبرياء ردائي فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذّبته " ، ولهذا  فالكبر أو الكبرياء في الإنسان مذموم ، لأنه لا ينفك عن كونه يلابسه الباطل بالضرورة  . وقول الله تعالى في الأرض يدلّ على أن تكبّرالمتكبّرين يكون شائعا بين الناس لا يخفونه ، ويكون باطله جليّا لا يخفى على أحد ، علما بأن الباطل إنما يكون بدافع اتباع هوى النفس الذي يغريه بلبوس الكبرياء .

 ومن كان هذا حالهم فإنه لا  تنفع معهم دليل يقنعهم بالعدول عن  تشبثهم بباطلهم  ورجوعهم إلى الحق كما  مصداقا لقول الله تعالى :   (( وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها )) ، ومعلوم أن لفظة " كل " تدل على الشمول ، وهذا يعني تعدد الآيات التي يريهم الله تعالى، ولكنهم بسبب ما  جبلوا عليه من تكبّر لا يعتبرون بها ، ومن ثم لا يحصل لهم رشدا ، ولا يهتدون إليه سبيلا .

ويسترسل الله عز وجل في وصف هذا الصنف من البشر بقوله : (( وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذّوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلا )) ، ولقد استعار الله تعالى السبيل للدلالة على الوسيلة التي تفضي بهم  إلى الرشد  أو إلى الغيّ ، فأما الرشد فهو الصلاح ،والاستقامة ،والهداية  كما أراد الله تعالى  ذلك لخلقه ، وأما الغيّ فهو الضلال والفساد الذي نهى عنهما سبحانه وتعالى .

ولقد عبّر الله تعالى عن سلوك سبيل الرشد أو سبيل الغي بفعل " اتخذوا " علما بأن الاتخاذ وهو صغية تدل على مطاوعة الأخذ ، وهو يدل على الملازمة أي لا يلزمون سبيل الرشد ، ويلزمون سبيل الغيّ . ومعلوم أنه لا هداية لمن لزم سبيل الغي  ورضيه بديلا عن سبيل الرشد .

ويعقّب الله تعالى بالقول : (( ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين )) ، وهذا يعني أنه لمّا اجتمع  عند المتكبرين التكذيب بآيات الله عز وجل، والغفلة عنها كان حالهم  أن صرفهم عنها ، وهو ما يرتب عنه اتخاذهم سبيل الغيّ  بديلا عن سبيل عن الرشد ، و سبيل الباطل  بديلا عن  سبيل الحق ، و هذا هو حال الأشقياء شقاوة الدنيا والآخرة نعوذ بالله تعالى منها .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بخطر زوال نعمة الرشد ، وهي نعمة لا تضاهيها نعمة ، وحلول نقمة الغيّ بسبب اتباع الأهواء الصارفة عن هدي الله عز وجل، و عن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم خصوصا في هذا الزمان الذي ينبري فيه أعداء الإسلام وهم كثر  لمحاربته بشتى الطرق والوسائل والأساليب الماكرة لصد أهله عن هديه ، وتوريطهم في اتباع سبل الغيّ ـ وما أكثرها في هذا الظرف بالذات ـ  حيث كثر الدعاة فينا إلى اتباع  شتى أنواع سبل الغيّ تحت شعار مواكبة ما يسمى ركبا حضاريا لغير المسلمين  وهو ركوب محفوف بالمخاطر من خلال تقليدهم في  أحوالهم التي تحكمها قناعات غير قناعاتنا ،وقيم غير قيمنا، وأخلاق غيرأخلاقنا ، وليست هويتهم هويتنا ، ولا دينهم ديننا ، ولا ثقافتهم ثقافتنا ، ولا عاداتهم عادتنا ، وليس المقصود هنا ما يكون  من خير وصلاح مشتركا  بين البشر مما يوافق الفطرة  البشرية السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها ، و هو مما يقره ديننا الحنيف بل المقصود ما خالف الفطرة  السوية ، وما أنكره ديننا من تلك الدعوات المنحرفة التي يراد بها تغيير خلق الله ، وإفساد فطرته ، وإشاعة الفساد فيه .

وعلى الأمة الإسلامية أن تعلم جيدا أنه من التكبّر في الأرض الذي ذمه الله عز وجل هو اتباع الأهواء ، وذلك هو الغيّ عوض الامتثال لآياته المتضمنة لأوامره ونواهيه . وعليها أن تعلم أيضا أنه من علامات  صرف الله عز وجل  الناس  عن آياته هو التكذيب بها أو التنكر لها أو التماس البدائل عنها، وذلك هو اختيارهم سبيل الغيّ بديلا عن سبيل الرشد ، وتلك هي الغفلة المنذرة بعواقب الأمور في العاجل والآجل .

اللهم إننا نعوذ بك من أن تصرفنا عن آياتك ، ونعوذ بك من التكبّر في الأرض بغير الحق ، ونعوذ بك أن نرضى بغير سبيل الرشد  سبيلا ، كما نعوذ بك من اتخاذ سبيل الغيّ  سبيلا ، ونعوذ بك من أن نكون من الغافلين .

 والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

وسوم: العدد 1004