( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )

من المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أخبر في الرسالة الخاتمة للعالمين إلى يوم الدينونة أنه قد أحسن كل شيء خلقه مصداقا لقوله تعالى : (( الذي أحسن كل شيء خلقه )) ، ففي هذه الآية الكريمة نفي قاطع لغياب الحسن في كل ما خلق الله تعالى . وإحسانه الخلق سبحانه وتعالى يعني منتهى الإبداع  ، والإتقان ، والدقة ، والإحكام ، وذلك عن علم ،وخبرة ،وقدرة، وحكمة، ومباشرة بعد  ذكر حسن الخلق ذكر الله عز وجل خلق الإنسان فقال جل شأنه : ((وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين  )) ، وهذا يعني أن الله تعالى قد أحسن خلقه بداية من طين، وتطورا بعد ذلك من ماء ، وقد اقتضى إحسانه سبحانه وتعالى أن يكون خلقه من الطين ومن الماء، لعلمه جل شأنه ولحكمته بما يتحقق به حسن خلق الإنسان . وقد يذهب ظن البعض إلى أن هاتين المادتين اللتين خلق منهما الإنسان  بسيطتان أومهينتان ، ومن ثم تنشأ  لديهم فكرة احتقار طبيعة خلق الإنسان ، وهو ظن خاطىء وقاصر كظن إبليس اللعين الذي قال لربه حين أمره بالسجود لما خلق الإنسان بيده : (( أنا خير منه خلقتنا من نار وخلقته من طين )) ،  علما بأنه لا دليل له على خيرية خلقه ، والحقيقة أن الله تعالى بعلمه ،وخبرته قد أبدع ،وأتقن، وأحكم خلق الإنسان من تلك المادتين التي لا يمكن أن يخلقها غيره ، ولا يمكن أن يحولها غيره من حال إلى حال ، وقد تحدى سبحانه وتعالى الخلق في ذلك  بقوله : (( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون )) .

ومن إحسان خلق الإنسان نفخ الروح فيه، وهو أمراستأثر الله تعالى بعلمه ، وبهذا النفخ كرّم الإنسان ،واستخلفه في الأرض مسخرا له ما فيها كل ما أحسن خلقه من مخلوقات . ومن حسن خلق الإنسان بقاؤه ، واستقامته على الفطرة التي فطره الله تعالى عليها ، علما بأن انحرافه عنها إنما هي منه ، وهو يتحمل مسؤوليتها  لأن الله تعالى خلقه ليبتليه ثم ليحاسبه ويجازيه ، و اقتضى ذلك أن يعطيه حرية الاختيار في هذا الابتلاء بين التزام الاستقامة على الفطرة وبين الانحراف عنها.

ومن إحسان الله تعالى خلق الناس أنه تعهدهم منذ بداية خلقهم برعايته وعنايته ، ومن رعايته وعنايته  بهم أنه جعل منهم رسلا أرسلهم إليهم بكتب متضمنة هديه والذي به يستقيمون على صراطه المستقيم ، وهو ما يجعلهم يحيون حياة كريمة طيبة في عاجلهم وآجلهم مصداقا لقوله تعالى : ((  لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى الغاية من إرسال الرسل إلى البشر بكتب فيها أدلة وبراهين على ضرورة التزام استقامتهم على الفطرة التي فطروا عليها، وقد هيأهم لذلك إذ أحسن  سبحانه وتعالى خلقهم تماما كما أحسن خلق كل شيء حولهم .

 ولقد قرن الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الكتاب والميزان الذي هو العدل والإنصاف ، وبيّن أن  الكتاب بما فيه من هدي ، ومنه العدل هو السبيل إلى قيام الناس في حياتهم بالقسط ،والقسط  هو مطلق العدل في كل الأمور كما جاء في كتب التفسير، ولفظة " القسط" مأخوذة من لفظة " قسطاس" ، وهو العدل بلغة الروم ، وهذه لفظة معربة كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم .

ومعلوم أن  الله تعالى خلق الناس ليكونوا اجتماعيين تجمعهم أواصر وعلاقات ومصالح متبادلة ، وسخر بعضهم لخدمة بعض بحيث يعود كل ذي علم وخبرة وكفاءة بالنفع على غيره ، ويستفيد بدوره من علم وخبرة وكفاءة ذلك الغير . واجتماع الناس لا يمكن أن يكون على الوجه الصحيح إلا إذا قاموا بالقسط كما أراد لهم الله تعالى ذلك من خلال الكتب التي أرسل بها إليهم رسله . وقيام الناس بالقسط في كل شؤونهم وأحوالهم هو أن يأخذ كل واحد منهم حقه كاملا غير منقوص ، ويقوم بواجبه كاملا غير منقوص ، ومن أخل بشيء من ذلك، لم يكن مقسطا أو قائما بالقسط . وعلى كل إنسان أن يضع نصب عينيه في كل لحظة تمر به في حياته بعد أن يبلغ سن التكليف أنه رهين بحالتين لا ثالثة لهما ،وهما إما قيامه بالقسط أو إخلاله به ، وهو ما يلزمه ضرورة  بمعرفة ما يكون عليه في كل حركاته، وسكناته، وأقواله، وأفعاله ،ومواقفه  من قيام  بالقسط أو إخلال به .

والأكياس من الناس كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يدينون أنفسهم ، ويعملون لما بعد رحيلهم عن هذه الدنيا ، وما إدانتهم لأنفسهم سوى استحضارهم على الدوام مدى قيامهم  بالقسط ، أما غير الأكياس وقد وصفهم الحديث بالعجز، فهم الذين يتبعون أنفسهم أهواءها ، ويتمنون على الله الأماني ، وما ذلك سوى غياب استحضارهم القيام بالقسط .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، وهو تذكير المؤمنين بما ألزمهم به الله تعالى من قيام بالقسط  في كل أحوالهم ومعاملاتهم خصوصا وأننا كمسلمين نتقاسم العيش في هذا المعمور مع غير المسلمين ، ونحن لا نمثل سوى خمس ساكنته ، كما أننا في حكم المستضعفين أمام أمم تملك ما لا نملك من أسباب القوة ، وهو ما جعلها مخلة بالقسط ، وجعلنا أول ضحايا ذلك الإخلال إلى جانب غيرنا من الأمم المستضعفة مثلنا . وإن الأمم المستكبرة في هذا العصر لتعيث في المعمور فسادا وتوقد فيه حروبا وتزرع بذلك فيه الخوف والرعب  ، وهي تتنافس في اقتناء أسلحة الدمار الشامل ، ويهدد بعضها بعضا بسبب صراعها من أجل المصالح والمكاسب ، وصراعها  من أجل بسط نفوذها ، واستحواذها على مقدرات وخيرات غيرها من الأمم المستضعفة ، ونحن أولها  وأكثرها عرضة للابتزاز.

ولقد وقر في نفوسنا أن تلك الأمم المستكبرة يجب أن تكون لنا بالضرورة قدوة نقتدي بها مع أنها لا تقوم بالقسط ، وهي مخلة به إخلالا فظيعا، وصارخا ، وعنها نقلنا آفة الإخلال بالقسط بيننا مع أننا أمة الإسلام المأمورة في كتابها بالقيام به .

وبسبب إخلالنا  بالقيام بالقسط اقتداء بالأمم المستكبرة  وتبعية لها ،شاعت فينا كل أنواع المفاسد التي تعود كلها إلى غياب القسط بيننا. أليست الفضيحة المدوية التي عرفها مؤخرا  امتحان أو مباراة المحاماة ـ و نحن نسوقها مثلا لا حصرا ـ  دليلا على تعطيل القسط من طرف وزارة أوكل إليها القيام به  ـ يا حسرتاه ـ ؟ وهي المسؤولة الأولى عنه ، وعن  مراقبة القيام به في كل أحوال الناس ومعاملاتهم ، وشعارها المرفوع  في محاكمها قول الله تعالى : (( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )).

وكيف يمكن أن يؤتمن من مكنوا من ولوج  مهنة المحاماة وهي ذات صلة مباشرة بإقامة القسط دون استحقاق، ودون استعداد و مؤهلات أن يقوموا بالقسط ، وشغلهم وفق طبيعة مهنتهم أن يحرصوا على الدفاع عنه ؟ وما يلزم أصحاب هذه المهنة من كفاءة، واستعداد، واستحقاق يلزم كذلك غيرهم من أصحاب مختلف  المهن والوظائف الأخرى  كي يتحقق القسط الذي أمر به الله عز وجل وأنزله مع كتبه  كي تستقر حياة الناس .

اللهم إنا نعوذ بلطفك من أن نعطل قسطا أمرتنا بالقيام به ، ونعوذ بك أن نَظلم أو نُظلم أو نجور أو يجار علينا ، ونسألك اللهم استقامة على صراطك المستقيم حتى يأتينا اليقين ، ونسألك مغفرتك ،وعفوك عن كل ذنب، وكل تقصير يا أرحم الراحمين  يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1014