مراحل عمر الإنسان كما حدّدها القرآن الكريم

كثيرة هي الأمور التي يحتار الناس فيها ، ويختلفون اختلافا كثيرا في شأنها باختلاف قناعاتهم وتوجهاتهم وثقافاتهم ، ويصرّ كل منهم على أنه المالك الشرعي للحقيقة في فهمها مع أن الفهوم البشرية تتعدد ،وتختلف ، بل وقد تتعارض ، وتحدّ من مصداقيتها النسبية  التي لا مندوحة للناس عن طلب المطلق في الوحي ،وهو تطمئن إليه  وبه العقول والقلوب .

ومن الأمور التي اختلف فيها البشر، ولا زالوا مختلفين فيها ، وسيظلون كذلك حتى تقوم الساعة، وتزول الدنيا عمرالإنسان الذي يقسمونه إلى مراحل خمس هي : الصبا ، والفتوة أوالشباب ، والكهولة ، والشيخوخة ، والهرم ، وهي مراحل حاصل إجماع أغلب البشر عليها ، لكنهم  يختلفون في تحديد سنواتها باختلاف ثقافاتهم وقناعاتهم خصوصا تلك المتعلقة بمرحل الكهولة والشيخوخة والهرم التي يطبعها الضعف والوهن ، فيتشاءمون منها لأنها تنذر بقرب الفناء عكس مراحل الصبا والفتوة والشباب التي تعلق عليها الآمال العريضة بطول البقاء ، وتطبعها القوة .

والغالب أن يتركز اختلاف البشر في عدد السنوات  المحددة  لمرحلة الكهولة التي هي ما بين مرحلة  الشباب، ومرحلة الشيخوخة ، وهم في ذلك فريقان : فريق متفائل يحمله تفاؤله على تمديد سنوات مرحلة الشباب في مرحلة  الكهولة أقصى ما يمكنه من تمديد ، وفريق متشائم يحمله تشاؤمه على الاقتطاع من سنوات الشباب ،وجعلها من سنوات الكهولة ، التي ربما سميت كذلك لبداية انحناء الكاهل.

والجنس اللطيف من البشر أشد تشاؤما من فترة الكهولة لأنها تنذر بزوال النظارة  والرُّوَاء ، وهو حسن المنظر وبهاؤه . والمشهور أن السر الذي لا يبوح به الجنس اللطيف أبدا هو سنوات العمر على وجه الحقيقة، لهذا السبب ، وقد تجاريهم  في هذا الزمان تحديدا شريحة من الجنس الخشن الذي لا يعذر في ذلك عذر الجنس اللطيف .

وقد يقع الخلاف أيضا بخصوص عدد سنوات الشيخوخة ، فيحمل التفاؤل البعض على تمديد سنوات الكهولة تعلقا بها وتحاشيا للشيخوخة ، كما يحمل التشاؤم البعض الآخر على التعجيل بدخول مرحلة الشيخوخة بالاقتطاع من سنوات الكهولة ، وهؤلاء وأولئك يجمعهم قاسم التظاهر بما ليست عليه أعمارهم في واقع الحال حيث يعمد المتفائلون إلى التلّبس بلبوس الكهولة وهم شيوخ ، ويخفون شيبهم الكاسح بسواد كذب ، ومنهم من تصيبه آفة التصابي والفتوة  والسفه  المعطل للحلم، وهو الذي  قال عنه الشاعر :

وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده       وإن الفتى بعد السفاهة يحلم

 وفي المقابل يتلبّس المتشائمون بلبوس الشيوخ وهم كهول رغبة في وقار الشيخوخة  وما تجلبه من احترام وتقدير .

والقول الفصل في مراحل العمر قول الله تعالى، وهو الحقيقة المطلقة التي لا تنكرها العقول  حيث يقول جل شأنه : (( هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم  ثم لتكون شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى  ولعلكم تعقلون )) ، ففي هذه الآية ذكر لمراحل يمر بها الإنسان لا تكون حديث الناس عندما يذكرون مراحل العمر ، وهي المرحلة  "الطينية" ،و المرحلة "النطفية "، و المرحلة "العلقية "، وهي مراحل وجود بعد عدم . وتحدد الآية بعد ذلك مرحلة الطفولة ، ومرحلة  "الأشديّة" ، ولفظة "ّ أشد" قال عنها اللغويون إنها جمع لا مفرد لها ، وقيل إن مفردها " شدة "  ثم أخيرا مرحلة الشيخوخة ، وذلك على التراخي كما تفيده أداة العطف " ثم " والتي أفادت التراخي أيضا في مراحل ما قبل الخروج من الأرحام ، مع الإشارة إلى أن الرحيل عن الدنيا ليس قاصرا على مرحلة عمرية  بعينها بل تتساوى فيه المراحل بقدرالله  سبحانه وتعالى وإرادته .

ومن قوله جل شأنه أيضا : (( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا )) ، ففي هذه الآية الكريمة ما في سابقتها وزيادة حيث ذكر الله تعالى المرحلة "المضغية "، والمرحلة "الرحمية "، وأشار إلى مرحلة الإيغال في الشيخوخة، وقد عبر عنها بالمرحلة "الأرذلية " المقابلة " للأشدية " والتي تتعطل فيها ملكة العلم ، وهي مرحلة يتعوذ المؤمنون من بلوغها بالله تعالى لشدة ما فيها من ضعف بدني،  وما فيها من زوال العلم  بتعطل العقل .

وإذا عرضنا مراحل عمر الإنسان كما يحددها البشر على تحديد الخالق سبحانه وتعالى لها، نجد ما يصح منها من تحديد البشر هو مرحلة الطفولة ، ومرحلة الشباب ، ومرحلة الشيخوخة التي قد تطول بأصحابها إلى حد بلوغ أرذل العمر ، وليس في تحديد الله تعالى مرحلة الكهولة كما يزعم الناس بل تعقب مرحلة بلوغ الشدة مباشرة مرحلة الشيخوخة ، وبلوغ الشدة هو ما يسميه الناس بمرحلة الشباب ، وهم مختلفون في عدد سنينها ،علما بأن الله تعالى قد حددها في قوله جل من قائل : (( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة )) ، وقد جاء في كتب التفسير أن بلوغ الشدة يعني بلوغ منتهى، وغاية القوة الجسدية والعقلية ، وقد دلت على ذلك لفظة " حتى " التي من معانيها إفادة الغاية  ، وعطف بلوغ الأربعين  في الآية الكريمة على بلوغ الأشد فيه تحديد لسنوات هذا الأخير ، وهو ما يقابل مرحلة الشباب عند تقسيم البشر لمراحل العمر .  وقد يشكل على البعض أمر ما بعد الأربعين أهو دخول في مرحلة الشيخوخة مباشرة ؟ لهذا جعلوا بين مرحلة "الأشدّية "، ومرحلة الشيخوخة مرحلة وسطى  سموها الكهولة ، وفي هذا الزمان صار التعبير عنها بعبارات من قبيل رجل "خمسيني " أو رجل "ستيني"  تفاديا لاستعمال كلمة  شيخوخة .

والقول الفصل في مرحلة " الأشدّية " ما قاله الله تعالى  والتي تميزها القوة الجسدية والعقلية . وطالما ظل الإنسان على " أشدّيته" وهي المعتبرة ، فهو محسوب على مرحلة الشباب ، وخارج مرحلة الشيخوخة ، فإذا اعتراه ضعف بعد قوة دخل مرحلة الشيخوخة من بابها الواسع ، فإن أوغل فيها كثيرا بلغ حالة "الأرذلية " من مرحلة الشيوخة .

وأخيرا نقول من التمس  ما هي عليه حقيقة عمر الإنسان إنك واجدها في كلام الله عز وجل ، وفي ذلك  ما يعفيك من الخوض فيما يخوض فيه الخائضون في هذا الأمر من متفائلين لا يرضون بالخروج من مرحلة "الأشدّية "وإن دخلوا في مرحلة الشيخوخة ، ومن متشائمين يرغبون في دخول مرحلة الشيخوخة ولمّا تنقضي مرحلة " أشدّيتهم " لحاجة في نفوسهم كما في نفوس شريحة المتفائلين  حاجة .

والسوي من الناس من تنكب الانفصام العمري ، فعاش كل مرحلة من عمره بما يناسبها من سلوك، وتصرف، وسمت حتى لا ينحرف بها إلى ما لا يناسبها، فيكون عرضة لسخرية الساخرين، كأن يتصابى شيخ، فيكون ذلك سفها بعد حلم .

ولا بد آخرا من التنبيه إلى أنه ينبغي على الإنسان ألا يسخر من مرحلة من مراحل العمر لأنه يمر بها جميعها  لا محالة ، وهو إن سخر منها إنما يكون في الحقيقة ساخرا من نفسه .

وسوم: العدد 1015