وقفة مع النساء الوارد ذكرهن في القرآن الكريم

الخوض في الحديث عن المرأة قد فتح بابه منذ الزمن البعيد ولن يغلق حتى تقوم الساعة ، وهو خوض محكوم بمعتقدات وقناعات، الشيء الذي جعله يتسع ، ويتفرع ، ويتعقد ، ولا يبلى مع تراخي الزمن .

وأهم خوض على الإطلاق هو ما جاء في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . ولما كانت تلك الكتب السابقة لآخر كتاب وهو القرآن الكريم قد وصفت ببعض ما شابها من تحريف ، فإن هذا الأخير هو أصح ما يعتمد في كل حديث ، وهو أصدق الحديث ، لهذا يعتبر الخوض في الحديث عن النساء انطلاقا منه خوضا محكوما بمرجعية لا يشوبها ما يشوب غيرها من شوائب الزيغ .

وأول ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل بخصوص النساء الوارد ذكرهن فيه تخصيصا لا تعميما وهن نماذج ، نموذج أم البشرية حواء عليها وعلى زوجها الصلاة والسلام ، فهذا النموذج لم يسجل له القرآن الكريم كلاما ما عدا عبارة الاستغفار التي شاركت فيها زوجها بعد ارتكاب خطيئة الأكل من الشجرة الممنوعة ، وهي عبارة : (( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونّن من الخاسرين ))، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الإقرار بالخطيئة والاستغفار كان مشتركا بينهما . وهذا النموذج النسائي الأول في تاريخ البشرية يمثل الانسجام بينها وبين زوجها سواء أثناء الوقوع في الخطيئة أو الاستغفارا منها ، الشيء الذي يعني أن الأصل في العلاقة الزوجية هو التآلف والانسجام ، وليس التنافر والاختلاف ،ذلك أن حواء شاركت زوجها الوقوع في الخطيئة ،و شاركته في التوبة منها والاستغفار وذلك بفعل ما كان بينهما من تآلف وانسجام توجبهما العلاقة الزوجية السوية .

وثاني ما يستوقفنا في كتاب الله تعالى نموذج مخالف للنموذج الأول من حيث خروج العلاقة الزوجية عن طبيعته السوية التي هي التآلف والانسجام ، والانحراف بها إلى التنافر والاختلاف ،وهو نموذج تمثله امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام حيث قال الله تعالى : (( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما )) ، ففي هذه الآية إشارة إلى علاقة زوجية بين نبيين وزوجتيهما طبعها التنافر والاختلاف حيث خالفت الزوجتان زوجيهما في صلاحهما ، وقد وصف الله تعالى ذلك بالخيانة ، وهي خيانة في المعتقد ، وليست الخيانة الزوجية المتعارف عليها ، ذلك أن امرأة نوح عليه السلام كما جاء في بعض كتب التفسير كانت كافرة لا تؤمن بالله تعالى ، وكانت تروّج عن زوجها بين قومه أنه مجنون ، كما كانت امرأة لوط عليه السلام على ملة قومها ، وقد دلتهم على الملائكة الذين نزلوا عليه ضيوفا ، وهي تعلم ما كان قومها يريدون بهم من سوء ، وهذا أسوأ انحراف للعلاقة الزوجية عن طبيعتها السوية التي قوامها التآلف ، ولهذا نهى الله تعالى عن بناء علاقة زوجية لا تآلف فيها بين الزوجين يكون تآلفا أساسه وحدة المعتقد وصحته بينهما فقال : (( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للناس لعلهم يتذكرون )) . ويوجد نموذج شبيه بامرأة نوح وامرأة لوط ، وهي امرأة أبي لهب مع أن هذه كانت على ملة الكفر كزوجها و علاقتهما الزوجية كانت مبنية على أساس الاشتراك في السوء والإساءة إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن أن تسمى علاقة انسجام بل هي علاقة تواطؤ على الشر. ولقد ذكر الله تعالى مباشرة بعد ذكر امرأة نوح وامرأة لوط امرأة فرعون فقال جل في علاه : (( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجنّي من القوم الظالمين )) ، ففي هذه الآية الكريمة وصف لانهيار العلاقة الزوجية غير السوية بين امرأة فرعون المؤمنة وزوجها الكافر بحيث لم يكن بينهما تآلف لاختلاف بينهما في المعتقد . وكل من يزعم إمكان وجود علاقة زوجية سوية قوامها التآلف بين زوجين واعتقادهما على طرفي نقيض إنما يخادع نفسه ، وقد حسم الله تعالى في هذا الأمر حسما .

وثالث ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل بعد النماذج السابقة ، نموذج المرأة الأم أو لنقل نموذج الأمومة ، ونذكر أم موسى وأم المسيح عليهم جميعا السلام ، أما أم موسى فقد ذكر الله تعالى حالتها العاطفية وهي من أحوال الأمومة السوية كما أراد ذلك سبحانه وتعالى لكل أنثى . وقد تجلت تلك الحالة لما أوحى إليها ربها بإلقاء صبيها في اليم فقال عز من قائل : (( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين )) ، فهذه الآية الكريمة تصور لنا نموذج المرأة الأم بعاطفة أمومة سوية حين جزعت أولا خوفا على رضيعها من الغرق في اليم وقد أمرت أن تلقيه فيه ،وثانيا خوفا عليه من بطش فرعون وقد أوشكت أن ينكشف أمرهما ، وهي ترضعه لولا أن ربط الله تعالى على قلبها وفاء منه سبحانه بما وعهدها به من حفظه في اليم ، وحفظه من فرعون . وكل امرأة لا تجزع جزع أم موسى على ابنها، تكون أمومتها غير سوية ، ويكفي أن نذكر من نماذج الأمومة غير السوية المجهضات من النساء ، والمتخليات عن مواليدهن أو المتخلصات منهم بالقتل . وأما أمومة أم المسيح عليهما السلام، فهي فضلا عن شبهها بأمومة أم موسى عليهما السلام ، فإنها ابتليت بما لم تبتل به أنثى من نساء العالمين وقد رزقها الله تعالى ولدا من غير أب وأعظم به من بلاء ، ولا شك أنها حزنت وخافت هي الأخرى على ابنها كخوف أم موسى على ابنها ، لهذا ذكر الله تعالى ما أنطق به عبده عيسى وهو صبي تحتها فقال : (( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا )) ، والمقصود بالسري في هذه الآية الكريمة عيسى عليه السلام حسب ما جاء في بعض التفاسير خلافا لما جاء في بعضها الآخر من أنه اسم نهر باللغة السريالية ، ويرجح القول الأول لأن السري في اللسان العربي هو السيد الشريف ،ويؤكد ذلك أنه هو من كلمها بهذا الكلام كما كلم قومه في المهد ، وكان ذلك معجزة من الله عز وجل، وليس من كلمها بذلك الملك الكريم كما جاء في بعض التفاسير .

ورابع ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل نموذج المرأة التي لا تيأس من روح الله عز وجل ، ويتعلق الأمر بامرأة إبراهيم الخليل ، وامرأة زكرياء على الجميع السلام حيث تعجبتا من أمر الله تعالى حين قضى أن تلدا وهما عجوزتان فقال عن امرأة الخليل عليهما السلام : (( قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب )) ،وقال عنها أيضا : (( فأقبلت امرأته في صرّة فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم )) ، ولا يختلف حال امرأة زكرياء عن حال امرأة إبراهيم على الجميع السلام، لأنها لا شك عجبت هي الأخرى وهي عجوز من أمر ربها الذي قضى بأن تنجب وهي على تلك الحال من العقم والكبر ، وفيهما معا عبرة لكل امرأة مؤمنة مصابة بعقم بحيث يجب عليها أن ترضى بقدر ربها الذي لا يعجز قدرته سبحانه وتعالى أن تنجب عقيم بعد عقمها ، فإن لم تنجب، فلتعلم أن الخير فيما أراده جل شأنه وما اختاره لها ، وكم من عقيم قد أنجبت بعد طول انتظار ، والله تعالى فعّال لما يريد .

وخامس ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل خبر المرأة التي جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، واشتكت منه إلى الله عز وجل وهي خولة بنت ثعلبة أو بنت حكيم ،وقيل اسمها جميلة ، ولكن رجح المفسرون أن اسمها خولة ، وزوجها هو أوس بن الصامت ، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : " يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بقوله تعالى : (( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير )) . ولقد لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي عجوز فأوقفته ، وقالت له : " يا عمر قد كنت تدعى عميرا ثم قيل لك عمر ثم قيل لك أميرالمؤمنين ، فاتق الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وعمر واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف ؟ فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز ؟ هي خولة بنت ثعلبة قد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟ "

وإنها لنموذج الزوجة التي احتكمت إلى شرع الله تعالى فيما وقع من نفور زوجها منها لكبر سنها ، وقد كانت سببا في تحريم الله تعالى الظّهار ، وهو قول الزوج لزوجته : أنت علي كظهر أمي يقصد بذلك مفارقتها أو طلاقها ، وهي بذلك قدوة لكل امرأة مؤمنة تحتكم إلى شرع ربها حين ينالها ضرر من زوجها مهما كان نوعه ، والله تعالى الذي سمع قول خولة بنت ثعلبة يسمع قول كل زوجة مؤمنة مشتكية إليه حتى تقوم الساعة ، وقد سمع من قبل قول امرأة فرعون، فنجاها منه ،وأسكنها عنده البيت الذي طلبته منه في الجنة .

وسادس ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل المرأة التي جاء الحديث عنها في سياق مثلا ضربه الله تعالى ،وله المثل الأعلى لنقض العهود حيث قال جل شأنه : (( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا )) ، وقد جاء في كتب التفسير أن التي كانت تفعل ذلك امرأة خرقاء بمكة ، وقيل بل هو مجرد مثل ضربه الله تعالى تشبيها لناقضي العهود بها لإقناعهم بالعدول عن سلوك يربأ العقّال بأنفسهم أن يصدر عنهم . و في هذه المرأة عبرة لكل امرأة مؤمنة قد تنقض عهدا من عهودها مع الخالق سبحانه وتعالى أو مع الخلق ، ذلك أنها كما تستهجن نقض الغزل المادي ،فإنها تستهجن لا محالة نقض العهود على اختلاف نوعها .

وسابع ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل خبر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي قذفت ـ حاشاها ـ فبرأها الله تعالى من فوق السبع الطباق بقوله تعالى : (( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين )) ، وعلى كل مؤمنة يرجف في أمرها بمثل ما أرجف به في أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تصبر وتحتسب حتى يبرأها الله تعالى عاجلا أو آجلا أوهما معا .

وثامن ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل خبر الأختين اللتين كانت إحدهما امرأة موسى عليهما السلام ، وقد جاء في كتب التفسير أنها كانت تدعى " صفُورا " وقد أثنت عليه هي أو أختها التي كانت تدعى " ليَا " حين قصتا خبره على أبيهما كما جاء في قوله تعالى : (( قالت إحداهما استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين )) وقد وصفها الله تعالى بقوله : (( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا )) ، وفيهما إسوة حسنة لكل النساء المؤمنات اللواتي تردن التخلق بخلقهما استحياء من مقابلة الغرباء من الرجال واحتجابا منهم ، وتنويها بما يجدر التنويه به من أفضل الخصال في الرجال خصوصا إذا ما تعلق الأمر بمن يتقدمون لطلب أيديهن .

وتاسع ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل خبر امرأة العزيز وصويحباتها، وهن نماذج سيئة حين رمين نبي الله يوسف عليه السلام بما ليس فيه إلا أنهن تراجعن عن ذلك كما جاء في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى : (( قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين )) ، وعلى كل المؤمنات أن يتنكبن الذي وقعت فيه امرأة العزيز وصويحباتها من ظلم ، وأن يكن مثلهن اعترافا، وتوبة ،واستغفارا إن وقع منهن مثل ذلك .

وعاشر ما يستوقفنا في كتاب الله عز وجل خبر ملكة سبأ التي أسلمت لله تعالى مع نبيه سليمان عليه السلام بعد كفرها، ولم يمنعها كونها ملكة قومها الأقوياء الأشداء أن تذعن للحق بعدما تبيّن لها ، وقد قال عنها الله تعالى : (( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )) ، وفي خبرها عبرة لكل المؤمنات الذي عليهن الرجوع عن كل باطل يقعن فيه إذا ما تبيّن لهن الحق دون أن يمنعهن من ذلك منصب أو جاه .

وفي هذه الوقفات العشر مع ما جاء من أخبار النساء الوارد ذكرهن في كتاب الله عز وجل ما يكفي لتستخلص المؤمنات عبرا ودروسا ، وتتأسى بالصالحات منهن ، وتتنكب سلوك الخاطئات ، وكفى بما قص علينا رب العزة جل شأنه من أخبارهن تذكيرا لمن شاءت أن تتذكّر.

وسوم: العدد 1019