(( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين ))

من المعلوم أن الغاية من خلق الإنسان هي ابتلاؤه في الحياة الدنيا كما صرح بذلك رب العزة جل جلاله في آخر رسالة خص بها العالمين إلى يوم الدين ، وهو تصريح سابق  في كل الرسالات السابقة . والابتلاء  أو البلوى هو اختبار أو امتحان للتأكد من صدق المبتلى فيما يبتلى فيه أو يبلى  به  من أحوال بنى عليها الله تعالى نظام الحياة الدنيا  .

وإذا كان خوض الإنسان غمار هذه الحياة الدنيا هو أكبر ابتلاء له ، فإنه تتخلله ابتلاءات هي من مكوناته أو من أجزائه. وقوام ابتلاء الإنسان أمران  هما على طرف نقيض الخير والشر مصداقا لقوله تعالى : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة )) ، و في قوله سبحانه هذا كشف عن مضمون البلوى أو الابتلاء حيث يمر الإنسان بأحوال الصبر والتجلد أو الجزع إذا مسه الشر ، كما يمر بأحوال الشكر والكفر والجحود إذا مسه الخير ، وهو بهذا إما صابر أو  جزوع، وإما  شاكر أو كفور.

ومع أن الخير والشر قد سلطهما الله عز وجل على عموم البشر مؤمنهم وكافرهم وهو يبتليهم بهما في الحياة الدنيا  ، فإنهم ليسوا سواء في أحوالهم وهم يبتلون ، ذلك أن المؤمنين منهم يبتلون بالشر لسبر صبرهم  وجلدهم  ، ويبتلون بالخير لسبر شكرهم ، وموجههم في ذلك  إنما هو إيمانهم بالله تعالى ،وليس الكافرون كذلك فقد يكون ابتلاؤهم بالشر إما عقابا  لهم على إصرارهم على  كفرهم بعد استيفائهم مدد إمهالهم كي يرجعوا عن ذلك الإصرار ، أو يكون ذلك لحملهم على الإنابة ، ويكون ابتلاؤهم بالخير إما استدراجا لهم وهم مصرون على كفرهم لا يقلعون عنه  أو يكون تحفيزا لهم عسى أن يعينهم  ذلك على الإنابة ، علما بأن الكافرين يكون منهم من يردع بالشر فيتوب ويؤوب إلى ربه ، ومنهم من يحفزه الخير على الإنابة ، كما أن في المؤمنين من يؤثر فيه الابتلاء بالشر ، فينحرف عن جادة الاستقامة تعبيرا عن جزعه مما ابتلي به ، وفيهم من قد يطغيه الخير، فينحرف هو الآخر عن جادة الإستقامة بسبب ذلك ، ويبقى من المؤمنين المستقيم على صراط ربه ، ويبقى من الكافرين المنحرف عنه المتنكب له .

والذي يعنينا في هذا الحديث تحديدا هو ابتلاء المؤمنين بالشر كما جاء في قوله تعالى : (( ولنبلونّكم  بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ))  ، وواضح في هذه الآية الكريم القصد من ابتلاء المؤمنين ، وهو التأكد من صبرهم وجلدهم حين يبلون بالشر خوفا أوجوعا أونقصا من الأموال والأنفس والثمرات ، والدليل على ذلك قوله تعالى : (( وبشّر الصابرين )) ،فهذه بشارة مقابل صبرهم وجلدهم . ومن لطف الله تعالى بعباده المؤمنين أن هذا الذي يبتليهم به قد هوّنه عليهم  وذلك بقوله (( بشيء  من )) وإلا لو ابتلاهم بكله لا ببعضه لما استطاعوا عليه صبرا ولا جلدا ، علما بأنه يسلط كله على الكافرين عقابا لهم بعد استيفائهم فرص إمهالهم .

وعند التأمل فيما يبتلى به المؤمنون في هذه الآية الكريمة ، نجد الخوف يسبق  غيره من جوع ، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات لأنه يلابسها كلها، ذلك أن المؤمن قد يخاف الجوع  بسبب نقص الثمرات لأنه يفضي به إلى الهلاك ، ويخاف الفقر بسبب نقص الأموال ، ويخاف الموت  بحدوث كل ما يسببه من أمراض أو كوارث أو حوادث ...  لهذا تصدّر ذكر الخوف كل ما وليه من بلاوى.

ومن رحمة الله تعالى بالمؤمنين أنه أغراهم بالبشرى بعد ذكر تلك البلاوى التي اقتضت إرادته وحكمته سبحانه  أن تكون هي مناط الابتلاء ، وانصراف أذهان المبتلين إلى تلك البشارة ، حتما  ينسيهم أو يسلّيهم عن تلك البلاوى ، ويطمعهم فيما بشروا به من جزاء على  صبرهم. ولقد أعقب مباشرة ذكر تلك البشارة قوله تعالى يصف الصابرين على البلاء  : ((  الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )) ، ففي هذه الآية المكملة لسابقتها بيان الحال التي يكون عليها الصابرون حقا ، ويعبر عنها إقرارهم بالعبودية لله تعالى  بقولهم (( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ، وهي عبارة تتضمن الإقرار والتصديق بالبعث ، وهو من أركان الإيمان ، وفيها تعبير عن الرضى بالقدر حين يكون شرا ، وعدم الاعتراض على إرادة الخالق جل في علاه بالرغم من شدة أو هول المصاب، علما بأن ضعاف الإيمان الغالب على حالهم أنهم ربما  أنساهم ما ينزل بهم المطلوب منهم ، وحال بينهم وبين رشدهم ويقينهم أن ذلك من سنة الله عز وجل في خلقه ، وأنهم قد خلقوا في هذه الحياة الدنيا للابتلاء ، وأن مردهم ورجوعهم يقينا لا ريب فيه إلى خالقهم سبحانه وتعالى . ويأتي بعد قولهم المقترن عمليا بالصبر والجلد ما خصهم به خالقهم من سبق الجزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، وهو عبارة عن صلوات منه سبحانه وتعالى تكون تزكية لهم، ومغفرة ، ومحبة ، وقربا ، ورحمة، كل ذلك تطمئن به قلوبهم بعد الذي اعتراها من جزع ، ويصفهم الله تعالى بأنهم مهتدون ، وقد هداهم إلى الصبر والاحتساب وإلى الحق إذ لم ينل منهم المصاب على ما فيه من إيلام ، وتحققوا من أنهم إنما خضعوا ليبتليهم ربهم، وأن ما يصيبهم ليس عقابا وراءه سخطه أو غضبه سبحانه وتعالى بل هو من منحة  رضاه ومحبته .

وإذا كان سبب نزول هاتين الآيتين هو ما حل بالمؤمنين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن العبرة بعموم لفظهما لا بخصوص سببهما ، وإن حكمهما ليستمر إلى يوم القيامة .  

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما يلزمهم من صبر وجلد إذا ما ابتلاهم الله تعالى بما ذكره من مصائب الخوف، والجوع ، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات . والصبر المطلوب يكون منذ أول وهلة يقع فيها شيء من تلك المصائب ، ويكون متزامنا معه قول : "إنا لله وإنا إليه راجعون " بما يعبر عنه  هذا القول من رضى بقضاء الله عز وجل وقدره، لأنه المالك الذي يتصرف فيما يملك ، ولا يحق لمملوكه أن يعترض على تصرفه ، وبهذا يسلك المملوك الابتلاء أو الامتحان بنجاح قوامه ما وعده به مالكه سبحانه وتعالى من صلاة عليه وأكرم بها  ورحمة به وأجمل بها ، وهداية من عنده  وأنعم بها .

 وليس صابرا من جزع  لحظة شدة البلاء ، واستفرغ وسعه في جزعه حتى إذا تراخى الزمن  به ، وخف وقع المصاب لاك عبارة"  إنا لله وإنا إليه راجعون " وتكون مجرد قول فاقد للدلالة على التأدب مع الله عز وجل وقد سبقها الجزع ، وهي حينئذ   بمثابة جسد بلا روح .

أجل إن الإنسان كما فطره خالقه سبحانه وتعالى يحزن ويتألم ، ويذرف الدمع ،وذلك من طبيعته وجبلته لكنه وهو مؤمن راسخ الإيمان لا يعدم الصبر والجلد وهو يعاني من الحزن والألم ، وإنه لأحب ما يكون عند خالقه سبحانه وتعالى وهو على تلك الحال من الصبر والجلد بالرغم من معاناته ، ولا يعد الشعور بالحزن أو ذرف الدمع  مع الصبر والجلد جزعا ،إنما الجزع  هو الافتقار إلى الصبر والجلد  والتعبير عن ذلك  بما ينقض قول "  إنا لله وإنا إليه راجعون" بما لها من دلالة .

ولقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموت ابنه إبراهيم عليه السلام ، فذرفت عيناه ، فأنكر منه ذلك عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه قائلا : " وأنت يا رسول الله ؟ فأجابه عليه السلام  : " يا ابن عوف إنها رحمة"  ثم أتبعها بأخرى فقال : " إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التأدب مع الله عز وجل بألا نقول إلا ما يرضيه ، وما يرضيه هو ما أمرنا بقوله : " إنا لله وإنا إليه راجعون " شريطة أن يكون هذا القول مقترنا بصبر وجلد ، ولا تثريب حينئذ  على من حزن قلبه، ودمعت عينه .

إن أمتنا قد فجعت هذا الأسبوع  بالزلزال المدمر في تركيا وسوريا ، وفقدت أبناءها وبناتها صبية ،وشبابا، وشيبا ، وحري بنا أن نقف وقفة تأمل وتدبر مع البشارة التي وعدنا  بها الله تعالى جزاء الصبرعلى هذا المكروه العظيم لنجدد إيماننا ، ونزيده ترسيخا في النفوس ، ونتمثل جيدا  قول: " إنا لله وإنا إليه راجعون " بما فيه من تأدب مع خالقنا سبحانه وتعالى  ورضى بما قضى.

وعلى أمتنا الإسلامية أن تسلو كل بلاء أمام هذا البلاء العظيم ، ويكون زادها ما رغب فيه خالقنا سبحانه وتعالى من صبر جميل .  

اللهم إنا راضون بكل قضاء قضيته ، ونحن موقنون أن في كل ما قضيت عدلا ولطفا ورحمة . اللهم إنا لا نقول في هذا الذي أصابنا إلا ما يرضيك ، ولا نسألك رد قضائك بل نسألك اللطف فيه . اللهم ألهمنا صبرعبادك المهتدين، وأجعل لنا عوض خير عن كل ما ابتليتنا به آمين يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1019