( وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى )

من المعلوم أن غاية الغايات على الإطلاق من وراء الايمان بالله تعالى اعتقادا ،والإسلام له سلوكا وعملا هي ابتغاء مرضاته المفضية إلى رحمته وجنته ، واجتناب سخطه المفضي إلى عذابه .

ولقد بشر سبحانه وتعالى ،وأنذر، وأعذر في محكم كتابه ، وأكثر في آياته من تعداد واسع رحمته  التي وسعت كل شيء، وقد فاقت مواطن ذكرها مواطن ذكر عذابه ، ومنّ علينا معشر المؤمنين بفرص سانحة  للمسابقة والمسارعة إلى رحمته وجنته ، وضمّن تلك الفرص بعض أيامه التي منها شهر الصيام الفضيل الذي أكرم الخلق فيه بنزول وحيه الهادي إلى صراطه المستقيم . ولقد جعل أوله رحمة ، ووسطه مغفرة ،وآخره عتقا من النار كما بشّر بذلك سيد الأخيار عليه الصلاة والسلام ما تعاقب الليل والنهار.

ومن البشارات الإلهية السخية  قوله جل وعلا في محكم التنزيل : (( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى )) ، ففي هذه البشارة تأكيد لمغفرته سبحانه وتعالى بحرفين يتمحضان للتوكيد ، وذلك لبعث كبيرأمل في نفوس التائبين ، وقد بلّغهم وهم عصاة شهرالصيام والقيام ، فصاموا ،وقاموا من أجل إدراك فرصة التوبة ، وهو مؤمنون به ، وهم يجتهدون بصالح الأعمال ، وقد عقدوا العزم، واعطوا على ذلك عهدا بالاهتداء الدائم  .

وعند التأمل في هذه الآية الكريمة التي يجب أن ينظر إليها من حيث عموم لفظها لا من حيث  خصوص سببها، وقد جاءت في سياق امتنان الله عز وجل على بني إسرائيل وقد متعهم بأفضاله، ونعمه فجحدوها، وكفروها ،ولم يشكروها، ومع ذلك لم ييئّسهم من مغفرته، وقد جاء تعبيره عنها بصيغة المبالغة ، وأكدها لهم تأكيدا  لمزيد رغبتهم فيها عسى أن يتوبوا، وينيبوا ، فإننا نجد الله تعالى قد جعل ما وعد به من مغفرة لجميع خلقه إلى قيام الساعة ، وقد ضمّنها رسالته الخاتمة إليهم جميعا ، كما أننا نجد أنه عرض مغفرته عليهم  ونعمت السلعة الغالية ، وجعل لها ثمنا بعملة صعبة تناسب قيمتها الغالية ،وهي عبارة عن توبة تكون توبة نصوحا ، وإيمانا راسخا لا يلابسه شك أو ريب ولا يفسده شرك ظاهر أو خفي ، وعملا صالح لا يلابسه فساد ، و يرضاه سبحانه وتعالى ، واهتداء يدوم، ولا ينقطع وقد جعله آخر الثمن ، وعطفه على ما سبق بحرف عطف يفيد التراخي ليكون ذلك دليلا على دوامه، واستمراره حتى لقائه جل في علاه .

مناسبة حديث هذه الجمعة من جمع  هذا الشهر الفضيل الذي زادها به الله تعالى فضلا باعتباره شهر مضاعفة الأجور ،هو تذكير المؤمنين بأننا قد تقدمنا في هذا الشهر من أجل  طلب الحصول على سلعة الله الغالية بإعلاننا التوبة النصوح ، وهي الشطر الأول من ثمن هذه السلعة ، وحريّ بنا أن نخلّص إيماننا من كل شوائب الشرك ما ظهر منه وما بطن ، وهو الشطر الثاني من ثمنها ، وعقدنا العزم على دفع الشطر الثالث، وهو التزام صالح العمل الخالص لوجه الله تعالى ، وقد نكون قد لامسنا بعضه في صيامنا  توفيقا من الله عز وجل ، كما عقدنا العزم على مداومة الاهتداء وملازمته بعد انصرام أيام رمضان ، وهو ما يلزمنا عدم الخروج عما كنا عليه ونحن صيام وقيام، لأن  شهر رمضان لا تنقضي أحواله بانصرام أيامه المعدودات، بل لا بد أن تستمر تلك الأحوال التي يجددها لنا كل عام  يبلغنا الله تعالى إياه. وما جعل الله تعالى ليلة من لياليه خيرا من ألف شهر إلا لينبهنا بأن نظل على الحال التي نمر بها في تلك الليلة من استغفار، وتقرب إليه سبحانه وتعالى بصالح الأعمال ، وبعقد العزم على البقاء على ذلك سائر الأيام.

وإذا ما مر بنا شهر الصيام، وقدعاهدنا الله عز وجل بصدق على دفع ثمن سلعته الغالية  توبة، وإيمانا، وعملا صالحا ،واهتداء ثم أخلفنا دفع الثمن كاملا أو ماطلنا في دفعه، كانت خسارتنا فادحة بتضييع الحصول على تلك السلعة الغالية .

وعلينا أن نتصور فداحة هذه  الخسارة ،ونحن الذين نحزن شديد الحزن على كل أنواع الخسارة التي تلحق بنا حين نخسر غرض الدنيا الزائل، فما بالنا إذا خسرنا سلعة الله الغالية .

اللهم يا رحمان، يا رحيم ، يا ودود، يا رؤوف، يا رحيم ،يا غفور كما بلّغتنا رمضان، وليلته الغراء، لا تحرمنا سلعتك الغالية التي هي مغفرتك المفضية إلى عتقنا من النار. اللهم تجاوز عنا تقصيرنا في أداء ثمن سلعتك جودا منك ورحمة وفضلا ونعمة . اللهم لا تجعل أجواء شهر الصيام تفارقنا بعد انصرام أيامه المعدودات ، واجعلها ملازمة لنا سائر الأيام إلى أن نلقاك ونحن على ذلك ، وأنت راض عنا .

اللهم إنا نعوذ بك من تضييع سلعتك ، ومن نقض عهدنا معك ، ومن التقصير في أداء ثمنها توبة، وإيمانا، وعملا صالحا ،واهتداء يدوم، ولا ينقطع أبدا .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1029