( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم )

من المعلوم أن الكذب وهو نقيض الصدق يطلق على كل قول مخالف للحقيقة عن عمد وسبق إصرا العلم  واليقين بها ، وهو آفة وخيمة العواقب نظرا لما يترتب عنها من أضرار خطيرة قد تصل إلى حد إهلاك الناس، وإزهاق أرواحهم ،وإهدار دمائهم، فضلا عن إلحاق الخسارة الفادحة  بأعراضهم وأموالهم ....

ويعظم جرم الكذب ، وتزداد خطورته وآثاره الوخيمة على بني البشر بقدر ما تكون عليه أهمية وقيمة الحقائق التي يروم طمسها. وإذا كان تداول الكذب بين الخلق  مذموما ومحرما شرعا، وعرفا، وعادة لما ينالهم بسببه من أضرار ، فإن الكذب على الخالق سبحانه  وتعالى ـ وإن كان لا يضرونه شيئا ـ هو الأقبح  على الإطلاق لما فيه من إخفاء و طمس لحقائقه  التي لا يرقى إليها شك أو ريب ، و التي لها الأدلة الدامغة المفحمة لكل من يخوض فيها خوض إنكار أو جحود .

ولقد ورد في بعض آيات الذكر الحكيم ـ وهو الرسالة العالمية الخاتمة إلى العالمين حتى قيام الساعة ، وهي تلزمهم جميعا لا يستثنى منهم أحد ، وليس لهم  بعدها على الله عز وجل حجة  يحتجون بها إذا ما جمعهم يوم الحساب ـ ذكر للكذب على الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهو ما جعله جل جلاله ينهى الخلق عنه نهيا فيه أشد التحذير كما هو الشأن بالنسبة لقوله سبحانه وتعالى : ((  إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم )) ، ومع أن سبب نزول هذه الآية قد وردت الإشارة إليه قبلها مباشرة في قوله جل وعلا : (( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام  لتفتروا على الله الكذب ))ـ وقد ورد في كتب التفسير أن المستهدفين بهذا الخطاب الإلهي هم المشركون  زمن نزول الوحي ـ فإن حكمها ينسحب على كل من افترى على الله عز وجل كذبا مهما كان نوع كذبه إلى يوم القيامة  لأن العبرة في كلامه جل وعلا بعموم لفظه لا بخصوص سببه .

ولقد وردت في الذكر الحكيم إشارات إلى نماذج من الكذب المفترى على الله عز وجل ،علما بأن الافتراء عليه عبارة عن اختلاق القول الكاذب  أو التقوّل الكاذب عليه كادعاء البنوة له تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهو افتراء أهل الكتاب من يهود ونصارى كما أخبرنا بذلك جل شأنه في قوله  : (( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون )) . ولم يقتصر هذا الافتراء على نسبة  بنوة عزير والمسيح  له تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل ادعوا أنهم أيضا أبناؤه وأحباؤه كما أخبر بذلك عنهم في قوله تعالى : (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلما يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء وبعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير )) .

ولم يقتصر افتراؤهم على هذا فقط بل افتروا عليه سبحانه وتعالى كذبا، فزعموا أن النار لن تمسهم يوم القيامة إلا أياما معدودة كما أخبر بذلك في قوله عز من قائل : ((  وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة  قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون )) . ..وهناك افتراءات أخرى لهم  سجلها القرآن الكريم .

ولقد اشترك كفار ومشركو قريش مع أهل الكتاب في افتراء الكذب على الله تعالى علوا كبيرا ، ومن افترائهم  أنهم كانوا يحرمون ما أحل، ويحلون ما حرم ، وقد حذرهم  مما كانوا يفترون عليه ، وهو تحذير موجه بعدهم  إلى عموم البشر مهما كان نوع التقوّل المفترى عليه سبحانه وتعالى .

ولم يقتصر الافتراء على الله عز وجل على أهل الكتاب والمشركين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ظهرت أنواع  كثيرة من الافتراءات عليه دعت إليها أهواء كثير ممن فرقوا دينهم بعد البعثة النبوية ، وكانوا شيعا وقد برأ سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم منهم فقال : (( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون )) ، وقد جاء في كتب التفسير أنهم أهل الكتاب ، كما قيل إنهم أهل البدع والضلالة  من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه ، وذهبوا في تأويله بأهوائهم ، وقد سجل التاريخ بعد النبوة طوائف عديدة ، منهم من أله البشر أو ادعى العصمة لغير أنبياء ورسل الله صلواته وسلامه عليهم ، ومنهم من نسب للمخلوق  من الأفعال ما اختص بفعله  الله عز وجل ، وجعلوا يدعونهم ، ويسألونهم، ويستجيرون بهم أحياء وأمواتا  كما يدعى ويسأل ويستجار الله عز وجل ، ويزكونهم عليه تزكية الموقنين  غير الظانين ، وكل ذلك من افتراء الكذب عليه سبحانه وتعالى .ولا زالت تلك الافتراءات موجودة إلى زماننا هذا فضلا عن افتراءات من اختراع هذا العصر ، وإن كانت لها سوابق قد ورد ذكرها في كتاب الله تعالى حيث ظهر في الأمة من يطعن في مصداقية ما صح من أخبار عن رسول الله صلى الله عليه ، ومن يتأول آيات الذكر الحكيم تأويل الأهواء ، وينادي بتعطيل بعض أحكامها بذريعة عدم مسايرتها للعصر ... إلى غير ذلك من الافتراءات التي حذر منها الله عز جل أشد التحذير ، وتوعد المفترين أشد العذاب وسوء المصير .

وما يجمع بين المفترين على الله عز وجل  الكذب قديمهم وحديثهم أنهم يريدون من وراء افترائهم عرض الدنيا الزائل الذي وصفه الله تعالى بأنه متاع في قوله عز من قائل  : (( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم)) ، ومعلوم أن المتاع هو كل ما ينتفع به انتفاعا قليلا غير باق ، وينقضي عن قريب ، وقد يكون هذا المتاع المطلوب للمنفعة ماديا، وكما أنه قد يكون معنويا كالجاه ،والشهرة ، والمنصب، والمكانة ، والتزلف إلى ذوي المكانة... إلى غير ذلك مع أنه كله إلى زوال ، ويعقبه ما توعد به الله تعالى  كل من رام بافتراء  الكذب عليه .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تحذير المؤمنين من خطر الوقوع في افتراء  الكذب على الله عز وجل بكل أشكاله وأنواعه وأساليبه ،لأن كثيرا منهم يقع فيه عن طريق التقليد الأعمى ظنا منهم أنه من الدين ،و ما هو مما ابتدعه المبتدعون ، واخترعه الضالون المضلون . ومعلوم أن العاصم من الوقوع في افتراء الكذب على الله عز وجل هو التمسك بكتابه  دون الخوض في تأويل آياته تأويل الأهواء ، والتمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دون إنكار ما صح منها أو حمله  أو تأويله على غير ما قصده عليه الصلاة والسلام الذي أوصنا بالتمسك بكتاب الله عز وجل وقد بينه لنا  ما صح من سنته.

 وما عدا ما أمر صلى الله عليه وسلم التمسك به تنصيصا  وتحديدا إنما يكون مما  التبس أمره عند أهل البدع والضلالات كما يخلط  بعضهم بين أمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بكتاب الله عز وجل ، وبين وصيته بعترته، فجعلوا هذه الوصية بمنزلة التمسك  بهم ،علما بأن من صيغ الحديث الذي نص على التمسك بكتاب الله عز وجل  عليه قوله : " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به،  وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " . ولقد أجمع أهل العلم أن رسول الله أمر بالأخذ والاستمساك بكتاب الله عز وجل وجعل ذلك مقتصرا عليهما ،  في حين أوصى خيرا بآل بيته تعظيما  وتوقيرا لهم ، وبين الأخذ والاستمساك بكتاب الله عز وجل، وتعظيم وتوقيرعترته صلى الله عليه وسلم فرق واضح في سياق حديثه ، ولا يزعمن أحد أن اشتراك العترة مع كتاب الله عز وجل في الثقل الدال على عظمة الشأن في اللسان العربي، يعني اشتراكهما أيضا في الأخذ والاستمساك كما يدعي بعضهم، لأن العترة نفسها إنما تأخذ من كتاب الله عز وجل  ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتستمسك بهما ، وليس لها مصدر أخذ  واستمساك غيرهما . ومما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بعترته تكرار قوله : " أذكركم الله في أهل بيتي "، وهي عبارة تتمحض في اللسان العربي للوصية حيث يذكر من يوصى بما يلزمه  تجاه من يوصى به ، وما يلزم الأمة تجاه عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو توقيرها وتعظيم شأنها دون أن تدّعى لها العصمة أو تسألها كما يسأل الله تعالى لقضاء الحوائج .

اللهم إنا نبرأ إليك من كل وقوع في افتراء الكذب عليك مهما كان نوعه أو صيغته أو دلالته المفهومة منه تصريحا أو تلميحا مما تعمدناه ومما لم نتعمده .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسوم: العدد 1033