( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيّتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا)
حديث الجمعة :
مواصلة للأحاديث المتعلقة بأحوال وصفات المنافقين الواردة في الذكر الحكيم ،نسرد اليوم ما جاء من ذلك في الآية الواحدة والثمانين من سورة النساء التي يقول فيها الله عز وجل : (( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيّتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا )) ، وقد سُبِقت هذه الآية الكريمة بالآيتين الثمانين ، والتاسعة والسبعين من نفس السورة واللتين قال فيهما الله تعالى : (( وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليه حفيظا )) ، وواضح أن فيهما إخبار بإرساله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعموم الناس بين يدي الساعة ، وشهادة منه سبحانه وتعالى على ذلك، ثم أمر منه بطاعة رسوله التي هي من طاعته جل في علاه . وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شهد له رب العزة جل جلاله بالرسالة والتبليغ عنه مباشرة أن يأمر الناس أو ينهاهم بغير ما كلف بتبليغه .
وفي هذا السياق تحددا جاء الحديث عن حال من أحوال المنافقين الذين يقوم نفاقهم على أساس إبطان عكس ما يظهرون اعتقادا وسلوكا ، ذلك أنهم من حيث الاعتقاد يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان ، ومن حيث السلوك يظهرون الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حضرته فيما يأمرهم به ، وفيما ينهاهم عنه ، وهم يبطنون عكس ذلك ، فإذا خرجوا من عنده قرروا سرا عدم طاعته ، وقد جاء في كتب التفسير أن التبييت هو ما يقرر أو يعد من أمور سرا بليل لكون الليل أنسب لكتمان الأسرار . ومن أثر إضمار المنافقين للكفر أنهم يغفلون عن علم الله عز وجل بما يبيّتون وهو عالم الغيب والشهادة ، وعالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ،ويسجل أفعال العباد في كتب تعرض عليهم يوم الحساب فيجازون بما فعلوا مما حوتهم كتبهم التي كانت تدون لحظة بلحظة ، ولا يلابسها سهو أو نسيان أو إغفال أو إهمال .
ولما كان هذا هو حال المنافقين في إظهار الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطان معصيته ،وقد كشف عنه النقاب وحي من الله عز وجل ، فقد أمر سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم ، وعدم الاكتراث بأمرهم ، ومخالفتهم لما يؤمرون به ، وعدم الأسف عليهم ، لأن الله تعالى كفاه شر ما يبيّتون ، وهو نعم الوكيل الذي يوكل له كل أمر، وهو أوفى بانجازه تاما غير منقوص . وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه بالتوكل عليه فيه عزاء لنفسه التي ربما أسفت وقد كشف له الله تعالى خيانة المنافقين له بإظهار طاعتهم له علنا ، وإبطان مخالفة ما يدعوهم إليه من طاعة . ولا يوجد ما يعزي النفس حين يخذلها الخلق خير من اليقين بالتوكل على الخالق سبحانه وتعالى، وهو خير ما يعوضها عما تفقده أو تفقد الثقة فيه .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل ، لا بخصوص أسباب نزوله، لأنه سبحانه وتعالى ضمن كلامه شريعته التامة الكاملة للعالمين إلى قيام الساعة، ولا يشذ أحد مهما كان عن الخضوع لها ، ولا يمكن القول إن كلامه يلزم من أنزل فيهم فقط ، فإن كل من أظهر طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي من طاعة الله عز وجل ، وأبطن مخالفته متعمدا ذلك يكون في حكم من يغامر بحشر نفسه في زمرة المنافقين حتى يتوب من ذلك توبة نصوحا ، وقد فتح الله تعالى باب التوبة على مصراعيه ، ومد في زمن إشراعه إلى ما قبل لحظة الغرغرة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي في نفس الوقت تذكير وتحذير المؤمنين من الوقوع سهوا أو غفلة في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تعتبر طاعته من طاعة الله عز وجل، خصوصا ونحن نعيش في زمن ظهر فيه بعض من يسمون أنفسهم بالقرآنيين الذين لا يعيرون أهمية لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواله وأفعاله ، ويزعمون أنه بإمكانهم إقامة دين الله وشريعته على المنهج الصحيح باعتماد القرآن الكريم وحده دون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ظهر فيه من يطعنون في كتب الحديث التي تضمنت أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جعل الله تعالى طاعة صاحبها عليه الصلاة والسلام من طاعته في محكم التنزيل ، و فيه من يظهرون للمؤمنين طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا خلوا إلى بعضهم بيّتوا غير ذلك ، وكادوا لدين الله كل كيد خدمة لأجندات أعداء الإسلام على اختلاف مشاربهم كفارا ملحدين ومشركين ، ومنافقين موالين للكافرين .
وإن مجاراة هؤلاء المشككين على اختلاف أنواعهم فيما أوجب الله تعالى من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم التي هي من صميم طاعته جل وعلا أو المستخفين بها سرا أو علانية، يوشك أن يحشروا أنفسهم فيمن ذمهم الله عز وجل من أهل النفاق .
وإنه لمن الواجب على المؤمنين إذا ما تأكدوا من تبييت المبيتين الذين يستهدفون دين الله عز وجل أن ينصاعوا لأمر الله تعالى بالإعراض عنهم، وعدم الاكتراث بهم أو خشيتهم مهما كان له من صول، وحول، وقوة، ويكون توكل في ذلك عليه سبحانه وكفى به وكيلا.
وإننا لنمر بظرف عصيب تُسوَّق فيه بعض الجهات المغرضة من الآراء والأفكار التي يراد من ورائها صد الأمة المؤمنة عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر من نصرة إخوانهم المستضعفين المرابطين في أرض الإسراء والمعراج ، والتخلي عنهم ، وهم تحت حصار خانق ، وتجويع قاتل ، وإبادة جماعية بأساليب في منتهى الوحشية حيث يستدرجون وهم جياع إلى مراكز توزيع الطعام ثم يقنصون ، ويتسلى قناصتهم الصهاينة بقتلهم وهم على تلك الحالة المزرية من الخوف والجوع والإنهاك وفيهم صبية ونساء وعجزة.
وإنه لا يحسن بمن يُحسَبون ورثة النبي صلى الله عليه وسلم من العلماء الذين ورَّثهم العلم أن يسكتوا عن هذا المنكر الشنيع ، ولا يجهروا بإدانته ، وشجبه ، ودعوة الأمة إلى القيام بالواجب المطلوب نحو أولئك المستضعفين . ولا يحسن بعلماء الأمة أن ينشغلوا عن هذا الواجب الشرعي الملح بالاشتغال بما دونه إلحاحا وأهمية ، ويتعين عليهم أن يستحضروا قول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )) ولقد وصف الله تعالى في هذه الآية الكريمة السادسة والخمسين من سورة المائدة محبته ، والذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، والجهاد في سبيله، وعدم الخوف من لوم اللائمين فضلا منه يؤتيه من يشاء ممن يحبهم من عباده المؤمنين ، فابتغوا معاشر العلماء هذا الفضل عند الله عز وجل ، وكونوا في طليعة الأمة تذكرونها بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمرهما بإغاثة إخوانكم المستضعفين الذين يلوذون بكم ليل نهار لشهورمتتالية ، ويشكون إلى الله تعالى ما نزل بهم من بلاء عظيم وهم صامدون، وصابرون ، ومحتسبون ، لا يحزنهم سوى خذلان الأمة لهم.
وعلى الأمة المؤمنة أن تنصاع بدورها إلى أمر الله تعالى ، وألا تعول على الأعذار الواهية ، وتكتفي بالتحسر على حال أولئك المستضعفين ، مع أنه في وسعها أن تقوم بما يخفف عنهم ما هم فيه من شدة وسوء أحوال . ولتعلم الأمة أنها ستسأل بين يدي الله عز وجل يوم القيامة عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المستضعفين ، وما لها يومئذ من أعذار.
اللهم رد بأمة الإسلام إلى هديك ردا جميلا عاجلا غير متأخر ، وهدي رسولك صلى الله عليه وسلم ، وعجل لها بذلك في هذا الظرف العصيب . اللهم قو عزيمتها وعزيمة علمائها ،وولاة أمورها للنهوض بواجب نصرة إخوانهم المستضعفين ، وقد استحر فيه الموت تقتيلا وتجويعا ، ولا حول ولا قوة إلا بك يا علي يا عظيم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1130