الخاطرة ٢٣٠ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٣١

خواطر من الكون المجاور

في المقالة الماضية تكلمنا عن منهج مدرسة آل البيت وذكرنا أمثلة عن علوم الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام لتعطينا فكرة عامة عن هذا المنهج ، وحتى نفهم بشكل أوضح طبيعة منهج مدرسة آل البيت وإختلافه عن طبيعة علوم الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، سنذكر لكم حقيقة إلهية وضعها الله في التراث الإسلامي لتساعدنا على فهم هذا الفرق . فإذا عدنا إلى كتب التراث الإسلامي سنجد أن أولئك الذين كانوا يبحثون في النصوص الدينية في فترة صدر الإسلام كان يطلق عليهم لقب (قراء) وليس (علماء) ، وهذه التسمية ليست صدفة ولكن حكمة إلهية ،

فعلوم الصحابة والتابعين وأتباع التابعين كانت تعتمد على علم واحد وهو علم اللغة العربية، والسبب هو أن الإسلام ظهر في مكة وهذه المنطقة والمناطق المحيطة بها كانت خالية من الحضارات القديمة التي قامت بتطوير العلوم ، لذلك كانت علوم سكان هذه المنطقة علوم بدائية تعتمد على تراث الديانات الموجودة في المنطقة وبدون أي تنوع في الفروع العلمية ، ولهذا كان من الطبيعي أن يكون مستوى اجتهادات سكان هذه المنطقة في فهم الآيات القرآنية والآحاديث الشريفة أن تعتمد فقط على درجة فهم اللغة العربية .

أما بالنسبة لأئمة مدرسة آل البيت فكان الأمر يختلف ، فكانت إجتهاداتهم تعتمد على جميع الفروع العلمية بحيث تجعل تفسيراتهم للنصوص الدينية تأخذ رؤية شاملة للموضوع، لهذا نستطيع أن نقول أن مصطلح (علماء) في تلك الفترة كانت تنطبق فقط على أئمة مدرسة آل البيت . فلو كان باستطاعتنا العودة إلى تلك الفترة الزمنية لرأينا أن جميع الذين لعبوا دورا هاما في تكوين الحضارة الإسلامية كانوا من تلامذة مدرسة آل البيت أو من أتباع تلامذة آل البيت ، ولكن بسبب الإضطهاد السياسي الذي كانت تواجهه مدرسة آل البيت هو الذي جعل دورها يبقى سرا في قلوب المسلمين فلم يظهر دورها في كتبهم ليصل إلينا على حقيقته . ففي تلك الفترة كانت الاوضاع مختلفة كثيرا عما نعتقده اليوم فجميع أولئك المفكرين المسلمين كانوا قد اتبعوا تعاليم مدرسة آل البيت فلم يكن يهمهم على الإطلاق موضوع أحقية الخلافة بمعناه السياسي فهم كانوا يؤمنون تماما بأن الأمة يقودها علماءها وليس رجال السياسة . ولكن كان هناك طرف آخر يتبعون منهج الإسلام السياسي المعروفين باسم نواصب ورافضة فهولاء هم الذين كانوا في نزاع مستمر على السلطة السياسية . وللأسف اليوم نجد العلماء يبحثون بشكل عشوائي في كتب التراث الإسلامي ، فنجدهم يخلطون بين كتب التراث الحضاري وكتب التراث السياسي ، ولهذا بدلا من أن يخرجوا في أبحاثهم لما حدث بشكل واقعي في عالم الفكر الإسلامي الحضاري ليفهم مسلمي اليوم حقيقة ذلك النور الذي كان يضيء نفوس المسلمين في عصر الحضارة الإسلامية لتساعد أبحاثهم في توحيد الأمة الإسلامية نجدهم و بسبب تعصبهم المذهبي يخلطون الأمور بين التراث الحضاري والتراث السياسي فجعلت أبحاثهم تساهم في تشتيت الأمة أكثر فأكثر . فهذا التعصب الطائفي الذي نجده اليوم كان موجودا فقط في اتباع المنهج السياسي والذي يعارض تماما منهج مدرسة آل البيت . فالذي يحصل اليوم أن الكثير من مسلمي السنة عندما يسمعون أحدهم يتكلم عن أئمة آل البيت نجدهم مباشرة وبدون وعي يتهمونه بأنه شيعي رافضي ، ولكن إذا عدنا إلى كتب التراث سنجد أن أتباع منهج الإسلام السياسي كانوا يتهمون محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي السني بأنه شيعي لأنه كان يذكر فضل آل البيت.و الأمر نفسه يحدث مع الشيعة فعندما يتحدث أحدهم عن فضائل أبو بكر رضي الله عنه نجدهم يتهمونه بأنه سني ناصبي رغم أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان يدافع عن أبو بكر رضي الله عنه ، ما نريد أن ننوه له هنا أن المسلمين المؤمنين الذين ساهموا في تأسيس الحضارة الإسلامية كانوا يعملون معا كيد واحدة وليس كطوائف ، أما المسلمين المنافقين فكانوا هم الذين ينشرون الفتن بين المسلمين بهدف الوصول إلى السلطة ، وهؤلاء هم الذين جعلوا من التراث الإسلامي تراث ملطخ بالدماء.

لهذا في أبحاثي أعتمد بشكل رئيسي على فكر مدرسة آل البيت وليس على فكر القراء ، لأن أئمة آل البيت كانوا هم فقط علماء تلك الفترة ، فالحديث الشريف يقول ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ) ، العلماء اليوم ينظرون إلى هذا الحديث نظرة حرفية فلم يفهموا علاقة هذا الحديث مع أئمة أهل البيت، فكما ذكرنا في المقالة الماضية أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام الذي على زمنه ولأول مرة تم تحرر مدرسة آل البيت من إضطهاد السلطة الحاكمة فسمحت لها الظروف بنشر علومها إلى جميع مناطق الأمة الإسلامية لتساهم في تكون القاعدة العلمية لتأسيس الحضارة الإسلامية، فما حدث في تلك الفترة الزمنية القصيرة لم يكن صدفة ، فالإمام جعفر الصادق هو الإمام السادس أي أنه رقم (٦) من قانون الإثنا عشرية، وكانت وفاته في نهاية عام ١٤٨ هجري ، المدة الزمنية بين هجرة المسلمين إلى المدينة وعام وفاة جعفر الصادق عليه السلام هو (٦٠٠) عام عطاردي ، وهي المدة الزمنية التي عاشها الأئمة الستة (علي ، الحسن ، الحسين ، زين العابدين ، محمد الباقر ، جعفر الصادق ) عليهم السلام ، فهؤلاء الستة هم الأئمة الذين جددوا فهم الدين ووضعوا القاعدة العلمية لتأسيس الحضارة الإسلامية . فالإمام جعفر الصادق عليه السلام هو الذي جمع علوم الأئمة قبله ليدرسها في مدرسة آل البيت ، فتحرر مدرسة آل البيت في تلك الفترة الزمنية بالذات لم يكن صدفة ولكن حكمة إلهية ترمز لإنتهاء القسم الأول من قانون الإثنا عشرية وبداية القسم الثاني منه .

أما بالنسبة لتفسير دور القسم الثاني من أئمة أهل البيت، فهو موضوع آخر خارج عن موضوعنا الرئيسي وإن شاءالله سنتكلم عنه في المستقبل .

حتى يتم توضيح دور جعفر الصادق عليه السلام الإمام السادس بشكل مبسط في تلك الفترة التي عاشها ، سنذكر لكم هذا المثال البسيط : عندما تحصل حادثة ما تُحدث ضجة في سكان الحي ، نجد جميع سكان الحي بدافع الفضول يحاولون تفسير هذه الحادثة ، فنجد كل واحد منهم يعطي رأيه ، فتظهر آراء عديدة مختلفة ومتناقضة عن هذه الحادثة ، وهذا تماما ما حصل في فترة حياة الإمام جعفر الصادق ، فبسبب ظهور كتاب (المناظرة) للقديس يوحنا الدمشقي ، وكذلك بسبب إحتكاك المسلمين مع حضارات وديانات الشعوب المجاورة اليونانية والمصرية والفارسية والهندية ، ولأن بعض هذه الإختلافات كونها وحي من الله وليس من فكر إنسان ، وجد بعض المسلمين فيها شيء من الصحة رغم أنها قد تبدو مناقضة للنصوص الدينية الإسلامية ، لذلك راح أولئك المسلمون الذين اعتمدوا مبدأ الحقيقة فوق كل شيء يحاولون تبرير تلك الإختلافات ، ولكن بسبب إنخفاض مستوى علومهم كانت تبريراتهم ضعيفة . في تلك الفترة بالضبط ظهرت وانتشرت علوم مدرسة آل البيت ليعتمد عليها المسلمون كمبادئ أساسية في أبحاثهم ، فكان هدف علوم مدرسة آل البيت دفع العلماء المسلمين في البحث فيها من خلال تلك المقدرة التي وهبها الله لكل واحد منهم . فبدأت تظهر تيارات فكرية ودينية عديدة حيث كل تيار في تلك الفترة كان يمثل زاوية رؤية خاصة به . وكون كل زاوية رؤية هي علم خاص بنفسه ، بدأ كل عالم مسلم يستعين بعلوم الحضارات المجاورة بما يطابق مبادئ مدرسة آل البيت لكي تساعده في تنمية مقدرته في العلم الذي يبحث به ليحاول إعطاء رأيه في مسألة من تلك المسائل التي كانت تشغل فكر المسلمين .

بسبب إختلاف التكوين الروحي لكل عالم بدأت تظهر زوايا رؤية عديدة وكل زاوية راحت تعطي مفهوم جديد للشيء المدروس . هذا التنوع في زوايا دراسة الأشياء كان القاعدة الرئيسية التي تكونت عليه الحضارة الإسلامية ، فظهر علماء الدين الذين على اجتهاداتهم تكونت المذاهب الدينية ، وظهر علماء الطب ، وعلماء الفلك وعلماء الكيمياء والفيزياء والمنطق والرياضيات والتاريخ .

قبل عهد جعفر الصادق عليه السلام كان المسلمون بشكل عام يعتمدون على علماء الشعوب المجاورة في تأمين الإحتياجات المادية للمجتمع الإسلامي كالاطباء والمهندسين وغيرهم ، ولكن بعد تحرر مدرسة آل البيت من السلطة السياسية ، شعر المسلمون بأنهم بحاجة إلى علوم عديدة لتأخذ هذه العلوم الشكل الذي يناسب فكر وعقيدة الإسلامية ، فنجد السلطة الحاكمة في عهد هارون الرشيد والمأمون ، تضطر إلى إنشاء جامعة كبيرة في بغداد سميت ( بيت الحكمة) وراحت تدفع أموال طائلة لترجمة الكتب العلمية ليتاح للمسلمين تعلمها وتطويرها لتستطيع الأمة الإسلامية الوصول إلى الإكتفاء الذاتي في مجال العلوم بشتى أنواعها . وكون الأمة الإسلامية قد نشأت على عقيدة روحية كان من بين أهم أنواع العلوم التي شغفت قلوب العلماء هو علم الفلسفة (الحكمة) .

ليس من الصدفة أن يأخذ علم الفلسفة المكانة الاولى في قلوب معظم أولئك المسلمين الذين حاولوا البحث عن الحقيقة ، فالفلسفة بمعناها الحقيقي هي علم يعتمد التأمل الفطري والعقلي في بحثه عن سبب وغرض وجود الإنسان في الكون، فهذا النشاط الفكري يحاول إيجاد وفهم تلك العلاقات التي تربط بين عناصر الطبيعة وعناصر الفضاء الخارجي وتأثيرها في التكوين الروحي والمادي للإنسان وكذلك يبحث في علاقة هذه الثلاثة : الطبيعة والفضاء الخارجي والإنسان مع الله الخالق لفهم المخطط الإلهي في خلق الكون . لهذا تعتبر الفلسفة هي أم جميع العلوم بشتى أنواعها سواء كانت دينية أو فنية أو علوم مادية . فالفلسفة هي تلك التي تضع حاجات المجتمع الإنساني المادية في حالة إنسجام مع حاجاته الروحية .

وكما ذكرنا في الأجزاء الأولى من سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم " أن علوم الحكمة ( الفلسفة) ظهرت لأول مرة في تاريخ البشرية من خلال النبي يوسف عليه الصلاة والسلام والتي سميت فيما بعد بالعقيدة الهرمسية ، ثم إنقسمت هذه العلوم إلى قسمين : القسم الروحي ذهب مع قوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى اليهود ، والقسم المادي ذهب إلى اليونان وظهر باسم (العقيدة أورفيكية) ، ومع ظهور بيثاغورس في اليونان الذي ذهب إلى مصر وبابل ثم عاد إلى بلاده وفتح مدرسته في بلدة كرتوني ، حاول دمج القسمين معا ثانية واستخدم لأول مرة مصطلح (الفلسفة) على تعاليم مدرسته التي تدرس علوم الحكمة ، ولكن مع ظهور أرسطو عادت الفلسفة وإنقسمت ثانية إلى قسمين : فلسفة مثالية يمثلها أفلاطون وفلسفة مادية يمثلها أرسطو . ولكن بسبب شعور بعض المفكرين بضعف كل قسم على حداه ، ظهرت محاولات عديدة لإعادة دمج القسمين من أجل تفادي نقاط الضعف في كل قسم ، فظهرت العقيدة الهرمسية ثانية ولكن بشكل جديد مختلف عن نسختها الاولى ، وكذلك ظهرت الفلسفة الأفلاطونية المحدثة التي حولت جمع آراء أرسطو المادية مع آراء افلاطون لتأخذ آراء ارسطو قالب أفلاطوني روحي .

جميع مراحل التطورات التي مرت على علم الفلسفة كانت موجودة وموزعة في كتب حضارات البلاد التي وقعت تحت سيطرة الامة الإسلامية ، في الكتب اليونانية والمصرية والفارسية والهندية . فهذه الكتب رغم وجود الكثير من الأفكار المشوهة فيها ولكنها كانت تحوي في صفحاتها جميع تلك المبادئ الصحيحة التي علمها النبي يوسف للشعب المصري القديم . فالذي حصل أنه عند إنفتاح الامة الإسلامية على فكر الشعوب المجاورة ذهب كل عالم ليجد فيها ذلك الجزء الذي يوافق زاوية رؤيته للنصوص الدينية ، فراح يتعمق بها أكثر ويطورها لتأخذ معنى اوضح يكشف معاني جديدة في النصوص الدينية والتي كانت مخفية من قبل على المسلمين لتساهم في تحويل الدين الإسلامي من دين نقل وعبادة تقتصر مهمته على علاقتين فقط : علاقة المسلم مع ربه ، وعلاقة المسلم مع المجتمع الذي يعيش به ، إلى دين يبحث عن علاقة الإنسان مع كل ما يحيط به ماديا وروحيا : علاقته مع الإنسان الآخر ، علاقته مع الطبيعة ، علاقته مع الكون ، علاقته مع الله الخالق .

وكون الفلسفة تعتمد على التأمل الفطري والعقلي في فهم هذه العلاقات المختلفة ، ظهرت تيارات فكرية مختلفة ، بعضها يعتمد على التأمل الفطري وبعضها يعتمد على التأمل العقلي وبعضها تحاول الجمع بين النوعين ، فظهرت أربع تيارات مشتقة من علوم الحكمة الحقيقية كما علمها الله لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام، هذه التيارات الأربعة كانت تختلف فيما بينها بنوعية طريقة التأمل : الباطنية ، الصوفية ، علم الكلام ، الفلسفية .

- الباطنية كانت تعتقد ان "لكل ظاهر باطنا والظاهر بمنزلة القشور والباطن بمنزلة اللب المطلوب" ، وكانت الفكرة الرئيسية لعلم الباطن هو معرفة الأبعاد الخفية للنصوص الدينية ، فهم كانوا يعتقدون أن هذه النصوص إلهية تحوي في داخلها رموزا تفسر حقائق لا يمكن للحواس أو المنطق أن يدركها ، وأن هذه الرموز تساعد في تأويل وتفسير النصوص الدينية وأن رؤية وفهم هذه الرموز لا يتوقف على ذكاء الإنسان ولكن على درجة الإيمان التي وصل إليها والتي تعطيه مقدرة روحية من الإتصال بالله واللوح المحفوظ فتأتيه المعلومات عن طريق وحي إلهي .

- الصوفية : بشكل عام هي تيار يعتمد بشكل أساسي على التأمل الفطري فهو يهتم بالتكوين الروحي الذي يتمثل بالأخلاق والسلوك ، معظم الفرق الصوفية تعتقد بوجود فرق بين المعرفة والعلم، فالعارف هو الإنسان والمعروف هو الله ومعرفة الله تحدث بشكل روحي مباشر دون وسائط مادية أو عقلية ، أما (العلم) بالنسبة للصوفيين فهو نشاط عقلي يمر بمراحل حيث يقوم على الحس أولاً، ثم يقوم على العقل ثانياً، فالمنهج في العلم حسي تجريبي عقلي، بينما التصوف يعتمد على أذواق وأحاسيس روحية لا يستطيع العقل قياسها ودراستها لأنها معرفة بالقلب، فالصوفية لا تستمد المعرفة من العالم الطبيعي المحسوس ولا من معلم ولا من كتاب، وإنما هي معرفة عن تجربة روحية باطنية، والعلم بمعناه الصوفي الروحي يختلف عن مصطلح (علم) المستخدم بمعناه الشائع ، فالعلم كوسيلة عقلية لا يستطيع أن ينال المعرفة الإلهية بواسطة حواسه، لأن الله ليس شيئاً مادياً يمكن إدراكه بالحواس، كما لا يمكن إدراك ذات الله تعالى بالعقل أيضاً، لأن الله وجوده غير محدود، ولا يدخل في الفهم والتصور ولا يستطيع منطق العقل البشري أن يتجاوز المحدود . فالمعرفة عند الصوفية تأتي عن طريق التجربة والسلوك العملي أكثر من اتصالها بالفكر والنظر إذ أنها تقوم على التجربة التي يخوضها الصوفي، وعند معاناته لتلك التجربة يحدث الكشف والإلهام فيريه الله ما شاء له أن يريه .

- فرقة المتكلمين : كما يقول ابن خلدون في توضيحه لهذه الفرقة يقول " علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه عن تلك العقائد وإذا تأملت حال الفن في حدوثه، وكيف تدرج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر وكلهم يفرض العقائد الصحيحة، ويستنهض الحجج والأدلة عَلِمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن وأنه لا يعدوه" ، فالمتكلمون اعتمدوا بشكل أساسي في تفكيرهم على صحة قواعد الإيمان، وامنوا بها إيمان مطلق، ثم اتخذوا أدلتهم العقلية للبرهنة عليها، فهم يعتمدون البحث العقلي بالأسلوب المنطقي لإثبات صحة عقيدتهم. لهذا كانت أبحاثهم محصورة فيما يتعلق بالدفاع عن عقيدتهم، ودحض حجج خصومهم، سواء أكانوا مسلمين يخالفونهم في الفهم ، أم كانوا غير مسلمين كالنصارى واليهود وغيرهم .

- الفلاسفة : الفلسفة في تلك الفترة كانت بشكل عام فلسفة ذات المذهب المادي لهذا كان أرسطو بالنسبة للمسلمين هو المعلم الاول لهذا العلم ، فرغم أنهم كانوا يعتمدون بشكل رئيسي على المنطق وعلوم الطبيعيات ولكن كانت أبحاث الفلاسفة المسلمين تدور حول الوجود والمعرفة والقيم، وما تشمله هذه المباحث الرئيسية من البحث عن الله والطبيعة والكون والإنسان، وتبحث في مبادىء الوجود وعلله، وفي وسائل المعرفة، وطبيعتها، وأدواتها، ومشكلة اليقين ، وفي القيم : من الحق والخير والجمال ، فحاول فلاسفة الإسلام أن يكون بحثهم الفلسفي من منظور ديني عقائدي فحرصوا أن يكون بحثهم يؤيد الدين ويؤكده ، ولكن بعضهم كانوا يغالون في استخدام العقل ، فحرروا العقل من كل قيد، وأخذوا بأحكامه، ورفضوا ما عداها، ونظروا في النصوص الدينية فإن وجدوها على وفاق معهم قبلوها، وإن وجدوها على خلاف ما انتهوا إليه صرفوها عن ظاهرها، وحملوها على المعنى الذي انتهى إليه بحثهم. في الفترة الأخيرة من الحضارة الإسلامية كان الإعتقاد السائد عند المسلمين بوجود خلاف واضح بين منهج المتكلمين ومنهج الفلاسفة في درجة استخدامهم للعقل في مجال القضايا الدينية ، فالمتكلم حسب إعتقادهم يستند إلى ما جاء به الدين من اعتقادات، ثم يلتمس الحجج العقلية التي تدعمه، أما الفيلسوف فيبحث بعقله، ويرى حقاً ما توصل إليه من دليل، المتكلم يعتقد ثم يستدل، أما الفيلسوف فيستدل ثم يعتقد.

إذا تمعنا جيدا في آراء هذه الفرق سنظن بوجود تناقضات بينها ولكن في الحقيقة ليست تناقضات ولكن إختلافات في زاوية الرؤية، فهناك أنواع عديدة من المعلومات ونوع كل معلومة هو الذي يحدد طريقة الحصول عليها فبعضها يأتي عن طريق تأمل فطري فتكون ناتجة عن وحي إلهي أو فهم رمز من الرموز التي وضعها الله فيما خلق ، وبعضها يأتي عن طريق تأمل عقلي بعد تحليل ودراسة . ولهذا كانت هذه التيارات الأربعة التي ذكرناها من ضمن علوم مدرسة آل البيت . فعلوم علي عليه السلام مثلاً كانت باطنية وعلم كلام وفلسفة ، أما علوم علي زين العابدين عليه السلام فكانت أقرب إلى الصوفية .

حتى نوضح طبيعة الإختلافات بين آراء العلماء سنعرض مثال عن تلك الإختلافات في المواضيع التي تتعلق بالإلهيات ، فكما ذكرنا في مقالة ٢٢٨ (فلسفة العصمة) أن هناك أربعة مفاهيم لمصطلح (إله) :

- الإله الصمد الذي خلق آدم وحواء والذي هو خارج الكون .

- الإله الذي هو داخل الكون والذي يمثل روح آدم وحواء وهو إله روح الخير العالمية.

- الإله الذي يمثل أحد الأجزاء الثلاثة التي تتألف منها روح الخير العالمية التي توجد داخل الكون .

- الإله الذي يمثل أحد الأجزاء التي تتألف منها كل وحدة من الثالوث المقدس .

لهذا فمن الطبيعي أن تظهر مثل تلك الخلافات في موضوع الإلهيات ، فهذه الإختلافات لم تكن تناقضات ، ولكن إختلافات بسبب إختلاف زوايا رؤية ، ومثال بسيط على ذلك هو مسألة رؤية الله في الآخرة فقد كثر الجدل بين علماء الفرق حول مسألة رؤية الله، وأخذ كل فريق يؤيد مذهبه بأدلة من النصوص الدينية يزعم أنها تؤيد ما يذهب إليه من إثبات الرؤية أو نفيها. فهذه المسألة في الحقيقة تتعلق بحسب مفهوم (الإله) الذي نتحدث عنه فإذا كان المقصود به هو المفهوم الأول فشيء طبيعي أن الجواب هو من مستحيل رؤيته لا في الدنيا ولا في في الآخرة لأنه إله الصمد وصفاته لا تدركها الأحاسيس الإنسانية ، أما إذا كان المقصود به بمفهومه الثاني ، فالجواب نعم المؤمنون يستطيعون رؤيته في يوم الآخرة . فهنا لا يوجد تناقض بين الفرق ولكن يوجد إختلاف في مفهوم مصطلح (إله) الذي نتحدث عنه .

ما نستطيع قوله هنا باختصار أن التيارات الأربعة التي ذكرناه قبل قليل جميعها تعتمد على مبادئ صحيحة ، فهذه التيارات ليست إلا أجزاء من علم واحد وهو الفلسفة ، فعن طريق توحيدها نحصل على علم الفلسفة بمفهومه الحقيقي ، فعلم الفلسفة في أبحاثه يستخدم التيارات الأربعة ليحصل على المعنى الشامل للشيء المدروس ، ولكن بسبب عمليات التشويه التي مرت بها الفلسفة عبر الزمن ، إنقسمت الفلسفة إلى تيارات عديدة ، ولكن الذي حصل في فترة تكوين الحضارة الإسلامية أن هذه التيارات كانت تعمل مع بعضها البعض بشكل مترابط لذلك استطاعت أن تؤدي دورها الحقيقي كعلم واحد في النهوض بالأمة الإسلامية لتجعلها تحمل نور الله لتتابع تطور الإنسانية نحو مرحلة جديدة من المخطط الإلهي .

ولكن بعد مرور الزمن بدأ الترابط الروحي بين العلماء ينهار بالتدريج نتيجة نمو التعصب الديني فظن المسلمين أن ازدهار أمتهم سببه أنهم شعب الله المختار وأن بقية شعوب العالم هي شعوب كافرة أو على ضلال ، هذا التعصب الأعمى بدأ يدخل بالتدريج بشكل أعمق في نفوس المسلمين فوصل إلى المذاهب والتيارات الفكرية ، فبدأت تلك الإختلافات في المذاهب والتيارات الإسلامية تتحول إلى تناقضات في عقول المسلمين ، فأصبح كل مذهب أو تيار فكري يعتقد نفسه أنه هو فقط على صواب والبقية على على خطأ ، فراح كل مذهب أو تيار فكري يهاجم خصومه وكأنه عدوه اللدود ، ومع ظهور هذا التعصب الأعمى بدأت الأمة الإسلامية تسير بخطوات تدريجية نحو عصر الإنحطاط .

في منتصف القرن السادس الهجري عندما بدأ التعصب الأعمى يسيطر على معظم عقول المسلمين ظهر الفيلسوف ابن رشد ، لينقل نور الإسلام إلى الشعوب الأوربية ، لأن علماء الأمة الإسلامية كانوا قد قدموا كل ما عندهم في تنمية علوم الحكمة (الفلسفة) ، ولكن علوم الحكمة في ذلك الوقت كانت لا تزال بحاجة إلى زوايا رؤية مادية أخرى لتأخذ شكلا أرقى ، فوجب إنتقال علوم الحكمة إلى تلك البلاد الأوربية لمتابعة تطورها هناك .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنتكلم عن دور الفيلسوف ابن رشد لنوضح أهمية دوره في تطوير الإنسانية كما خطط له الله عز وجل .

وسوم: العدد 841