خواطر فؤاد البنا 858

يا للعجَب، فبينما قُتل حوالي ٦٠ إيرانياً بسبب التدافع في جنازة سليماني؛ لم يسقط ضحايا أمريكيون في الرد الإيراني الذي قال الحرس الثوري إنه سيكون (مُزلزلاً)، ثم يصفون هذا الرد الهزيل بأنه (صفعة) في وجه أمريكا، ويحذّرون من أي رد فعل أمريكي، وتوعّدوا بأن ردهم سيكون ساحقاً على ردّ الرد!

**************************************

لقد هيأ الله تعالى الأسباب وصنع الحوادث حتى يتعلم منها المسلمون في طريق عودتهم من الهامش إلى المَتْن الحضاري المنشود. غير أن غالبية الصفوة في بلداننا ما تزال بعيدة عن صناعة الأفعال أو حتى المشاركة في استثمارها بطريقة فاعلة، مكتفين بالعيش في خانة ردود الأفعال، وليتها كانت ردود فعل عقلانية يمتلك العقل فيها زمام المبادرة ويتحكم بخطام العاطفة، بحيث يقود حصانُ الفكر عربةَ الانفعالات نَحوَ دراسة الأسباب ومعرفة منابع الضّخ، والتنقيب عن العوامل المسؤولة عن تشكيل الظواهر وإنتاج الآفات، وصولاً إلى البحث الجاد عن المعالجات والمخارج والحلول. وما زال بعضنا ينشغلون بالأعراض عن رؤية الأسباب، ويشتغلون بتقويم الظل تاركين أصحابه يفعلون ما يشاؤون!

**************************************

يُفتن المسلمون في كل عام مرة أو مرتين لكن أغلبهم لا يتوبون ولا هم يَذّكرون. ولا تزال الصواعق والمصائب تنهال على رؤوسهم، فلا تزيدهم إلا انقساماً وضعفا، حيث تتقدم الانفعالات العاطفية على الفاعليات النافعة؛ مما يمنعهم من التفكير العقلاني المبني على ثوابت الواجب ومتغيرات الواقع، ومن ثم فإن التحديات التي كان بالإمكان تحويلها إلى فرص تستحيل إلى مصائب جديدة تؤدي إلى توسيع ظاهرة التخلف وتعميق هُوّة الخلاف، ويقتضي هذا الأمر إصلاح مناهج التفكير وإشاعة فقه الخلاف وآداب الحوار!

**************************************

ليس هناك أي تلازم بين حفظ النصوص الشرعية وبين فهم مقاصد الشريعة الإسلامية، هذا إن لم يكن هناك تلازم عكسي. ولأن ملَكات العقل سبعة، وهي: التذكر والتحليل والتركيب والاستنباط والاستقراء والخيال والنقد؛ فإن قراءتي في المصادر التأريخية ومعرفتي بالشخصيات العصرية قد أبانت لي بأن ملكة الحفظ إن أصبحت غاية مقصودة؛ فإنها تتسع على حساب ملَكات العقل الأخرى، وعليه فإن أقل الخلفاء الأربعة فقهاً هو أكثرهم حفظا وهو عثمان بن عفان الذي لم يحفظ القرآن كاملا من الخلفاء الأربعة سواه، وأقل الأئمة الأربعة فقها هو أكثرهم حفظا وهو أحمد بن حنبل، حتى أن هناك من أنكر أنه فقيه وأصر على أنه محدّث وذهب بعضهم إلى أنه فقيه في إطار المذهب الشافعي!

وينطبق هذا الكلام حتى على مستوى الأجيال، إذ يمكن القول بأن جيل الصحابة هو أكثر أجيال الأمة فقهاً لكنه أقلها حفظا، فلم يثبت بالدليل القطعي حفظ الصحابة للقرآن كاملاً إلا ما كان من عدد يسير منهم!

**************************************

يبدو أن الشيعة والسنة قد تبادلوا المقاعد في هذا العصر بشأن طرائق التعامل مع التحديات، ففي تحدي اغتيال قاسم سليماني على سبيل المثال أحال الشيعة هذا التحدي إلى فرصة لتوحيد صفوفهم وتعبئة طاقاتهم ولتجميل صورتهم القميئة بعد تعاونهم مع أعداء الأمة في قمع ثورات أحرارها، محاولين الظهور كطرف ينتمي للممانعة بحق وينحاز للمقاومة، وربما كانوا في سبيلهم للقضاء على التحدي الذي مثلته ثورتا العراق ولبنان، وسيواصلون استثمار هذا التحدي لسنوات قادمة، بينما أحال كثير من أبناء السنة هذا الحدث إلى أداة لتبادل الاتهامات وتقاذف الشتائم والتخندق في معسكرات تكاد تخلو من نوافذ الحوار، وإقامة ولاء وبراء على أفهام بشرية انبَنَت على الاختلاف في تقدير المصالح والمفاسد وعلى رؤى مختلفة في قراءة الواقع، نتيجة اختلاف زوايا النظر!

**************************************

بالجار يغلي الدار أو يرخص، وقد جاء في المثل العربي: "الجار قبل الدار" وفي مثل عربي آخر: "بعتُ جاري ولم أبِع داري". وينطبق هذا على الأوطان إلى حد كبير كما ينطبق على الأفراد، وعلى سبيل المثال فإن العراق من أغنى بلدان العالم، حيث جمعت أرضُه بين الثروة النفطية والمعدنية وبين الثروة المائية والزراعية، كما لا يوجد في أي بلد عريي آخر، غير أن مجاورته لإيران بما تحتوي عليه من فكر قومي شعوبي وثقافة طائفية مقيتة، وبما تحمله من رغبات عارمة بتصدير ثقافتها وتوسيع إمبراطوريتها واستعادة أمجاد الفرس؛ كل ذلك بجانب العوامل الداخلية بالطبع جعل العراق في أتعس حالاته، حيث صار يعاني من الفقر رغم غناه، ومن الجهل رغم وجود عشرات الجامعات وعشرات الآلاف من حملة الدكتوراه، ومن المرض رغم وجود مئات المستشفيات والمستوصفات وعشرات الآلاف من الأطباء! وللتأكد من دور الجار في ذلك يمكن مقارنة شمال العراق الكردي الذي يجاور تركيا وكيف صار ينعم بالأمن والتنمية والرفاهية، بينما الجنوب الذي يجاور إيران صار يعاني من الخراب والفساد والكراهية بعد أن تسللت إليه ثقافة الموت من كل زقاق!

**************************************

يعتقد كثير من الناس أن  الشخصيات والكيانات التي تتصدى للتغيير والإصلاح في أمتنا، ينبغي أن تتربّع ذرى المثالية وأن تتجسد فيها المعايير الأخلاقية على أكمل وجه وأبهى صورة، وقد أخبرنا القرآن الكريم في هذا السياق بأن كثيرا من البشر ظلوا يتساءلون في سائر الأزمنة والأمكنة بطريقة إنكارية قائلين: {مالِ هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}؟! وبالنسبة لنا كمسلمين ينبغي علينا كطرفين لهذه المعادلة أن نعمل على ردم الهُوّة بين الواقع والمثال أو تقريبها على الأقل، وذلك بأن يبذل الداعون والمصلحون كل مستطاع حتى يكونوا في ذات رفعة القيم التي ينتمون لها وفي مستوى المبادئ التي يدعون إليها، وفي المقابل ينبغي أن يخفف أعضاء الطرف الآخر من نظرتهم المثالية لمن يعتبرونهم في مقام القدوة، وأن يقرؤوا ممارساتهم في ضوء الظروف التي يعيشون فيها والإكراهات التي يعانون منها، وأن يحسنوا بهم الظن ويبحثوا لهم عن أعذار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وبذلك يتم إغلاق فجوة من الفجوات التي يتسلل من خلالها شياطين الإنس والجن إلى النفوس والصفوف!

**************************************

يخبرك بعض الدعاة وهو في غاية التجهّم وفي منتهى العبوس، بأن (الضحوك) هي صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة!

**************************************

تخبرنا عبرةُ السَّنة الشمسية الجديدة بأن الوقت إناء فارغ يمكن أن يملأه المرءُ بالعمل أو يكسره بالكسل، ويمكن أن يكون فيه من أهل المسارعة أو من أهل التواني، وتُعلمنا أيضاً بأن الزمن تُربة خصبة لاستنبات كل شيئ، ومن حقك أن تضع فيها البذور التي تريد، سواء كانت بذور الخير أو بذور الشر، وفي الأخير ستحصد ثمرة ما زرعت وتجني نتيجة ما عملت!

**************************************

اللهم إنا قد ركبنا سفينة العام الجديد متوكلين عليك، وساهمنا بآمالنا مع جَمْع من خَلْقك فلا تجعلنا من المُدحَضين. اللهم خذ بأيدينا للتجديف في لُجج الفتن والسباحة في أعاصير الحياة، وأعِنّا يا الله على مقاومة أخطار الطريق ومقارعة قراصنة العصر، اللهم أوصِلنا إلى شواطئ السلامة ومرافئ التمكين سالمين غانمين. بارك الله أيامكم كلها.

وسوم: العدد 858