الخاطرة ٣١٤ : فلسفة تطور الحياة الجزء ٢١

خواطر من الكون المجاور

كما ذكرنا في الجزء الأول من سلسلة (فلسفة تطور الحياة) أن موضوع تطور الحياة هو موضوع متشابك ومعقد جدا وأنه بدون العودة إلى النصوص الدينية لتساعدنا في فهمه فإنه سيبقى موضوع جدلي وستبقى أدلة كل طرف غير قادرة على إقناع جميع الأطراف التي تبحث في هذا الموضوع . فموضوع تطور الحياة يعتمد فكرة أساسية وهي أن الله عز وجَّل خلق الإنسان في الجنة في أحسن تقويم ، ولكن الذي حصل هناك أن الإنسان خالف تعاليم الله وإرتكب خطيئة الزنى (ثمرة الشجرة المحرمة) والتي أدت إلى تشويه التكوين الإنساني وظهور غريزة القتل في قابيل (قايين) التي دفعته إلى قتل أخيه هابيل . لهذا تم طرد الإنسان من الجنة لأن الجنة هي دار السلام {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)التين}. ومن ثم من ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في آدم تم ولادة الكون لتبدأ الروح الإنسانية في تكوين نفسها من جديد ومن أدنى مرحلة لها وهي الأوتار الفائقة التي تكونت منها الجسيمات الأولية للذرات ، ثم من الذرات تم تكوين الماء والمركبات العضوية والتي منها تم تكوين المادة الحية ، فظهرت الحياة التي مرت بعدة مراحل وكان نهايتها ظهور الإنسان .

فالنظرية التي تقول أن (أصل الإنسان قرد) هي في الحقيقة نظرية مادية سطحية فقيرة وهي ربما تساعد في الأبحاث الطبية ولكن خطورتها فادحة على مصير ومستقبل الإنسانية ، فأحد أهم أسباب الإنحطاط الروحي الذي تعاني منه الإنسانية اليوم والذي يعترف به الجميع هو هذا المنطق المادي الذي تستخدمه نظرية التطور الداروينية الحديثة، حيث أنها تضع الإنسان في نفس مكانة بقية الأنواع من حيث طريقة الظهور ، وهذا الإعتقاد جريمة لا تغتفر في حق التكوين الإنساني ، فالإنسان هو كائن حي فريد من نوعه ولا يمكن مقارنته بأي كائن آخر ، فجميع الكائنات الحية وجميع محتويات الكون ليست إلا أجزاء متفرقة تم جمعها بشكل متناغم ودقيق في سبيل خلق الإنسان من جديد . هذه الفكرة هي القاعدة الأساسية في فهم ماهية الوجود الإنساني كما تؤكد عليه النصوص الدينية {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا.... (٢٩) البقرة} ، {..... وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)النمل} .

إن فهم التكوين الإنساني يحتاج إلى فهم كل شيء من حولنا لأن كل شيء هو جزء من تكوين الإنسان ، ولهذا حاولنا في الأجزاء الماضية عرض زوايا رؤية معظم العلوم المادية والإنسانية والنصوص الدينية لفهم حقيقة موضوع تطور الحياة . وسنحاول هنا أن نعرض عليكم مثال مشهور جدا يستخدمه علماء التطور ولا يزال يشغل فكرهم حتى اليوم وهو تفسير سبب طول رقبة الزرافة . هناك ثلاث نظريات تحاول تفسير سبب طول عنق الزرافة ، وهما اللاماركية والداروينية والخلقية .

النظرية اللاماركية تقول بأن الزرافة كانت حيواناً عاشباً يمتلك رقبة قصيرة، لكن بسبب الجفاف بدأ هذا الحيوان يتغذى على أوراق الأشجار الموجودة في الأسفل ، ولكن عندما لم يتبقَّ أوراق يستطيع تناولها، بدأ يمد رقبته كي يستطيع الوصول إلى أوراق الأشجار في الأعلى، ومع تكرار هذه المحاولة بشكل يومي بدأت رقبة هذا الحيوان تزداد طولا ، ومع ازدياد طول الرقبة المستمر من جيل إلى جيل تطورت الزرافة تدريجياً إلى شكلها الحالي . فهذه النظرية في تفسير طول رقبة الزرافة تعتمد على مبدأ توريث الصفات المكتسبة .

أما النظرية الداروينية فتفسر الأمر بشكل مختلف وهو أن الزرافات في البداية كانت تمتلك رقبة بأطوال مختلفة وبما أن تلك التي تمتلك رقبةً أطول بالأصل كانت تصل إلى الأوراق العالية وتؤمن غذائها بشكل أفضل من الزرافات ذات الرقبة القصيرة، لهذا إستطاعت الزرافات ذات الرقبة الطويلة أن تبقى على قيد الحياة لأنها أصلح وأكثر قدرة على البقاء والتكاثر. أما الزرافات ذات الرقبة القصيرة وبسبب سوء تغذيتها فكان مصيرها الإنقراض . فتفسير هذه النظرية لسبب طول رقبة الزرافة يعتمد على الصفات الوراثية التي يمتلكها النوع والتي جعلته ملائما للوسط المحيط فسمحت له بالإستمرار والبقاء على قيد الحياة .

أما النظرية الخلقية فتقول بأن الله تعالى هو الذي خلق هذه الزرافة خلقاً مباشراً وبث فيها المعلومات التي تضمن لها حياة مستقرة واختار لها الرقبة المناسبة والأرجل المناسبة والتصميم الأفضل؟ هذا التفسير فيه شيء من الصحة ولكنه تفسير بسيط جدا يصلح لأن نقوله للأطفال أو لذوي أصحاب الثقافة البسيطة ، أو لأولئك الأشخاص الذين عاشوا في العصور الماضية عندما كانت العلوم والتكنولوجيا في ذلك الوقت في مستوى بسيط لا يسمح للبحث فيه بشكل علمي . ولكن أن نقوله لعلماء العصر الحديث كدليل علمي فهو لن ينفعهم بأي بحث علمي ، لأنه يضع حاجز يفصل بين علاقة التكوين الإنساني بما يحيط به . أي أنه يجعل التكوين الإنساني لغز غامض يعرقل فهم الإنسان لحقيقة تكوينه وسبب وجوده على سطح الأرض .

أما بالنسبة للتفسيرات الأخرى ، فإذا تمعنا جيدا في تفسير النظرية اللاماركية والنظرية الداروينية لمسألة طول عنق الزرافة سنجد أنهما تعتمدان رؤية مادية بحتة تنتمي إلى منطق المذهب المادي والذي يقول بأن أصل كل شيء هو المادة ، وهذا خطأ فادح فبدون الروح لا يوجد شيء ، لأن المادة هي أصلا من صنع الروح فالروح تصنع المادة بطريقة تستطيع أن تعبر عن تلك الروح التي تكمن في داخلها ، فشكل المادة وطبيعتها هي ليست إلا أداة تستطيع الروح عن طريقها التعبير عن نفسها . فدراسة كل شيء يجب أن تعتمد على مبدأ المذهب المثالي والذي يقول بأن أصل كل شيء هو الروح . ونفس الشيء ينطبق على دراسة الكائنات الحية، فشكلها وسلوكها هو تعبير روحي لتلك الروح التي تكمن في داخلها . فطول رقبة الزرافة بالنسبة للزرافة هو أداة يساعدها في الوصول إلى أوراق الأشجار ومثل هذا النوع من التفسير هو تفسير مادي يخص إدراك الزرافة نفسها ولا يخص الإدراك الإنساني ، لأن الإدراك الإنساني أعمق وأشمل بكثير من هذا التفسير البسيط ، فطول رقبة الزرافة بالنسبة للإدراك الإنساني هو تعبير روحي رمزي يساعدنا في فهم مراحل تطور تكويننا الإنساني . وهذا ما سنحاول شرحه هنا .

حتى نفهم بشكل أوضح معنى رمز الرقبة الطويلة لا بد أن نشرح شيء هام في مراحل نمو الطفل وهو محاولة رفع رأسه ليكون هو أعلى منطقة في الجسم . فالطفل عندما يولد يتواجد جسمه باستمرار بشكل مستوي على الارض حيث يكون إرتفاع رأسه على نفس مستوى جسمه . ولكن في الشهر الثالث يبدأ بمحاولة رفع رأسه بشكل يكون أعلى من جسمه ، وفي الشهر الخامس نجده يتعلم وضعية الجلوس ، وفي الشهر الثامن والتاسع يتعلم الحبو على أطرافه الأربعة ، وفي الشهر الحادي عشر يتعلم الوقف بشكل منتصب ثم بعد ذلك يتعلم المشي على رجليه . هذه المراحل التي يمر بها نمو الطفل ليست حاجة جسدية ولكنها حاجة روحية هدفها تحقيق السيطرة الكاملة للكائن العلوي (العاطفي) على الكائن السفلي (الغريزي) وهذه العملية هي معقدة جدا أتت نتيجة تطور عدة أجزاء من خلال ظهور أنواع عديدة منفصلة تماما عن بعضها البعض حيث كل نوع منها كان مسؤولا عن تطوير جزء بسيط منها وأحد هذه الأنواع هو الزرافة .

هناك أنواع عديدة من الكائنات الحيوانية تمتلك رقبة طويلة بعضها منقرضة وبعضها لا تزال موجودة حتى الآن منها مثلا ديناصور براكيوسورس والنعامة وإوزة التم والجمل واللامة وغيرها (الصورة). إذا تمعنا في هذه الأنواع المختلفة سنجد أن جميعها تشترك في صفة مهمة جدا وهي أنها حيوانات غير مفترسة . فالرقبة الطويلة في الحيوانات ليست صفة عشوائية لها وظيفة تأمين حاجة مادية للكائن الحي ولكنها تعبير روحي مرتبط بصفة عاطفة حب السلام. فالرقبة الطويلة عند الحيوانات تعني كرمز روحي هو إنفصال الكائن العلوي عن سيطرة الكائن السفلي أي إنفصال الرأس (رمز العاطفة) عن الجسد (رمز الغريزة) ولهذا كانت معظم الحيوانات التي تمتلك رقبة طويلة حيوانات غير مفترسة وهو قانون إلهي .

كما ذكرنا في مقالات ماضية بأنه دوما هناك شذوذ عن القانون ولكن هذا الشذوذ ليس عشوائيا وإنما يحمل في مضمونه معلومة تساعد في توضيح القانون الإلهي ، فمثلا هناك سلحفاة تسمى سلحفاة رقبة الأفعى تملك رقبة طويلة ولكنها مفترسة ، بينما نجد نوع أخر وهو سلحفاة غالاباغوس هي ايضا تمتلك رقبة طويلة ولكنها غير مفترسة ، ونجد أن سلحفاة رأس الأفعى رغم أنها حيوان زاحف ولكنها حيوان مائي فمعظم حياتها تعيشه في الماء . فالشذوذ في سلحفاة رقبة الأفعى هو أيضا قانون وهذا القانون يقول بأن الرقبة الطويلة هي رمز السلام والخروج عن هذا القانون سيؤدي بصاحبه إلى التطور سلبي الذي سيدفعه نحو الوراء أي نحو المستويات الأدنى لهذا تركت السلحفاة الحياة البرية وأصبحت مائية .

ما نريد أن نقوله هو أن التطور هو قانون كوني ولكن دراسة التطور وخاصة تطور الحياة يجب أن يعتمد على دراسة مضمون الأشياء وليس الشكل فقط كما يحصل اليوم . فالمضمون هو الذي سيساعدنا في فهم تطور الحياة وظهور الأنواع وعلاقتها في تكويننا الإنساني .

........ يتبع

وسوم: العدد 993