تفسير سورة إبراهيم 1

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة إبراهيم

17 / 5 / 1985

(1)

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

 إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

 ففي الجمعة التي مرت قلنا لكم إننا سنقطع سلسلة الأحاديث التي بدأناها منذ زمن لا بأس به ، أن شهر رمضان الكريم قد أظل الناس ، وشهر رمضان مرتبط في أذهان المسلمين بالقرآن ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) ولذلك نراه حسناً إن شاء الله تعالى أن نشغل أوقاتنا في رمضان بتلاوة القرآن . وأحب أن أنبه إلى أمرٍ يدل على اقتران رمضان بالقرآن وهو من آخر أحداث السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، ففي السنة العاشرة من الهجرة ، السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واختاره ربه إلى جواره ، اختار له ما عنده ، قال عليه الصلاة والسلام في تلك السنة من آخر أيامه على الأرض : لقد كان جبريل يعارضني القرآن كل سنة مرة في رمضان ـ أي يقرأ معي القرآن كل سنة في شهر رمضان ـ ولقد عارضني القرآن هذه السـنة في رمضان مرتين ، وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي .

 فأنتم ترون أن من دأب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعرض معه الروح الأمين جبريل عليه السلام القرآن كله في كل رمضان ، حتى إذا كان على ارتباط القرآن بشهر رمضان . وابتداءً فأنا في الواقع لا أشكو قلة قراءة المسلمين للقراءة في رمضان ، فقد يجب أن نشهد أن الناس في المعظم ينكبون على تلاوة القرآن في شهر رمضان ويرونه عبادة ربما خُيّل لبعضهم أن الصوم لا يتم إلا به ، وهذا طيب وهو من العبادة ، إذا ذكرنا أن النظر لمجرده إلى المصحف عبادة . ولكنا قلنا لكم في الجمعة الماضية أن القرآن الكريم كتاب أُنزل من عند الله رسائل إلى البشر للتعليم والتثقيف والتهذيب والقيادة ، فمـن أجل ذلك وجب أن يُتدبر القرآن ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) فالقراءة مــن غير تدبر إنما هي لجلجة اللسان قد تعطي صاحبها أجراً مذخوراً له عند الله يوم القيامة ، ولكنها قلما تنعكس أثراً مادياً ملموساً على واقع حياته سلوكاً مهذباً وأخلاقاً نظيفة ولساناً عفاً ومحبة للآخرين وما أشبه ذلك من الخلائق العالية التي جاء بها القرآن ونادى بها الإسلام .

 وحين نهى الله جل وعلا المشركين أنّبهم ووبخهم وتساءل ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً ) فالمتدبر والمتفكر في القرآن الكريم يلاحظ هذه المنطقية العجيبة والعقلانية العالية والتسلسل الذي يأخذ بعضه برقاب بعض والقضايا المطروحة من أول الكتاب الكريم إلى آخره من غير عوج ولا اختلاف ولا اختلال وإنما بنسق موزون يعجز الفكر عن وصفه ، لو أن هذا الكتاب كان من عند غير الله لوجدوا فيه ما ينعكس من الذهن البشري من مظاهر الضعف وهبوط مستوى التفكير وتغير الآراء واختلاف المناهج . لكنه كتاب لا اختلاف فيه ولا عوج ، وإنما هو نسق كامل يشد بعضه بعضاً ، وتتساوق آيه جميعاً لتؤدي إلى الغاية العظيمة الكبيرة التي هدف إليها الإسلام وهي أن تنشئ الإنسان الرباني الإنسان الحضاري الإنسان الإنساني ..

 هذا الهدف لا يتم تمامه للناس ولا يتأتى لهم ولا يتيسر إذا لم يمعنوا النظر في القرآن الكريم ، ولقد كان من عادة السلف رضي الله عنهم أن منهم من كان يقوم الليل كله بآية واحدة يرددها باستمرار ، لأنه لا يُعمل فيها فكره فقط وإنما يعمل فكره وقلبه وشـعوره وكل ذرة في كيانه تتعاقد مع هذا الكلام الرباني المعجز . لهذا السبب استطاع القرآن بمنهجيته العظيمة أن يخلق أولئك الناس خلقاً جديداً ليبرز على وجه الأرض جيلاً لن يتكرر ، جيلاً غير مسبوق ولا ملوحظ . والنبي صلى الله عليه وسلم يشير لنا في توجيهاته إلى مكان القرآن لا من الإسلام فحسب ولا من المسلمين فحسب وإنما من الناس جميعاً وعلى امتداد الأزمنة ، فيشرح حال الأنبياء من قبله فيما أيدهم به ربهم تبارك وتعالى وحاله صلى الله عليه وسلم فيما أُيد به من قِبل ربه جلّ وعلا ، فيقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه واستقام : ما من نبي من الأنبياء أرسله الله قبلي إلا أعطاه ما مثله آمن عليه البشر . الحاجة التي تدعو إليها أحوال الناس المدعوين ، فنلاحظ أن إبراهيم عليه السلام أُلقي في النار وقال الله ( يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ) فكانت آية للخليل إبراهيم عليه السلام بقطع النظر عن مقدار الذين آمنوا له ، كثروا أم قلوا . وموسى أعطاه الله تسع آيات قال له ( اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء ) وقال له ( اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً ) وقال له ( اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) وقال له ( ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى ) وتلك آيات آمن عليها الناس في ذلك الزمن بأن اسـتعدادهم كان يتطلب أن تكون الآيات بهذا الشكل . وعيسى عليه السلام آخر الأنبياء قبل نبينا الكريم صلوات الله عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين ، أعطاه الله أيضاً آيات آمن عليها الناس ، وما من آية من الآيات كانت لنبي من الأنبياء قبل محمد عليه السلام إلا أعطى الله جلّ وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم مثلها ثم زاد ما هو خير منها ..

 نعود إلى الحديث الشريف : ما من نبي من الأنبياء أرسله الله قبلي إلا أعطاه الله ما مثله آمن عليه الناس وكان الذي أوتيته ـ يعني الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ـ وحياً يتلى ـ وحياً أوحاه الله ـ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . فكّروا في هذا الكلام النبوي ويدل على ماذا ؟ إن الآية الحسية قد تنفع الذين يرونها بأم أعينهم وقد لا تنفعهم ، قد تكون عليهم عمى ، وقد تزيدهم غياً وضلالاً ، ونحن نقرأ في القرآن الكريم ( بسم الله الرحمن الرحيم اقتربت الساعة وانشق القمر ) وكان ذلك في مكة حين عجّزوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطلبات فقالوا له : إن كنت صادقاً كما تزعم فقل للربك يقسم القمر قسمين ، فقال ذلك فانقسم حتى رآه الذين طلبوا هذا قسماً على أبي قبيس وقسماً في الجانب الآخر .

 لكنا نسأل : هذه الآية وأمثالها من نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى يرتوي الجيش كله ، ومن تكثير الطعام حتى تأكل منه المئات والألوف وما أشبه ذلك ، أفادت من ؟ أفادت الذين رأوها بأعينهم ، وأفادت أيضاً على نطاق محدود ، لكن الذي أفاد فعلاً واستمر في إفادته وسيظل مستمراً في عطائه هو الوحي الذي أنزله الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المتمثل في القرآن الكريم . من هنا نخلص إلى تقرير نتيجة وحقيقة ، إن هذا الإسلام الذي ختم الله به رسالاته ، وإن هذا القرآن الذي توّج الله جلّ وعلا به كلماته ، من تمام أن يكون للناس جميعاً إلى آخر الزمان أن يكون صالحاً لمخاطبتهم في كل زمان ومكان ، والآية الحسية قاصرة عن هذا ، والذي يستطيع أن يقوم بهذا وأن يستقل به هو الكلام الموحى به من عند الله جلّ وعلا المتلو في آناء الليل وآناء النهار والمتلو في أربعة أركان الأرض والمتلو منذ نزل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فترون أن الإسلام بهذه المثابة دين يخاطب الكينونة البشرية ، يخاطب القوى المدركة العاقلة في الإنسان ، يخاطبها لأنها هي مناط التكليف وهي المؤهلة لأن تسير في ركب الرسالة حتى النهاية المقدورة لها إن شاء الله تعالى .

 من هنا يا إخواننا حِرْصنا على أن تكون مسيرتنا في رمضان إن شاء الله وإن أحيانا الله وإياكم مع القرآن الكريم ، لقد فهم في الجمعة الماضية كثير من الإخوة أنني أنوي أعقد دروساً في القرآن كل يوم ، وهذا غير وارد عندي ، غير وارد عندي لسبب بسيط ، فيجب أن نعلم أن الشمس إذا انحدرت نحو الأفق لا تملك أن ترجع إلى فوق إنها هي ماضية إلى مستقرها ، ولا بد أن تصل إلى هذا المستقر وأن يأفل الضوء وأن ينطفئ الشعاع .. نحن لم نعد نملك بدنياً ونفسياً هذه القدرة على أن نعقد دروساً يومية ، لا نقول بلغنا أرذل العمر فنحن بحمد الله ما زلنا نتمتع بشيء من المقدرة والقوة ، ولكن ليس لدينا في الواقع ما نعطيه أكثر من هذا الذي نعطيه ، وعلى جميع الإخوة أن يقبلوا منا هذا لأنه ليس هناك أكثر من ذلك . غاية ما في الأمر أننا سنحول خطبة الجمعة في رمضان من حديث عام أو من حديث يتناول قضية مخصوصة إلى رحلة مع القرآن الكريم ، رحلة نتنسم فيها العبق الشدي لكلام الله ، ونحاول ونحن في ظلال الشهر المبارك الذي تغلُ وتصفد فيه الشياطين وتفتح فيه أبواب الرحمة وتغلق فيه أبواب الجحيم نحاول أن نستهدي الله جلّ وعلا عسى أن يأجرنا وعسى أن ينفعنا فيما سوف نعرض لكم من كلام الله جلّ وعلا .

 وقبل أن نصل رمضان ، وفي الجمعة القادمة رمضان بكل تأكيد ، أحب أن أقول لكم : إنني اخترت لكم سورةً ليست من قصار السور ولا من طوالها ، ولكنها مكية مما نزل في مكة هي سورة إبراهيم ، وهي سورة أتمنى أن ينعم الإخوة في تلاوتها ، وأن يحاولوا الغوص في معانيها وأن يحاولوا أكثر أن يربطوا بين إشارات الواردة في هذه السورة ، فهي سورة غنية على أنها ليست طويلة ، مئتان وخمسون آية فقط ، لا بأس أن أعطيكم الآن تلخيصاً قد يكون مخلاً للسورة على أن يكون التفصيل بدءاًً من الجمعة القادمة إن شاء الله إذا أحيانا الله .

 سورة إبراهيم قلنا إنها مما نزل في مكة ، ومما يلفت النظر في هذه السورة أن الحديث فيها عن إبراهيم يتضمن إشارة إلى اختصاص هذه الأمة بهذه الرسالة العظيمة قبل أن يُخلق محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأن كل من أرسله الله من الأنبياء كان إرهاصاً لمقدم محمد صلى الله عليه وسلم ..

 تفتتح السورة كشأن معظم السور المكية بهذه الحروف المقطعة التي تفتتح بها معظم السور المكية ( ألر ) والناس لهم في هذا المجال كلام طويل ، ولعل منكم من سمع رأيي في هذا الموضوع فأنا لا أقف لا قليلاً ولا كثيراً عند كل ما قيل سابقاً من معنى هذه الحروف ، لا أكلّف نفسي شططاً لأنها عندي حروف مقطعة ولكنها ترمز إلى دلالة إلى شيء ينتهي أن يتخطى مدارك الناس . هذا القرآن كلام جاء بلسان العرب وعلى مناهجهم قي الخطاب وعلى أسلوبهم في محادثاتهم بينهم ، واستعمل نفس الحروف واستعمل نفس الكلمات والمفردات وصاغ الجمل على نفس الأساليب التي يصوغ بلغاء العرب عليها جملهم وكلامهم ، فلماذا كان القرآن وهو مبني من جنس ما بُني منه كلام العرب لماذا كان القرآن معجزة للبشر جميعاً عن أن يأتوا بمثله ولو آية ولو سورة ولو عدد سور ؟ لماذا ؟ السر في ذلك يعني السر في القرآن وإعجازه كالسر في الإنسان وخلقه تماماً ، فالإنسان كما يعرف العلم الآن مكوّن جسمه من عناصر تدخل معملاً وتحلل ويقال لك : فيه من المادة الفلانية نسبة كذا وفيه من المادة الفلانية نسبة كذا . وهذه المواد موجودة في الطبيعة ، ولكنك قل للعلماء : هاتوا نفس النسب من نفس المواد بنفس المقادير واجعلوا منها إنساناً فيعجزوا لماذا ؟ لأن السر ليس في البدن ولكن في الروح الإلهي الساري في الإنسان ، ولهذا حين خلق الله آدم قال للملائكة ( فإذا سويته ) أي آدم ( ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) هنا حينما يدخله السر الإلهي يستحق الكرامة ويستحق أن يسجد له الملائكة . فالعبرة إذاً بهذه القدرة المعجزة الربانية التي صنعت من المادة الصماء البكماء إنساناً حياً عاقلاً مدركاً أهلاً للتبعة والمسؤولية ، وكذلك القرآن . فالعبرة ليست في الحروف ، فكل إنسان حتى الطفل الذي يبدأ بالمناغاة ينطق الحروف على هذا النحو أو ذاك ، ولكن كلامه لن يكون معجزة ، والإنسان حين يتضلع بالعلوم العربية ويضرب فيها بسحم وافر فلا يعني هذا أنه يقدر على معارضة القرآن ، لأن السر ليس في حروف تؤلف ولا في كلام مركب ولا في جمل تنسق وإنما في النفحة الإلهية التي جعلت الكتاب الكريم على هذه الصياغة معجزاً للخلق جميعاً . هذا مجمل رأيي في معنى مجيئ الحروف المقطعة في أوائل السور ، إنما تلفت أنظار الناس إلى قدرة الباري تبارك وتعالى الذي يجعل من الكلام الذي يتخاطبون به ويتفاهمون من خلاله كلاماً فوق طاقتهم يعجزهم إلى آخر الزمان ، فهذه هي المسألة .

 تبدأ السورة الكريمة كما قلنا بهذه الحروف المقطعة ( ألر كتاب ) بمعنى القرآن ( أنزلناه إليك ) لماذا ولأي غرض ( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، الله الذي له ما في السموات والأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ) من هم ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد ) ثم يلفت الأنظار بحكمة من حكم الله وهي كيف يتفاهم الله مع خلقه ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ) هذه هي فاتحة السورة الكريمة ، لكن بعد ذلك تزلف السورة إلى قضايا أخرى نعرض جوانب منها عرضاً وجيزاً .. بعد هذه المقدمة يلفت القرآن النظر إلى أنه كما أن الله أنزل هذا الكتاب على محمد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .. كذلك كان الشأن مع الأنبياء جميعاً من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا غرابة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، قد خلت من قبله أنبياء وقد خلت من قبل كتابه كتب وقد خلت من قبل أمته أمم ، وسنرى أن قوانين الله تبارك وتعالى هي هي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتخلف ، مع الأمم الماضية هي كهي مع أمتنا المخمدية التي شرفنا الله جلّ وعلا بها .

 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ) ذكرهم بأيام الله ، ذكرهم بنعم الله عند آبائهم وأسلافهم ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ، وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون ونسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد ) ثم ضرب القرآن بهذه السورة في الزمان الأبعد فتساءل ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ) ألم تسمعوا بأخبار آبائكم الأولين ، فقد كانت الأمة عربية تحرص على أن تدوّن هذه الأخبار في ذاكرة الأجيال ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات ) هذه الأمم معروفة ، ومن الملفت للنظر أن الأمم التي عُدّت هنا قوم نوح وعاد وثمود أقوام مـن العرب ، يعرفهم العرب ويتناقلون أنباءهم وأخبارهم ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم جاءتهم رسلهم بالبينات ) ماذا كان جواب الأقوام ( فردوا أيديهم في أفواههم ) رفضوا الإذعان ورفضوا الإيمان ورفضوا التطبيق ورفضوا الاستجابة ( وقال إنا كفرنا بما أرسلتم به وإننا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) هذا جواب الأقوام ، كفرنا بما أرسلتم به ( وإننا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ، قالت رسلهم أفي الله شك ) سؤال استنكار ، إنك حين تمشي وتعثر تلقائياً ومن غير شعور تقول يا الله ، هذه الحقيقة الكبرى حقيقة الحقائق يطرأ عليها الشك ؟ ( قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) سؤال الأنبياء كان بهذا الشكل المؤدب المهذب ، ماذا كان جواب الأقوام ( قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا فأتونا بسلطان مبين ، قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ) لا معجزة لنا عليكم إلا أن الله يوحي إلينا ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الله ) ( أعلم حيث يجعل رسالته ) ( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما أذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) تصوروا أيها الإخوة : الطيبة والإنسانية العالية المهذبة التي يخاطب الأنبياء بها أقوامهم ثم يردون الأمر عند اليأس إلى الله أن يتوكلوا عليه وعليه فليتوكل المتوكلون ، ماذا يكون موقف الأمم المدعوة الكافرة الجاحدة الملحدة قليلة الأدب ؟ ماذا يكون جوابها ؟ جواب كل سفيه في كل زمانٍ وفي كل مكان ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودون في ملتنا ) أمران لا ثالث لهما ، إما أن نخرجنكم من الأرض ننفيكم من الديار وننفيكم من الأوطان أو أن تعودوا في ملتنا إلى الكفر وإلى الظلمات ( وقال الذين كفروا للرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودون في ملتنا ) .

 هل بلغ الموقف حد اليأس لا ؟ وإنما جاء الخطاب الإلهي ( فأوحى إليهم ) يعني إلى الرسل ( ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ، يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه ) أي فـي الآخرة ( عذاب غليظ ) رأيتم اللوحة ما أروعها وما أسماها ؟ دعوة تساق إلى الناس بمنتهى الود والحب ، دعوة تخرج الناس من الظلمات إلى النور تقابل بالعنفوان وبغطرسة القوة ، بنسيان أن لهذا الكون مدبراً قد يترك السفيه يعبث يوماً أو يومين ، ولكنه إذا أخذ لم يفلته ، لأن أخذه أخذ عزيز مقتدر .

 وليس الأمر واقفاً عند هذا الحد وإنما سيدرك الجبارين وسيسكن المؤمنين في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، أي يورثهم الأرض .

 ثم تغدو السورة لمسة هنا ولمسة هناك ، ينساق الحديث أثناء السورة إلى الواقع الذي كان يعيشه محمد صلى الله عليه وسلم ويقلقه ، نحن نعرف أن أهل مكة يسكنون في واد غير ذي زرع ، وأن الله جلّ وعلا بمحض منّه وكرمه فقط جعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، وأن معاشهم هو من هذا المورد هو من كون الناس يفيضون إليهم زواراً وحجاجاً ومعتمرين ، وهذا معاشهم وتلك نعمة كبيرة . إن الله جلّ وعلا يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم ويُعجّبه من أمر هؤلاء الناس ، أنت إذ قلت لي : السلام عليكم ، أنا أقول لك : وعليك السلام . أنت إذا قدمتَ لي خدمة ، فمن واجبي أن أقدم لك خدمة أحسن . فإذا كان الله تبارك وتعالى قد أنعم على الناس عرب مكة في ذلك الوقت بهذه النعمة التي لا تحوجهم إلى الانتقال وإلى الترحال وإلى الكد وإلى الجهد فلماذا لا يعبدون رب هذا البيت الذي جعله الله مثابة للناس وآمناً ؟ أليس الأمر يجب أن يكون كذلك ؟ لكن شأن المشركين كشأن المشركين من قبلهم ، نفس القوانين ونفس القواعد التي تحكم المجتمعات السابقة والنفوس الماضية ، يُعجّب الله محمداً عليه السلام من هؤلاء المشـركين فيقول له ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ) وهذا الكلام موجه إلى زعماء المشركين في مكة ، بدلوا نعمة الله وهي الأمن والرخاء والسلام ( كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ) أي أنهم بعملهم هذا سيجعلون قومهم لا يربحون شيئاً إلا الخسران المبين ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار ، وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله ) وحسبكم أن تتذكروا أن الأصنام المعلقة على جدار الكعبة كانت ثلاثمائة وستين صنماً ( وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ، قل لعبادي الذين آمنوا يقموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) وهو يوم القيامة لا ينفع المال ولا تنفع الصدقات والعلاقات والقرابات ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ، الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار ) فهذا المقطع موجه إلى الواقع الذي كان يتحرك فيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واقع مكة وهي على حالة الشك .

 ثم من بعد ملامح يذكرها القرآن ينصب الحديث على إبراهيم عليه السلام وهو الذي سُميت سورة باسمه ، وتحملوا معي مشقة النظر المدبر في كلام الله جلّ وعلا حول هـذه النقطة ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هـذا البلد آمناً ) يعني مكة ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ، ربي إنهن أضللن كثيراً من الناس ) الأصنام أضلت كثيراً من الناس ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) أي أسكنهم هنا ليكونوا قوامين على عبادة الله وإرضائه ( ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ، ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض وفي ولا في السماء ) انتبهوا ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) يخصص بالذكر ولدين من أولاده في خطاب موجه إلى الأمة العربية على لسان رسول عربي هو محمد صلى الله عليه وسلم ، يخصص ذكر إسماعيل لأن العرب هم أبناء إسماعيل ، ويخصص ذكر إسحاق لأن اليهود هم أولاد إسحاق ، ليقول لهؤلاء العرب : إن أمانتنا سبق أن تحملها أبناء إسحاق من بني إسرائيل ، فخلفوا في عهود الله ونقضوا مواثيقه ولم يعطوا الرسالة حقها ، وأنتم يا أبناء إسماعيل لا تكونوا كأبناء إسحاق ، تحمّلوا الكتاب بجد واقبلوا تكاليف الرسالة فإنها عزكم وذكركم وشرفكم بين الناس ومقامكم العالي يوماً القيامة .. لاحظوا هذه الإشارة البارعة التي وردت في هذا الموضع من السورة الكريمة .

 ثم تمضي السورة معلقة ومفصلة تذكر حال الأتباع والمتبوعين ، وكيف يخذل كل فريق منهم الآخر ، وتذكر الشيطان حين يتبرأ من الذين كانوا يتولونه في الدنيا وحين يقول لهم ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ) وتحلل أيضاً الآية بعض الأمور الأخرى التي تلزم فـي سياق الدعوة ، ثم تختم بهذه الآية الجامعة الموحية المبكرة ( هذا بلاغ للناس ) هذا القرآن بلاغ للناس ، ولاحظوا وأنا أسمح للنفسي الآن أشرح لكم معنى البلاغ لكي تلاحظوا أنه أحيان ترد الكلمة وهي تحمل معاني لا يعين على فهمها إلا توفيق الله تبارك وتعالى ن فحين يقول الله ( هذا بلاغ للناس ) فيفهم منه أساساً معنيان ، لأن البلاغ له معنيان أساسيان رئيسيان ، الأول بمعنى التبليغ أي أن هذا القرآن تبليغ للناس بما يريد الله وبما لا يريد ، بما نحب وبما يكره ، بما يحلل وبما يحرم ، وهـناك معنى آخر وهو أن للبلاغ معنى الكفاية ، تقول هذا الرغيف بلاغ لك ، أي أنه يكفيك لكي تشبع . فنحن نرى أن الله جلّ وعلا حينما يقول ( هذا بلاغ للناس ) فيحتمل والله أعلم أن يكون المراد معنى الإنذار والتبليغ وأن يكون المراد ـ وأنا إلى هذا أميل ـ أن هذا القرآن كفاية للناس ، وأن من الخطأ والخطر أن يبحث الناس بعد القرآن عن طريق آخر للهداية يأتيهم سواء السبيل .

 ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ) بهذا الشكل تختم السورة الكريمة .

 وأعود فأقول إنها سورة غنية ، في كلمة من كلماتها ، من كل فاصلة من فواصلها معنى عجيب ، لا تحتاج إلى الأدمغة المفكرة والعقول النيرة والعقول الواعية المفتوحة ، ونحن أجملنا لكم ما في السورة على سبيل العجل ، ونعد إن شاء الله تعالى أن نبدأ التفصيل في الجمعة القادمة . فاسألوا الله جلّ وعلا أن يقبل رمضان علينا ونحن في خير وإلى خير وأن يدبر عنا ونحن في خير وإلى خير وعلى أجر إن شاء الله جلّ وعلا ، وأوصيكم بالإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله جلّ وعلا ، فرمضان موسم ، رمضان موسم ، يمر كل سنة مرة ، إما لك وإما عليك . وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنبر فلما لقي الدرجة الأولى قال : آمين ، ثم لما رقي الدرجة الثانية قال : آمين ، ثم لما رقي الدرجة الثالثة قال : آمين . ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم جذع من خشب له ثلاث درجات فقط . ثم قال خطبته ونزل ، وبعد أن نزل قالوا له : يا رسول الله سمعناك تقول آمين فلماذا ؟ قال : إن جبريل لقيني عند أصل المنبر ـ عند أو الدرجات ـ فقال لي : يا محمد من أدرك أبويه الكبر أحدهما أو كلاهما عنده فلم يدخلاه الجنة فأبعده الله ، قل : آمين ، فقلت : آمين . فلما رقيت الدرجة الثانية قال : يا محمد من أدركه رمضان فلم يغفر له فأبعده الله قل : آمين . قال فقلت : آمين . فرمضان موسم مغفرة كما ترون ، فتح الله فيه باب رحمته على سعته ، والعيس فعلاً هو الذي تضيق عنه رحمة الله في هذا الشهر .. فنسأل الله المبتدي بنعمه علينا من غير استحقاق لنا عليه أن يديم علينا هذه النعمة التي هي نعمة الإسلام ، وهي أجل النعم وأن لا يحرمنا حسن الختام إن شاء الله نحن وأنتم وجميع المسلمين ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين والحمد لله رب العالمين.