تفسير سورة النساء 7

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة النساء

26 / 5 / 1978

( 7 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

فنتابع اليوم أيضاً الوقوف مع آية كريمة فـي سـياق استعراضنا لسورة النساء ، وقد عرفتم بحمد الله منذ بداية الكلام على هذه السورة الجليلة أنها حلقة في سلسلة التوجيهات الربانية الكريمة الهادفة إلى استبدال الحياة الجاهلية المليئة بالجور والمظالم وبكل ما يفسد حياة الناس ، بحياة أخرى يعيشها الناس في ظلال الإخوة والمحبة المؤسستين على دعائم الإيمان بالله تعالى ، والموثقتين بعرى الإخوة الإنسانية الشاملة .

 ولا بأس أن نعرض عليكم مجملاً لما مضى من الآيات فنسمع ربنا تبارك وتقدس يتجه بالخطاب إلى الناس قاطبة قائلاً ( يا أيها الناس ) منبهاً بذلك إلى أن الدعوة الإسلامية الكريمة لا تفرق بين الأجناس والألوان ولا بين الألسنة والأوطان ، وإنما هي دعوة الله إلى الإنسان من حيث هو إنسان حيثما كان ومتى كان . فهذه تلقين قول الله ( يا أيها الناس ) وكلما سمعتم الله تعالى ينادي فاعلموا أن وراء النداء خيراً يُراد الإتيان به والإقدام عليه ، أو شراً يُراد الانتهاء عنه وتجنبه بالكلية .

 وقد ولي هذا النداء ( يا أيها الناس ) دعوة إلى أساس الخير وجوامع الخير وهي تقوى الله ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) وإذاً فهي الدعوة الإلهية التي توقظ في أعماق الإنسان المشاعر الإنسانية بين البشر ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) فكما ترون النشأة واحدة والأب واحد ، وعليه فلا يجوز للناس أن يعلو بعضهم على بعض ، ولا يبغي بعضهم على بعض ، بل عليهم أن يتعاملوا تحت قانون الإخوة التي تجمع بين الناس قاطبة ، وهي دعوة كما ترون غريبة على آذان الجاهلية القديمة التي خاطبها هذا القرآن لأول مرة ، بقدر غرابتها على الجاهلية الحديثة التي ترفض الانصياع لنداء الفطرة البشرية والنازع الإنساني المشترك ، وبرغم ما تنادي به من إخوة وعدالة ومساواة ، فهي الإخوة المقصورة على القوم ، أو المقصورة على الطائفة ، أو المقصورة على الحزب ، أو المقصورة على الطبقة . أما ما وراء ذلك فلا إخوة ولا هم يحزنون ، وإنما بقية الناس تبعٌ كما يتبع القطيع الراعي فعليهم أن يتبعوا ، وكما تخضع الشاة لسكين الجزار فعليهم أيضاً أن يتبعوا .

 فهي دعوة ما تزال حتى الساعة وستبقى كذلك أبداً تملك دفقة الحيوية وحرارة الواقعية التـي كانت تملكها يوم بدرت من شفتي محمد صلى الله عليه وسلم .

 ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ) وإذا عرفنا أن النساء كن في الجاهلية يُمتهنّ ويتعرضن لأنواع المهانة ، وأية مهانة أشد من أن يرهن الرجل زوجته أو ابنته لقاء دين عند الآخرين ، أو يقامر على زوجته وابنته فيخسرهما في القمار .. أية مهانة أكبر من هذا ؟ ومع ذلك فكذلك كان شأن الجاهلية ، فجاء الإسلام وقال للناس ( وخلق منها زوجها ) إنما يُلقّن الرجال أنهم شقائق النسـاء وأن النساء شقائق الرجال ، وأن المرأة من الرجل ، وأن الرجل من المرأة ، وأن كرامة الكل مستمدة من كرامة الكل ، فعليه فلا يجوز تعريض المرأة أماً أو بنتاً أو أختاً أو زوجةً لأية مهانة ، بل ينبغي أن يوفّر عليها حقها في المشاعر الإنسانية كاملة ، وحقها في الرعاية والكرامة الإنسانية كاملة أيضاً .

 ( وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) مشيراً بذلك إلى ما كانت الجاهلية تقترفه من تقطيع الأرحام بغير وازع من حياء ولا خلق ولا دين ، وإذاً فالإسلام كما ترون يهدم جاهلية مخربة ومدمرة وخطرة على الجنس البشري في حاضره ومستقبله على حد سواء ، ليقيم للناس حياة هي أزكى وأتقى وأنقى وأبقى ، حياة تقوم على دعائم تعاليم القرآن وتوجيهات السنة النبوية الشريفة .

 ( إن الله كان عليكم رقيباً ، وآتوا اليتامى أموالهم ) مشيراً بذلك إلى ما كان الأيتام يلقون في المجتمع الجاهلي من عدوان على أموالهم من قبل الأوصياء والأولياء ، وإلى ما كان يجري من أكل أموال هؤلاء اليتامى بالباطل ، فيأمر الإسلام بالقسط والعدل ورعاية الحق .

 ( وآتوا اليتامى أموالهم ) ويضيف الأموال إلى اليتامى مع أنهم تحت الوصاية وتحت الرقابة تأكيداً لارتباط هذا المال باليتيم من جهة ، وتنفيراً للأوصياء من أكل أموال اليتامى بغير حق ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) فالإسلام يأخذ بجناح اليتيم ليلهمه كي لا يكون مضيعة تدوسه أقدام الأقوياء . ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) يعني لا تتركوا ما أحل الله لكم من رزق لتقترفوا جريمة أكل أموال اليتامى بغير حق ، وهي من الخبيث ، لأنه كسب غير مشروع لا يعترف عليه الإسلام ولا يزكيه ولا يرفع لصاحبه رأساً ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه ) أي إن هذا الفعل ( كان حوباً كبيراً ) والحوب هو الإثم الذي ينفر منه ذو الحس السليم ، لأننا قلنا من قبل أن كلمة الحوب في وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن وعلى قوانين أهلها في الخطاب يُفهم كلام الله وكلمة موضوعة لزجر الإبل ، فالحوب استعيرت لتعني كل إثم ينزجر عنه الإنسان وينفر منه لأنه يخالف مقتضى الحق والعدل والحلال من الرزق ومن الأخلاق ومن الاعتقادات ( إنه كان حوباً كبيراً ) .

 ثم يتجه الخطاب بعده إلى موضوع آخر وهو موضوع وقفنا عنده درساً أو درسين لا أدري ، وبالمناسبة أقول لكم إنني لا يتسع وقتي لمراجعة ما أتحدث به ، ولهذا فربما تتكرر بعض الأفكار ، فالذهن ليس جهازاً آلياً يسجل أين وقفنا وإلى أين انتهينا ، مع ذلك فنبذل قصار الجهد ونستعين الله تعالى من أجل أن لا نقع في تكرير لا معنى له إلا أن يكون ذلك غير مقصود ورغماً عنا .

 فالله تعالى يتجه إلى ناحية أخرى يقول للناس ( وإن خفتم ) والمراد بالخوف هنا غلبة الظن ، أي إن غلب على ظنكم ( ألا تقسطوا في اليتامى ) والقسط هنا هو العدل ، أي أن لا تحققوا العدل في معاملتكم لليتامى ( فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعودوا ) كما لا بد أنكم تذكرون حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها حين سألها عن مورد هذه الآية فقالت له : يا ابن أختي ذلك في اليتيمة تكون في حجر وليها يعجبه جمالها أو يرغبه مالها فلا يريد أن يزوّجها من الآخرين بل يتزوجها هو ، وإلى هنا فالأمر لا بأس به ، لكن الشح والطمع يدفعان في كثير من الأحيان الأوصياء إلى أن لا يبلغوا في هؤلاء اليتيمات اللواتي هن في حجورهن وتحت وصايتهم سنتهن في النكاح ، في الصداق ، يعني لا يعطون لهؤلاء اليتيمات المهر المتعارف عليه . وذكرت لكم قول الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى : أدركنا الناس ولهم مناكح وأكفاء ، أي أن لهم أكفاء في الزواج ولهم مناكح أي مهور محدودة معروفة لكل بيت من البيوتات . فبعض الأوصياء في الجاهلية كانوا يظلمون هؤلاء اليتيمات لا لسبب إلا لأنهن يتيمات بلا عائل ولا كافل ، وإلا لأنهن تحت الوصاية ، فيعطوهن من المهور أقل مما يستحققن . فالله جلّ وعلا نهى عن ذلك وبيّن أن الإنسان المسلم إذا غلب على ظنه أنه قد يجور في تزوجه من يتيمة هي في حجره وتحت وصايته فلا يعطيها سنتها في الصداق فقد أحل الله أن ينكح ما سواها ( مثنى وثلاث ورباع ) .

 وتحدثنا إليكم عن ضلال الفهم الذي سقط فيها بعض الناس من جراء عدم فهم السر في استعمال العدد المعدول وهو مثنى وثلاث ورباع ، ولا حاجة إلى إعادة هذه الأشياء ( وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) .

 وتحدثنا عن حكمة الإسلام في إباحة التعدد وتحدثنا عن المبررات والمسوغات التي جعلت الإسلام يقر مبدأ التعدد في الزوجات ، علماً بأن الإسلام لم ينشئ التعدد ، وإنما جاء الإسلام والرجل يعدد الزوجات إلى غير حد ، وسترون فيما يلي أن الرجل يملك في الجاهلية من وسائل الإرهاب ووسائل التعذيب والقهر على النساء سلطةً غريبةً عجيبة تبقي المرأة لا هي امرأة معلقة في حبال زوجية لها حقوقها وعليها وجائبها ، ولا هي مطلقة تبتغي ما قسم الله لها من أزواج ، فيأتي ذلك كله إن شاء الله ، على أني لم أقضِ أربي من الكلام عن قول الله جلّ وعلا ( إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) .

 وتذكرون إن شاء الله أنني ذكرت لكم أن لغطاً هائلاً وعظيماً حصل في فواتح هذا القرن ، وما يزال الببغاوات من المسلمين يرددون وحتى الآن ، وذلك سبب هزيمة روحية وعقلية واجتماعية يعاني منها هؤلاء الناس أمام ضغط الحضارة الأجنبية بمقولاتها ومفاهيمها ، وبعض علماء الإسلام الذين يحتلون في الفكر الإسلامي المعاصر مكانة مرموقة سقطوا في هذا الشرك فقالوا إنه برغم أن القرآن يقول فـي هذا الموطن ( انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) لكنه يقول ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) فهو بنص الآية كما ترون قد أباح التعدد بشرط وهو العدل ، فإذا خشي الرجل أن لا يعدل حين الجمع بين أكثر من امرأة في عصمته فعليه الاقتصار على زوجة واحدة ، وهذه هي حجتهم التي يذيعون بها .

 وإذا مضينا مع السورة نجد الله جلّ وعلا يقول بعد شوط طويل من هؤلاء الآيات ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) وإذاً فإن التعدد توقف على تحقق شرط محدد وهو العدل ، لكنه ثبت بنص الآية الأخرى كما هو ظاهر أن العدل مطلب مستحيل ، وإذاً فالتعدد قد ارتبطت إباحته بشرط مستحيل الوقوع فهو باطل ، وعليه فالحكم الذي يُستنتج ويستخلص من مجموع ما قال الله في هذه السورة هو أن الأصل والشيء الوحيد المعترف به شرعاً في الإسلام أن يتزوج الإنسان امرأة واحدة وليس له أن يجمع في عصمته أكثر من امرأة إلا إذا بدا له أن يطلق الأولى ليتزوج الثانية أو أن تموت الزوجة التي هي في عصمته فيستبدل ويستحدث بها بدلاً منها امرأة أخرى . وبينا لكم أيضاً أن هذه الكلام برغم الظاهر البراق وبرغم المنطق المحكم ظاهرياً كلام أناسٍ عابثين ، وهذا أقل ما يجب أن يوصفوا به ، لأن هذا الكلام لو صدر من آحاد الآدميين لقلنا إن هذا الآدمي الذي يتكلم بهذا الشكل إنسان مخبول مختل العقل ، كيف يبيح شيئاً ثم يحرمه بتعليقه على شرط مستحيل ؟ إن العاقل من الناس لا يسقط في تناقض من هذا القبيل ، فكيف إذا أضيف الكلام إلى الله تبارك وتعالى . إن المسألة فوق أنها تعبير صحيح عن الهزيمة العقلية والشعورية والاجتماعية أمام ضغط الحضارة الغربية الزائفة المزيفة يدل على اتهام الله سبحانه وتعالى في التنقاض والجهل وفقدان الموقف ، وهذه كبيرة من الكبائر ومشكلة من المشاكل التي لا تحل . كيف إذاً وُفّق بين الأمرين ؟ حينما نتذكر أن السنة كلام النبي عليه السلام ، فعل النبي عليه السلام ، تقرير النبي عليه السلام ، شارحة لمراد الخالق جلّ وعلا في محكم كتابه ، فعلينا باستمرار أن نرجع إلى شروحات السنة ، لأن الله جلّ وعلا يخاطب محمداً عليه الصلاة والسـلام فيقول ( ونزلنا إليك الذكر ) أي القرآن ( لتبين للناس ما نُزّل إليهم ) فبعد ورود البيان عن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم لا يبقى لقائل مقال ولا يبقى لتفسير مجال ، فإذا رجعنا نطرق أبواب السنة مستفتين مستعلمين فسنجد أن النبي عليه الصلاة والسلام عدّد ، وأن أصحابه عدّدوا ، والنبي عليه الصلاة والسلام توفي عن تسع من النساء وهن في عصمته ، وفي موطأ مالك وسنن النسائي وسـنن الدار قطني أن غيلان بن أمية الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر أربعاً وفارق سائرهن . يعني فارق الباقيات . وفي سنن أبي داوود أن الحارث بن قيس أسلم وعنده ست نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر أربعاً وفارق اثنتين . ومضت أعمال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأمة إلى يومنا هذا إلى استعمال مبدأ التعديد من غير نكيرٍ من أحد من الناس إلا ما يُعرف عن طائفة الدروز الآن ، وأقول الآن ، لأنها باختلاطها مع النصارى وبمودتها للنصارى منذ الحروب الصليبية وحتى الآن ، وبحكم كونها طابوراً خامساً على الأمة ، تعمل على تفتيت وحدتها وتهديم عقيدتها مما يدفعها إلى الارتباط بالصليبية العالمية ارتباطاً مصيرياً تقلّد النصارى في هذا الباب .

 فإن الأمة ما عدا هذه الطائفة المنبوذة تقر مبدأ التعدد من غير نكير ، فشهادة السنة ليست مع هؤلاء الناس ، وشهادة الواقع وعمل الأمة ليس مع هؤلاء الناس ، فما هو العدل الذي قال الله عنه ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) ؟ إنما حين نرجع إلى السنة أيضاً نجد النبي صلى الله عليه وسلم في المشهور عنه في تعامله مع نسائه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن كان يعدل بينهن في المطعم وفي المشرب وفي البيتوتة وفي المعاملة الظاهرة وفي كل ما يقع تحت طاقة الإنسان ، ويقوم رافعاً يديه إلى السماء : اللهم إن هذا قسمي ـ يعني حظي ونصيبي وملكي ـ فيما أملك ـ وهو العدل الظاهر ـ فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك . وهو الميل القلبي ، ومعروف لدى آحاد الناس أن هوى النبي عليه الصلاة والسلام كان مع عائشة أكثر من سائر نسائه رضي الله عنهن وأرضاهن ، فهوى القلب وميل القلب لا يمكن أن يقدر الإنسان على تحقيق العدل فيه ، ذلك بأن الأمر كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . فهذا هو العدل المستحيل ، عدل الميل القلبي الذي يملكه الله ولا يملكه البشر ، وأما العدل الظاهر فهو مقدور عليه ، كل إنسان قادر على أن يبيت عند هـذه ليلة وعند هذه ليلة وعند هذه ليلة وعند هذه ليلة ، إلا أن يكون سفيهاً ، ونحن لا نتحدث عن السفهاء وإنما نتحدث عن الناس العقلاء الأسوياء .

 وكل إنسان قادر على أن يأتي لزوجاته بقماش من نفس النوع يوزعه بينهن ذلك متوفر في الأسواق ، وكل إنسان قادر على أن يقدم ذات الطبق من الطعام لكل واحدة من الزوجات ، ذلك لا تتعلق به الاستحالة أبداً ، ولهذا فنحن نقول بكل طمأنينة : إن الذين يقولون إن الإسلام يُحرّم الجمع بين أكثر امرأة واحدة هم أولاً مفترون على اللغة ومفترون على الواقع التاريخي ومفترون على القرآن ومفترون على السنة ، ورامون لله جلّ وعلا في الجهل والتناقض ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، وهم في نهاية المطاف قوم يشعرون بالضعة والهوان والصغار أمام حضارة غربية غازية قوامها مسيحية مزيفة ، وإلا فالمسيحية معلوم أنها تعتبر التوراة كتابها المقدس وشريعتها التي يجب التحاكم إليها ، والتوراة في صلبها حتى بعد التحرير وكما تُقرأ اليوم بين اليهود والنصارى تذكر عن أنبياء بني إسرائيل تعدداً قد يبلغ الألف زوجة لدى النبي الواحد . فمبدأ التعدد معروف ليس فقط لدى أنبياء بني إسرائيل بل لدى آباء الكنيسة في الذات ، وتجاوز هذه الحقيقة أو هذه الضرورة شيء ضار ، إن الحضارة الغربية حين قالت بهذه المقولة وأخذت بها إنما أخذت بها استناداً إلى توجيه من المسيح يُنسب إليه لا ندري مبلغ صحته ، يقول : إن النساء شر فإن كان لا بد من هذا الشر فواحدة تكفي ، واحدة تكفي ، وآباء الكنيسة ينصحون رجال الكهنوت نصيحة بالعزوبة نصيحة فقط ، ولكن تلك توجيهات توجه إلى القادرين ، والقادرون في هذا الميدان عجب ، والفضائح التي تزكم الأنوف الناشئة عن الحرمان الجنسي تزكم الإنوفوتملأ صفحات الكتب أي ليس بين آحاد الناس في المجتمع النصراني وإنما بين رجال الكهنوت ، بين رجال الكنيسة ، العبث الجنسي القائم بين آحاد النساء وبين آباء الكنيسة بالذات ، والكتب المؤلفة في مباذل رجال الدين المسيحي كتب لا تقع تحت حصر .

 فالإسلام كما قلنا مراراً وتكراراً دين لا يفتري على الواقع ولا يتجاوز حد الضرورات ولايتجاهلها ، إنه دين يرتفع بالإنسان من حيث هو ، ويعترف اعترافاً كاملاً على ما فيه من دوافع وغرائز ، ولهذا فهو يبارك الدافع الجنسي ، ولكنه ينظمه في الحدود التي يعلم الله أنها منتجة وموفية الغرض المقصود ، ومن هذا لن يدعو الناس إلى التبتل والحرمان الجنسي ، ولقد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون حينما استأذنه في الخصاء ، ولو أذن له بذلك لاختصى معظم الصحابة ، وقال له : إن من سنتي النكاح فمن رغب عن سـنتي فليس منه . وقال للناس : لا رهبانية في الإسلام وربانية أمتي الجهاد . وقال : لكني أنام وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وذلك من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني . إلى توجيهات وتلقينات نبوية لا حصر لها . إن الإسلام بمنطقه السليم هذا بشري وليس ديناً يدعو إلى بتولة تعني الحرمان الذي يهدد الجنس البشري بالانقراض وبالفناء .

 من الناحية الأخرى ليس هو الدين الفوضوي الذي يترك الحبل على الغارب كما كان الشأن عليه في الجاهلية فيدع للرجل أن يتزوج بلا حد محدود وبلا عدد معدود ويجعل النساء كالسوائم ينزو عليهن الرجال كما ينزو التيس على المعز ، لا ، الإسلام لا يفعل هذا ولكنه يحدد وينظم وفاقاً للقدرة الجنسية من جهة والكفاءة المالية من جهة أخرى والحاجات البشرية من جهة أخيرة . ضمن هذه الدوافع الثلاثة ينظم الإسلام مبدأ تعدد الزوجات فيبيح التعدد أصلاً ولكنه يقف به عند الأربعة انتهاء . وما كان من تعديد النبي عليه الصلاة والسلام لنساءٍ هن أكثر من أربعة فهو من خصائص صلى الله عليه وسلم التي لا يُقاس عليها ، لأن تزوّجه في الأصل عليه الصلاة والسلام كان لضرورات دعت إليها مصلحة الدعوة قبل أن تدعو إليها مصلحة الرجل الراغب في الزواج الطامح في المرأة بدليل أن معظم النساء اللواتي تزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ كنّ قد جاوزنا سن الشباب ودخلنا سن الشيخوخة ، فلا مطمع فيهن للرجل ، لا من حيث الكمال البدني ولا من حيث جمال الشكل ، وإنما دعت ضرورات معينة سنتحدث عنها في حينها إلى أن يعدد النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذا الحد ، ومع هذا فنحن حين نرجع إلى القرآن نجد ربنا جلّ وعلا يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام صراحة بأن عليه أن يقف عند هذا الحد فيقول له في سورة أخرى ( لا يحل لك النساء من بعد ولا أنت تتبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ) فكما ترون الإسلام تناول القضية فوضعها ضمن إطار منظم قائم على ضرورات واقعية اجتماعية بشرية تدعو إليها الضرورة الإنسانية ، وتجاهلها والقفز من فوقها سيؤدي كما أدى بالأمم الأخرى إلى شيوع الفاحشة في الذين آمنوا ، لأننا نلحظ أنه في كثير من الأحيان يقع اختيار الرجل على امرأته يعجبه منها مزاجها فتكون النتيجة أن المرأة غير قادرة على أن تروي الرجل جنسياً ، وتلك طاقة بشرية مبررة ومشروحة تماماً ، ولا معنى لكبتها ، لأن كبتها يولّد عقداً وانحرافات ، فالإسلام لا يقف مكتوف اليد أمام حالة شاذة من هذا النوع ، لأنه لو وقف منها موقف اللا مبالي موقف مكتوف اليد لكان معنى ذلك أمراً خفياً إلى هذا الرجل : أن ابتغِ الحرام من أجل تصريف طاقتك الجنسية ، وهذا هو الذي حصل في المجتمعات التي تقصر الرجل الواحد على امرأة واحدة .

 والواقع الغربي الآن تماماً كله يشهد أن المبدأ الذي اعتمده النصارى في هذا الباب مبدأ مسؤول بصورة أساسية ومباشرة عن الفساد الخلقي والانهيار الخلقي الذي يعاني منه ، ليس النصارى فقط ، وإنما كل الناس ، لأن النصارى نشروا عهرهم وجربهم على الناس عامة .

 فكل زوجة أو معظم الزوجات عند النصارى في الغرب لهن عشاق إلى جانب الأزواج ، وكل زوج أو معظم الأزواج في الغرب عند النصارى لهم خلائل وصاحبات ، وذلك شيء يرضاه العرف هناك ويقره ويقبل به ويعتبره حقاً مشروعاً ، حتى أصبح هناك من العار أن توجد امرأة واحدة عند الزواج بكراً ، لأنهم يعتبرون البكارة عاراً لأنها غفلة وغرارة وقلة تجربة ، فالفتاة لا تتزوج إلا بعد أن تكون قد تقلبت في أحضان المئات من الرجال وتذوقت ما شاء له هواها أن تتذوق من هذه المباذل والمفاسد ، من المسؤول عن هذا ؟ المسؤول عن هذا قصر الإنسان النصراني على امرأة واحدة ، وأشهد لكم أنني عرفت رجلاً من كرام النصارى في دمشق ، كان يخرج من بيته في الساعة السادسة صباحاً ، وكان يسكن في القصّاع أي القصاع في دمشق ، ويذهب رائحاً غادياً في الشارع العام حتى الساعة الثامنة ، ويذهب إلى محل عمله في دوائر الدولة ، فإذا انقضى دوامه الرسمي أكل في بيته ومضى يلتمس لنفسه التسليات في الخارج ، ولا يعود إلا بعد منتصف الليل بعد أن تكون الزوجة قد هجعت ، لماذا ؟ إن الزوجة مجنونة ، مجنونة جنوناً مطبقاً يستحيل العيش معها ، ومع ذلك فشريعة النصارى تقول إن من طلق فقد زنا ، ومن تزوج مطلقةً فقد زنا ، وهذا الرجل المسكين مقيّد إلى هذه الزوجة بالقيد الأبدي الذي لا يحله إلا الموت الذي يصيبه أو يصيبها . وبالنتيجة مات الزوج قبل الزوجة ، بقيت الزوجة مجنونة حية ، ومات الزوج بحسراته وآلامه .

 إن الإسلام لا يقبل أن يحكم على الناس حكماً قاسياً كهذا الحكم ، لأن حكماً من هذا القبيل يعني استهتاراً بالطبيعة البشرية ، والطبيعة البشرية تعاقب الذين يستهترون بها ، وتؤدب الذين يتجاوزونها ، وأية عقوبة وأية تأديب أبلغ وأكثر من أن يكون الأمر على الشكل الذي هو سائد الآن في المدنيات الغربية وفي الأمم التي تأثرت بالمدنيات الغربية ، تلك هي المآلات والنتائج التي سنتأدى إليها لو سمحنا لأنفسنا أن ننساق وراء نعيق البوم والغربان الذي يتعالى في وسط مجتمعنا المسلم ليرمي مجتمعنا النظيف المهذب الذي يعترف بالإنسانية من حيث هي إنسانية بالرجعية والجهود والتخلف وينادينا بالاقتداء بالمجتمعات المتقدمة المتطورة كما يقولون عنها ، لنسلك ذات السبيل . ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب شديد ) .

 تلك هي المآلات التي تنتظر الأمة لو سمحت لنفسها أن تنساق في الطريق التي يدعو إليها الخلعاء والسفهاء ، تلك هي المآلات التي تنتظرنا لو سمحنا للفواجر من النساء ممن ينتمين الآن إلى المنظمات النسائية ويرون من حقهن الكامل أن يتبرجن وأن يعرضن مفاتنهن وزينتهن على النظرات الجائعة والشهوات المسعورة ، أن يمضين في هذا الطريق إلى نهاية الطريق ، تلك هي النتائج ، ولكن نحن على ثقه من أن أمتنا بحمد الله تملك من الإحساس بالمخاطر ما يأذن لها بأن تسكت هذه الأصوات وأن تبطل هذه التحركات وأن تلزم نفسها وتلزم الخارجين على الآداب بالوقوف عند الحدود التي حدد الله جلّ وعلا ، وذلك إن شاء الله هو الأمل المعهود عليكم أنتم أبناء هذا الجيل الجديد الذين واعيتم الإسلام وعرفتم الأهداف ولامستم نظافة الصورة المجتمعية التي يعرضها الإسلام ، تلك إذاً هي مهمتنا : أن تعرضوا للناس شريعة الإسلام ناصعة غراء نظيفة وضاءة هي أطهر وأزكى وأسمى وأعلى من كل ما يتداعى إليه الناس ( ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) اعلموا ( أن الله يحي الأرض بعد موتها ) وهـذا القرآن ماؤه ينصب على القلوب ليحيي منها مواتها ، ومائدة الله الممدودة التي يلتمس منها الناس الغذاء الصحيح والدواء الشافي ، فاقبلوا من الله عافيته ، واسألوه جلّ وعلا العون على المضي قدماً في الطريق المؤدي إلى رضوانه ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجميعين والحمد لله رب العالمين.