تفسير سورة النجم(1)

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة النجم

الجمعة 1 صفر 1397 / 21 كانون الثاني 1977

الحلقة ( 1 ـ 5 ) 

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله من الذين اتقوا والذين هم محسـنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

       السور القصيرة التي تحدثنا عنها في الماضي تعد واحداً وعشرين سورة ، ونحن الآن نواجه السورة الثانية والعشرين في سياق التنزيل وهي سورة النجم ، وتعرفون مطالع سورة النجم ، وهي تبدأ ( والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ، ذو مِرّةٍ فاستوى ، وهـو بالأفق الأعلى ، ثم دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلـى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، أفتمارونه على ما يرى ، ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ، ما زاغ البصر وما طغى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) هذا المقطع الذي تفتتح به السورة هو يشكل المشكلة الضخمة في وجهنا ونحن ندرس هذه السورة ، واضح من سماعي هذا الكلام الإلهي أن هذا المقطع من السورة يشير إلى واقعة من وقائع السيرة المشهورة وهي الإسراء والمعراج ، نحن حددنا لأنفسنا مدى زمنياً ينتهي في السنة الخامسة من المبعث ، وقلنا إن الآية التي تحمل الأمر بالبلاغ العام تنتهي هذه السنة ، ونحن الآن في السورة الثاني والعشرين أي بيننا وبين نهاية المرحلة وفاقاً لترتيب سور القرآن تسع وعشرون سورة ، فمتى كانت حادثة الإسراء والمعراج ؟

       حسب الترتيب المتعارف عليه بين كتّاب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُبّئ على رأس الأربعين من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم ، وأنه في رأي المكثرين ظل يدعو سراً من يثق به من قومه ثلاث سنين ، ثم أُمر بالبلاغ ، ونحن أضفنا من عندنا سنتين إكراماً لخاطر أولئك الذين يتصورون سرية الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على نمط سرية الأحزاب المعروفة اليوم والمحظورة والممنوعة والتي تعتبر خارجة على القانون ، إكراماً لهؤلاء أضفنا من عندنا سنتين رجاء أن ننظر في مضامين القرآن النازلة في هذه الفترة كلها لنرى نصيب السرية من الدعوة الإسلامية في هذه الفترة ، وبعد مرور سنتين على آخر مدى وضعه أكثر كتّاب السيرة إسرافاً في تصور السرية ، فحادثة الإسراء والمعراج هل وقعت ضمن هذه المدة ؟ لا ، كما قلنا ظل النبي يدعو من يثق به وجاءه أمر الله بأن ينذر عشيرته الأقربين فجمعهم عنده وأنذرهم وأبلغهم أنه رسول من الله جل وعلا إليهم خاصة وإلى الناس عامة ، وأبان لهم مكانتهم في نفسه وشدة حرصه على سـعادتهم وقال لهم : والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم . فالإنسان لا يتآمر على أهله وقومه وعشيرته ولا سيما في المنظور الجاهلي ، القبيلة هي محور الوجود الإنساني كله ، والفرد من القبيلة لا يرى لنفسه وجوداً خارج نطاق القبيلة . لكن معظم قومه ردوه كما ردته سائر قريش ، ثم أُمر بالبلاغ فبلّغ ، ثم ما كان من البلاء والإيذاء والفتنة ..

      وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عن المسلمين بعض الذي يرونه من عنت قريش فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة إلى أرض النجاشي فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة ضمّت عدداً من رجال المسلمين وعدداً قليلاً من النساء المسلمات . كان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة .

       وظل النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على أمر الله ، شديد الإنفاذ لما يريده الله تعالـى منه ، يتردد على مجالس قريش وأنديتها ويلتقي بالقبائل القريبة من مكة ، ويلقى منهم مثل ما يلقى من قريش . ثم كان تآمر قريش ليس على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فحسب وليس على الذين آمنوا فحسب وإنما على بني هاشم وبني عبد المطلب جميعاً .

       فقررت قريش مقاطعة بني عبد المطلب أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم على سواء ، وكان حصار الشعب الذي استمر ثلاث سنين أو أقل قليلاً . ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الشعب ، كان الوقت يقارب السنة التاسعة أو يزيد من البعثة ، ثم خرج إلى الطائف ولقي في الطائف أشد مما لقي في مكة ، يروى أن أهل الطائف حين جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وقفوا له في الطريق صفين ، فكان كلما نقل قدماً وهو يمشي كانت تأتيه الحجارة حتى أخذ الدم ينزف من قدميه صلى الله عليه وسلم ، ولما رأى ما رأى من هذا الاستقبال الشنيع رجا أشراف ثقيف قائلاً : ما دمتم فعلتم ما فعلتم فأنا أرجو أن تكتموا هذا اللقاء عن قريش ، كي لا تزداد عداءً له .

       ولكن ثقيفاً قبيلة مشركة جاهلية ، وهي قبيلة منافسة لقريش ، فكما أن قريشاً سادنة بيت الله الحرام الكعبة المشرفة ، فإن ثقيف بنت لصنمها اللات بيتاً ورتبت له سدنة وكان يعظمونه كتعظيم بيت الله الحرام ، فأرادوا أن يغروا محمداً صلى الله عليه وسلم بقريش ، ويغروا قريشاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يأمنون من ذلك أن تصطرع قريش فيما بينها لتضعف ، وتضعف الكعبة من جرّاء ذلك ، ويكون لثقيف المكان الأول بين قبائل العرب وللطاغية صنمهم المنزلة الأولى بين أصنام العرب ، ولبيتهم في الطائف المكانة الأولى ، ويتحول الحج من مكة إلـى الطائف . فأغروا به السفهاء والصبيان ، وسبقت هذه الأخبار محمداً صلى الله عليه وسلم إلى مكة فازدادت قريش شراسة إلى شراسة .

       في هذا الأثناء أو قبلها بقليل بعد الخروج من الشعب بخمس وثلاثين ليلة توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، ولم تلبث قليلاً حتى توفي أبو طالب ، وفقد النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الوفية الصابرة المحتسبة التي كانت بلمسات حنانها تمسح متاعب النبي صلى الله عليه وسلم وتعيد السكينة والطمأنينة إلى نفسه . وبفقد أبي طالب فقد النبي صلى الله عليه وسلم شيخ القبيلة بل شيخ قريش ، حيث كانت قريش والعرب جميعاً تعظمه وتحترمه وتعرف قدره بينها . ولشدة المصاب سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام عام الحزن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لقي من المتاعب والأهوال ما تنهد له الجبال . وتلفت النبي صلى الله عليه وسلم فوجد نفسه وحيداً بين قوم تزداد شراستهم مع الأيام ، ولا يؤُذن حالهم بأن يستقر على قرار إلا أن يُقضى على هذه الدعوة وعلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم .

       في هذه الأثناء كانت حادثة الإسراء والمعراج ، كالتعزية والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل هذا البلاء من جرّاء حمل هذه الرسالة ، متى كانت ؟ المبعدون جداً يقولون أنها كانت قبل ثمانية عشر شهراً من الهجرة . ونحن الآن في النصف الثاني من البعثة ، فـي السـنة الحادية عشـر للبعثة النبوية ، فنحن إذاً قد قطعنا مرحلة طويلة جداً طوت خلالها أحـداثاً ما مررنا بها ، طوت وقائع ما تعرفنا عليها ، طوت خلالها أموراً نزل بها القـرآن ما قرأناها حتى الآن ، فكيف التوفيق ؟ لا مجال للقول بأن هذه الفاتحة لا تتعلق بالإسراء  والمعراج ، فاتحة السورة صريحة في أنها تقص شيئاً من نبأ الإسراء والمعراج على سبيل الآية للنبي صلى الله عليه وسـلم ، كيف أن الله تعالى أسرى به من ليلته ، من فراشه من مكة حتى أتى به بيت المقدس ثم عُرج به من هناك إلى السماء وعاين من أمر الله ما عاين . ففاتحة السورة قصت هذا كله ووضعت أمام قارئ القرآن إلى آخر الزمان هذه السورة العجيبة المليئة بالتهاويل والأعاجيب التي هي بذاتها خارقة من الخوارق التي أجراها الله تعالى تسلية وتعزية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن هذا البلاء الذي رآه في مكة .

       كان عليه الصلاة والسلام يتردد بين مكة والطائف وبين قبائل من قبائل العرب ليست بعيدة عن مكة ، هذا الحيز الصغير من الأرض هي التي شهدت هذا الثوران من الأحداث التي أثقلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهدّت قواه هداً لولا عناية الله جل وعلا . كيف السبيل كي يُمسح هذا كله ؟ هو أن يأخذ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في سياحة في كونه العريض في عالمه الذي لا يتناها ، ورأى محمد صلى الله عليه وسلم من ملك الله ما رأى ، واستقر في حسه ما أرادت الآيات أن تقره ، وكذلك أن تقرّ في قلوب جميع الدعاة إلى الله على آخر الزمان أن هـذا الحيز الصغير الذي تضطربون فيه ، ما هو ؟ ما شأنه ؟ مكان صغير في كوكب صغير في زاوية لا يؤبه لها في كون الله العريض . والله جل وعلا يوم كلّفك يا محمد بأن تحمل للناس كلمته الأخيرة والخالدة والباقية أتراه يتركك لهؤلاء السفهاء والمعاندين ؟ من هؤلاء إلى جانب جنود الله جل وعلا ؟ ومن هم إلى جانب من أهلك الله من الأمم السابقة التي كانت ذات قوة وجبروت ؟ إذاً فلتثق بالله ، وأنت أيها الداعي إلى الله أتظن أن الله جل وعلا ليس في علمه وفي ملكه إلا هذا الحيز الضيق الصغير الذي تجد من أهله الصدّ والجحود والنكران ؟ أتظن أن الكون خلا إلا من هـذه الزنزانة الضيقة التي ألقاك بها الظلمة ؟ أبداً . أنت أينما كنت في عين الله جل وعلا ، وأنت قبل وبعد حامل رسالة ليست منك ليكون أمر تدبيرها إليك ، ولكنها من الله خالق الكون كله ورب الكون كله الذي يسوس الكون كله ، فلتثق بأن الله لن يضيعك .

       هذه القضية تنتمي إلى واقعة الإسراء والمعراج ، وهما في منتصف السنة الحادية عشر من البعثة النبوية . إذاً فأين نحن ؟ ونحن حددنا لأنفسنا حداً لا يتجاوز السنة الخامسة من البعثة ، هل هناك من حل للمشكلة ؟ سنحاول ويجب أن تعلموا أن المسألة مسألة ظن وليس هو غالب الظن كذلك ، وهو من المحتمل أن يتغير نتيجة الدراسة ، ولكم علي إن شاء الله أن أقول لكم ما سيستقر عليه الرأي إذا تغير هذا الذي أقول .

       كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآيات دعا من كان يكتب له الوحي ، وبعد الكتابة يقول لهم : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، فوضع الآيات في السور ليس اجتهاداً من الصحابة رضي الله عنهم ولكنه توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل الآيات المحشودة في أية سورة من السور فبأمر النبي صلى الله عليه وسلم وضعت في هذه السورة ، ولكن هل في تاريخ القرآن ما يشير إلى أن سور القرآن عموماً كانت تنزل كل سورة على حيالها دفعةً واحدة ؟ لا ، لنأخذ مثلاً سورة البقرة وهي أول سور القرآن وأطول سور القرآن والذي لا شك فيه أن سورة البقرة تنتمي إلى أوائل عهد الهجرة النبوية إلى المدينة ، أي أنها على الأبعد بدأ نزولها في السنة الثانية من الهجرة ،  وسورة البقرة فيها آية يقال إنها آخر شيء نزل من القرآن الكريم وهو قوله جل وعلا ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت ) فيقال إن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن الكريم ، وبناء على هذا نستطيع أن نقول إن سورة البقرة استمرت في الإنزال تسع سنوات كوامل ، وهي سورة واحدة ، لكنها كانت تنزل منها الآيات فيقول رسول الله : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي تذكر فيها البقرة بعد الآية كذا وكذا حتى موضع الآية لسياق السورة يعينه رسول الله صلى عليه وسلم .

       إذا فرغنا من هذا فلنطرح عل أنفسنا سؤالاً آخر ، تسمية السور ، نسمع أن هذه السورة هنا سورة البقرة ، ونسمع أن هذه السورة اسمها سورة آل عمران أو سورة بني إسرائيل ، وأن تلك سورة الكهف فلماذا ؟ لوجود واقعة تشير إليها آية أو عدد محصور من الآيات في هذه السورة بالذات ، فسورة البقرة مع أنها 286 آية وفيها أطول آيات القرآن الكريم وهي آية الدين جاءت قصة البقرة فيها في عدد محدود جداً من الآيات ومع ذلك سُميت السورة كلها باسم هذه السورة . وسورة آل عمران سميت بهذا الاسم مع أن معظمها كان يدور الحديث فيه على غزوة أحد ومعقباتها والدروس المستخلصة منها وجملة العبر والتوجيهات التي أخذ الله بها الأمة المسلمة ، فإنما سميت سورة آل عمران أو سورة بني إسرائيل لأن فاتحتها تأخذ بالحديث عن بني إسرائيل وما اختلفوا  فيه من شأن عيسى صلى الله عليه وسلم . وقل مثل ذلك في جمهور السور ، لكنا نصادف في تسميات السور تسميات لا تدل على مضمون من مضامين السورة أبداً ، نحن نسمع أن هناك سورة في القرآن اسمها سورة قاف ، فقاف هو الحرف الهجائي الذي بدئت به السورة وسميت السورة باسم هذا الحرف مع أنها لا تشير ـ أي هذه التسمية ـ إلى شيء من أغراض السورة وجمهور القضايا التي أثارتها السورة . فالتسمية إذن لا تحل لنا المشكلة في الشيء الذي نحن بصدده ، لكن الذي قد يكون فيه شيء من الدور باتجاه حل المشكلة هذا الزمن المتطايل التي تأخذ به السورة في النماء والاكتمال ، فقد تنزل السورة اليوم ولا تكتمل إلى بعد عدد من السنين ، ولعل سورة النجم أن تكون من هذا القبيل .

       فإذا رجعنا إلى مضامين السورة نفسها أي سورة النجم فنحن نجد أن جمهور مضمون السورة بعد أن ينتهي الحديث عن إشارات إلى الإسراء والمعراج ينتمي إلى الأحداث التي وقعت أولاً في العهد المبكر من عهد النبوة ، بعد أن ينتهي الحديث عن النجم إذا هوى قسماً مشعراً بضلال العرب الذين تسرب إليهم دين الصابئة في الجاهلية وعبدت قبائل منهم الكواكب ، وكانوا يعبدون الشعر اليمانية ويعبدون غيرها من الكواكب وكانوا يتصورون حولها تصورات مما لا يمكن لنا أن نقص عليكم اليوم ، ولكن سنأتي على نبذٍ منه إن شاء الله تعالى حين نأخذ بالتعرف على ديانات العرب في الجاهلية .

       بعد أن أشار الله بهوي النجم أي سقوطه ، إلى تغير هذا النجم وحدوثه ووجود قوة تمسك به إذا شاءت أن تمسك به ، وتسقطه إذا أرادت أن تسقطه ، أشارت بهذا إلى ضلال العرب أن هذا الكون المحدث المخلوق المتغير لا يستحق أن يسمى إلهاً فيقسم بهذا المعبود الجاهلي علـى استقامة أمر محمد وعلى رشاد محمد صلى الله عليه وسلم ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) وتشير أيضاً بعد ذلك مباشرة إلى فارق جوهري كان الحديث ينصب عليه منذ بدايات الدعوة ( وما ينطق عن الهوى ) فنحن نعرف من السور التي استعرضناها في الماضي أن هذا القرآن من أول الأمر فصل فصلاً حاسماً وأكيداً بين ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما هو نازل على سبيل الوحي من الله جل وعلا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضى والغضب ولكنه لا يقول إلا حقاً على كل الحالات ، ومع ذلك فكان صلى الله عليه وسلم حريصاً غاية الحرص على أن لا يلتبس قول الله بقوله كي تضمن سلامة الوحي بأقصى ما في الطاقة البشرية من الضمانات التي يمكن أن تقدمها البشرية ، لماذا ؟ لسبب الجوهري الذي ألمحنا إليه قبل قليل وهو أن هذا القرآن ليس من عمل محمد وليس من تقوّل المخلوقين ولكنه قول الله جل وعلا ورسالته إلى الناس وكلمته الخاتمة في سجل النبوات التي أنزلها منذ آدم عليه السلام وانتهاءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن مجهودات البشر في معزل عن هذا التنزيل ، وأن رغبات البشر وما يطيقه البشر أو ما لا يطيقونه في معزل عن قضايا التنزيل وعن قضايا الوحي وعن طلبات الله جل وعلا  .. ( وما ينطق عن الهوى ) أي أنه لا يقول لكم هذا الشيء الذي أمرته أن يقوله لكم عن التشهي والاتباع لما تهواه نفسه ( إن هو إلا وحي يوحى ) .

       بعد الكلام عن الإسراء والمعراج يأتي النغم الذي ألفناه فـي السور الماضية ، التنديد والهجاء والذم واللوم والتقريع للعرب التي عبدت آلهة من دون الله جل وعلا .

       الآن الثالثة الأخرى ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى ) واللات والعزى ومناة من الأصنام المشهورة التي كانت تعبدها العرب في الجاهلية والتي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها وهدمت جميعاً ، أرأيتم هذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة من دون الله ؟ أتخلق أو ترزق أو يسمعونكم إذ تدعون ..؟ لا ، هل المشكلة أن نعبد ؟ لا ، ليست المشكلة أن نعبد ، فإنما العبادة من حيث هي حاسة ودافع وحافز وحاجة ورغبة أصيلة في الكيان الإنساني ، ومؤرخو الحضارات الإنسانية يقولون إنه قد يمكن أن يُكتشف اليوم أو في المستقبل حضارة لا يكون فيها علم ولا فن ولا سياسة ولا اقتصاد ولا أي شيء ، ولكن من المستحيل أن توجد في الدنيا حضارة ليس فيها دين ، فالدين رافق الإنسانية منذ كانت الإنسانية . وليست المشكلة في هذا الحافز الذي يحسه كل إنسان من ضعفه وحاجته إلى العون الخارجي الذي يستمده لا من داخل ذاته ، فهذا ليس جوهر التديّن ، أن تشعر بأنك غير قادر استقلالاً أن تنشأ وتعيش ولكنك محتاج بصدق أن تمد يدك إلى قوة غيبية تعتقد أنها هي التي خلقتك وهي التي رزقتك وتشكل لك الغوث عند الأزمات والمهمات . المشكلة ليست بهذا ، فالناس قد يعبدون الأصنام فيجدون لذلك راحة في نفوسهم ، وقد يعبدون الزعماء ويجدون لذلك راحة في نفوسهم ، ويعبدون الأسلاف كما يفعل الصينيون ويجدون راحة في نفوسهم ، ويعبدون المسيح بن مريم والعزير ويجدون هذه الراحة ، وهذا هو السر في أن هؤلاء الناس الذين اتبعوا ديانات متعددة راضون ، من الخطأ أن تتصوروا أن هؤلاء الناس غير راضين عن دياناتهم ، في الحقيقة هم راضون في دياناتهم ، ما السبب ؟ لأن هذه الديانات أشبعت الحاجة الأولية التي تشكل ما يشبه رمي الحمل المبهم عن كتف الإنسان المتعب . المشكلة ليست هنا إلا عند الإنسان الذي يتحدد نظره ولا يتجاوز مواطئ قدميه ، المشكلة أن نعرف من نعبد ؟ الذي يستحق العبادة من ؟ المتغير المحدث الذي يأتي عليه الفناء أم الباقي الأزلي الذي هو الله ؟ لا شك أن الباقي هو الذي يُعبد ، والأسلاف الذين ماتوا لا يستحقون العبادة ، والأنبياء الذين ألّهتهم أقوامهم بعد أن وارتهم التراب لا يستحقون أن يُعبدوا . دعك من الأصنام التي تُنحت من الحجارة أو الأخشاب فهذه أهون شأناً من أن يُكترث بها . الذي يستحق العبادة هو الله . ولكن هل انتهت المشكلة عند هذا الحد ؟ عرفنا المعبود الحق ، ولكن المشكلة تبدأ بالتعقيد حين نعرف المعبود الحق ، إذا عرفنا المعبود الحق فأي طريق يرضي هذا المعبود الحق ؟ أنعبده وفقاً لتصوراتنا وآرائنا ورغباتنا ؟ أنعبده بجزء من كياننا بجانب من ليلنا أو نهارنا ؟ أم نعبده بما شرع وبما أراد وبما أوحى ؟ إن المسألة مسألة إرادة خالق وليست إرادة مخلوق ، لو كانت إرادة مخلوق لتحددت غاية التشريع بحياة المخلوق وبتطلعاته وبالقوى التي يتمتع بها هذا المخلوق . ولكن المسألة إرادة خالق ، وحينما يريد الخالق فعلى المخلوق أن يتلائم مع مراد الله جل وعلا ، والخالق لم يخلقك أنت وحدك أيها الإنسان ولم يخلق هذا الجيل فحسب ولا الماضين وحسب ولم يخلق الأرض فقط ، وإنما له كونه الذي تمضي فيه إرادته العليا مضياً مصمماً لا يردها أي شيء ، فإذاً على نظرك وعلـى تطلعك أن يمتد امتداد نظر الخالق وإرادة الخلق جل وعلا ، فالتشريع يحفظ امتداده وديمومته وخلوده بخلود الخالق جل وعلا ، والمخلوق الذي يأخذ بهذا التشريع يستمد من الخالق القدرة على أن تتراحب آفاقه حتى يتلائم في نظره وتطلعاته مع آفاق هذا التشريع الذي لا نهاية له ، فإذاً لا يمكن أن نرضي الخالق إلا بوحيه هو بالذات ، لأنه هو فقط الذي يعبّر عن إرادة الخالق جل وعلا .

       والآيات التي أثارته منْ بعدُ كلامٌ من جملة الكلام يلامس القضايا التي مررنا عليها من قبل ، تنديد بالأصنام ، يا ليتكم وقفتم عند سفاهة وطيش الصنم ، أنتم يا معاشر العرب أضفتم إلى هذه الرذيلة رذيلة أخرى لا تستقيم في ذهن ، أنتم عبدتم الكواكب والأصنام وسميتموها بأسماء الإناث ، مناة اسم أنثى ، العزى اسم أنثى وكذلك اللات ، فكل أصنامهم على نفس الأسماء لماذا ؟ العرب ككل القبائل البادية تعتمد في بقاء وجودها واكتساب أرزاقها ورد العدوان على الذكور :

خلق القتل والقتال علينا        وعلى الغانيات جرّ الذيول

النساء متاع فـي البيت ولأعمال البيت وغير ذلك ، أما القتال فهو من عمل الرجال .

       ومن هنا كان العرب فيهم هذه الخصلة ولعلها ما زالت موجودة إلى الآن لا سيما في الأرياف وفي أبناء الجاهليين من أبناء المدن أنهم حين يولد لهم الذكر يفرحون وَيُولِمُون .. وحين تولد الأنثى يقطب الوالد وجهه ويغضب ، ولقد كانت هذه المشاعر وراء الدافع الذي حمل قبائل إلى أن تئد البنات أي تدفن البنات وهن على قيد الحياة ، فالعرب من كراهتهم للأنثى سموا أصنامهم بأسماء الإناث وقالوا أن الملائكة بنات الله كما قصّ الله علينا في القرآن . فالله جل وعلا بهذا الأسلوب الساخر يقول لهم ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ) أي قسمة جائرة غير عادلة ، لو أنك أجريت هذه القسمة بين من هو على شاكلتك من الناس لكانت قسمة تفتقد إلى العدالة ، فكيف وهي قسمة بينك وبين الله جل وعلا ، إنك ترتكب هذه الرذيلة لضلال عقلك ، لأنه من المعلوم أن الانحراف أوله خطوة وآخره ضلال كبير .

       وهكذا تمضي السيرة في عرضها لكل الأغراض التي جاءت بها منددة للمشركين فاضحة لهم أمام البشرية جمعاء . مشـيرة أثناء ذلك ( أرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلاً وأكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى ، وأنّ إلى ربك المنتهى ) هذه الآيات تشير إلى حادث أغلب الظن أنه ينتمي إلى حوادث الإسراء والمعراج ، للأسف نحن نعثر بين الآن والآن في كتب التفسير والتاريخ القديمة أخباراً لا تستقيم ، ومع ذلك نقول جزى الله أسلافنا كل خير فقد جمعوا ما استطاعوا من علم وعلينا أن نبحث ، عند هذه الآية ورد في كتب التفاسير أن المراد بهذا الكلام مجموعة من المشركين ، وورد على ألسنة بعض رواة السيرة ونقل صاحب الكشاف الزمخشري هذا الكلام أن الآيات تتعلق بعثمان رضي الله عنه ، مشيرة إلى أن عثمان كان ينفق في سبيل الله جل وعلا وأنه ذات يوم جاءه أخوه من الرضاعة طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سـعد بن أبي السرح وقال له : إن بقيت تنفق هكذا فستنهي مالك ، فأمسك عثمان عن الإنفاق ، فنزلت هؤلاء الآيات تندد بعثمان ، وظني أن عثمان أكبر من هذه الرواية بكثير فهو أجود رجل في الإسلام ، ولم يدّخر من ماله لا قبل الهجرة ولا بعدها شيئاً ، وكان يجهّز الجيش بكامله من ماله الخاص ، وأنا أقطع والله أعلم أن هذه الرواية اندست من فئة الشيعة لعنهم الله ، لأنهم كانوا يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

       وكذلك لا يستقيم معنا أن نقول إن هذه الآيات نزلت في شأن رجل من المشركين ، إن المسـألة كما هو واضح تشير إلى شيء يتعلق داخل المجتمع المسلم ، وحين نلجأ إلى واقعة الإسراء والمعراج فنحن نلمح أنها كانت في الواقع تمحيصاً وبلاءً للمسلمين ، وأن من الناس الذين أسلموا حديثاً لم تستوعب عقولهم هذه الحادثة ، وينص كتّاب السيرة على أن بعضاً من ضعفاء الإيمان ارتدوا عن الإسلام حين سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن الإسراء والمعراج . وملخص ما تشير إليه الآيات أن رجلاً مسلماً كان ينفق على المسلمين الناشئة ، وقلنا من قبل أن المسلمين اخذوا طريقهم إلى البروز وأن احتياجاتها كثرت وأن الإسلام طلب من أبنائه بذل إمكاناتهم جميعاً لصبها في هذا المجتمع الجديد ، كان فيما يبدو من هؤلاء الذين أسلموا حديثاُ ينفق في سبيل الله ، ولا نستطيع أن نسقط من حسابنا أن مشركي قريش كانت عيونهم لا تغفل عن متابعة المسلمين وأحوالهم ، ففي دعوة الناشئة يكون كسباً كبيراً حين تصل إلى أسماع هؤلاء الناشة أن هناك من يرتد عن دينه ، ويبدو أن زعماء قريش قالوا لمن لمسوا منه اهتزازاً في الإيمان دع الإنفاق في سبيل الله ودع ما أنت فيه ونحن نحمل عنك أوزارك بعد أن قال لهم إني أخاف الله . قالوا له : نحن نحمل عنك المسؤولية يوم القيامة . فجاءت هؤلاء الآيات ( أرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلاً وأكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يُجزى الجزاء الأوفى ) أن هذه المواعيد التي بذلها المشركون له كلها كذب وأن لا شيء منها سوف تعينه يوم القيامة ، لأن التَبِعَةَ يوم القيامة فردية ، وأنه لا تكسب كل نفس إلا ما عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى . (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يُحمل منها شيء ولو كان ذا قربى ) فالله جل وعلا يشير في هؤلاء الآيات إلى واقعة كانت أثناء حادثة الإسراء والمعراج ، أما ما تبقى فكله في علم الله جل وعلا ينتمي إلى الفترة التي نتحدث عنها ، أي ضمن الخمس السنوات الأولى من عمر الدعوة .

       وأكتفي اليوم بما قلناه عن هذا الجزء من السورة ، ونكمل في الجمعة المقبلة بقية الحديث .

       وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .