تفسير سورتي ( الضحى ، الشرح )

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورتي ( الضحى ، الشرح )

19 ذي الحجة 1396 / 30 كانون الأول 1976 

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسـلام على سـيدنا محمد وعلـى آله وصحبه وسلم . أما بعد :

نُقل بالطريق الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هبت ريح أو نشأت سحابة في السماء تلوّن وجهه الشريف وأكثر الدخول والخروج وفزع إلى الصلاة والدعاء فإذا قيل له في ذلك ، قال : ( ما يدريني لعله يكون عذاباً ، فإن قوماً قد أهلكهم الله تعالى بالريح ، وإن قوماً رأوا ناشئة السحاب فقالوا هذا عارض ممطرنا فأخذهم الله بالبلاء من ذلك السحاب ) . وإن هذا الحس العميق بين الرسول صلى الله علي وسلم وما يجري في الكون يكشف عن مدى هذا الإيمان العظيم الذي كان يعمر قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويرينا إلى أي حد كان عليه الصلاة والسلام يعرف أن هـذا الكون كله بين يدي الله تبارك وتعالى ، وأنه يحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهـم يسألون .

ولقد كان الله سبحانه وتعالى حينما كان يمتن على العرب الذين جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الله جل وعلا يذكرهم بنعمة الأمن ، الأمن من الخوف الذي كان يلف الناس فـي أرجاء الأرض جميعاً ، والذي أعاذهم منه تبارك وتعالى وكان يقول لهم ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ) وما من أحد من الناس في هـذه الأيام يجهل أن كوارث الطبيعة تفتك بالناس فتكاً ذريعاً وتلتهم منهم المئات والألوف ، ومن كان أغلف القلب مصمت الجنان فلن يرى في ذلك أكثر من حوادث طبيعية تجري وفاقاً لأسبابها المعروفة . ولكن الطبيعة وأحداثها والكون وما يجري فيه آية من آيات الله لهذا الإنسان ، يلفته به إلى وجوده وعظمته وقهره واقتداره ، وفي كل يوم تقريباً تسجل المراصد على الأرض انفجارات هنا وهناك تكون من نتائجها عشرات الألوف ابتلعتهم الأرض التي تشققت ، وأضعاف هذا العدد ممن شردوا من غير مأوى وتركوا للرياح والأمطار والثلوج  ، ولو أنهم ذهبوا فيمن ذهب لكان أهنأ لهم بالاً ولكنهم تركوا للشقاء الطويل .

والذي لا بد أن يلفت النظر في هذا أن هذه الأشياء والظواهر مما يخوف الله بها عباده ، فالذين اتقوا يفزعون إلى ذكر الله ويرون يد البطش الإلهي قريبة جداً من الناس ، والذين لا إيمان عندهم يفيئون إلى تفسيرات لا تغني عن الكارثة حين تقع لا قليلاً ولا كثيراً ، فاتقوا الله أيها الناس واعلموا أن الله في بعض الأحيان يأخذ الناس على تخوف ، وفـي بعضها الآخر يأخذهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فاتقوا الله واسألوه أن يجيركم من العذاب وأن يجنبكم مما يحل بالأمم من حولكم .

ونحن الآن في صدد سورتين ، وأحببت أن أجمل الكلام على السورتين وهما سورة ( الضحى ) وهي الحادية عشرة وسورة ( الشرح ) وهي الثانية عشرة ، أحببت أن أجمل الحديث عنهما دفعة واحدة لاتحاد الغرض فـي السورتين ، ولأن بعض قدماء العلماء وقرائهم كان يعتبرهما سورة واحدة ، فإذا قرأهما في الصلاة قرأهما في ركعة دون فصل ، وإذا قرأهما لم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم التي هي علامة الفصل بين السور ، فهم يرون أنهما سورة واحدة لتساوق الغرض فيهما جميعاً .

يقول الله تعالى ( والضحى ، والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ، فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ) وتبدأ سورة الشرح ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ، فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ، فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ) ولا يخطئ القارئ أن يلحظ هذا التشابه في الغرض في السورتين جميعاً ، وليس مما يدعو إلى التنبيه أن نقول إن الخطاب في السورتين كلتيهما موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكاد المفسرون القدامى يتفقون إلا في النادر على أن السورتين سيقتا لتعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليته عما ألحقه المشركون به من صنوف الأذى وأنواع المضرة ، مع أغراض أخرى سـنأتي عليها . لكن نحب أن نلفت النظر إلى أمر أساسي ، إن السورتين جاءتا بعد مرحلة لا بأس بها طويلة بعض الشيء ، وجاءتا ليس فقط للتعزية ، فالقرآن دون شك ليس خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خطاب للناس عامة إلى آخر الزمان ، فأغراضه وقضاياه تخاطب الناس جميعاً ولا يصح قصر شيء منها إلا ما جاء النص قاطعاً بقصره علـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا من جهة .

ومن جهة أخرى فنحن بالموازنة بين الحالة الجديدة التي يستقبلها المسلمون والمرحلة التي مرت قبل نزول السورتين نجد أننا قادرون على أن نسمح لأنفسنا بوقفة من لون خاص ، نعيد النظر في الآيات ( والضحى ، والليل إذا سجى ) هذا قسم شأنه شأن الأقسام التي مرت والكلام عليه كالكلام على الأقسام التي مرت ، وأما قوله تعالى ( ما ودعك ربك وما قلى ) فالتوديع والودع في كلام العرب هو الترك ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو لأفعلن بهم كذا وكذا . يريد لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو لأفعلن بهم كذا وكذا ، فالودع هو الترك ، والقلى هو البغض والهجر ، تقول : قليت فلاناً إذا هجرته ، فالله عز وجل يقسم ويجعل جواب القسم أنه ما ترك محمداً صلى الله عليه وسلم ولا هجره ولا أبغضه . وبالرجوع إلى الروايات الواردة في التفسير بالمأثور نجد أن الروايات تتكاثر لا ندري إلى أي حد هي صحيحة لكن تظاهرها يسمح لنا بأن نطمئن إلى ورود شيء منها ، يقال إن امرأة حين فتر الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما أرى شيطانك إلا أنه هجرك ، ويقال إن من المشركين عيّروا محمداً صلى الله عليه وسلم بأن ربه قلاه وتركه فنزلت هذه الآيات ترد على هؤلاء الناس ، والذي يلفت النظر إلى أن حديث البخاري الذي يفيد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تلقى الوحي أولاً في غار حراء بفواتح سورة العلق ثم فتر عنه الوحي بعد ذلك ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن نفسه بأنه حزن لتأخر الوحي عليه وأنه حاول مراراً أن يلقي بنفسه من على الجبل ، وأنه كلما همّ بأن يفعل ذلك تبدى له جبريل عليه السلام يقول له : يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ، فيثبت عليه الصلاة والسلام .

فمسألة انقطاع الوحي أو الفترة التي تحدث عنها حديث البخاري مسألة مبكرة أكثر من هذه الآيات ، وفي ظني أن الآيات تعالج أمراً جوهرياً تكشف عن طبيعة العلاقة بين الوحي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، بين الإنسان وبين هداية السماء ، لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء كان يعاين تجربة فريدة من نوع خاص لم يسبق أن جربها من قبل ولم يسبق أن جربها أحد من خلق الله تعالى إلا هذه الصفوة المختارة من الله التي هي الأنبياء . والعرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم لا يعرفون شيئاً عن طبيعة الوحي ، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بعيداً أن تنازعه نفسه بالشوق أن يطيل العيش مع هذا النداء السماوي الذي سمعه في غار حراء ، إلا أن الوحي دليل ومرشد وليس قائداً يأخذ بيد الإنسان في كل الأحوال . والعرب خليقة بأن تفهم من طبيعة الوحي بأنه قيادة مطلقة وأنه إلغاء لإرادة الإنسان ، والنبي صلى الله عليه وسلم لو وقع في ذهنه هذا الشيء لكان معذوراً فهو لا يعرف عن وظيفة الوحي شيئاً قبل هذا ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء ) .

فالنبي عليه الصلاة والسلام والعرب أيضاً تصوروا أن كل حركة وكل سكون يجب أن يكون فيه وحي ، وهذا هو الشيء الذي جاءت الآيات لتضعه في نصابه ، الوحي ليس علاجاً لحالة موقوتة في زمن موقوت في محل محدود ، ولكنه نداء مطلق وهداية مطلقة إلى الناس في كل زمان وفي كل مكان ، والوحي ليس من طبيعته أن يلغي إرادة الإنسان ولا أن يشطب على شخصية الإنسان وإلا لسقطت المحنة وذهب معنى الابتلاء ، وإنما معنى الوحي جملة من القواعد والإرشادات التي يتخذها الإنسان أساساً له في حياته وفي تصرفاته ينطلق منها معملاً إرادته محيياً شخصيته . فالعرب إذاً معذورون حين تصوروا أن الوحي لكي يكون وحياً يجب أن يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه تصوروا قياساً على الكهانة أن الكاهن لا يستطيع أن يتكهن إلا جاءه شيطانه فأدلى إليه بالمراد ، ولكن الرسـالة غير الكهانة ، والنبي صلى الله عليه وسلم مكانه في قومه ، مكانه من الأمة ، ليس مكانه مكان الآلة التي يوعز إليها لكي تنفذ ولكنه مكان الإنسان الذي شحن بالوحي وأدرك مرادات الله جلا وعلا فقاد الناس بمبادرات خاصة من قبله وبإشارات من الله جلا وعلا دون أن يؤثر ذلك بتاتاً على قيمة الشخصية الإنسانية ولا على إرادتها ، فهذا الكلام لا شك أنه جاء في غالب الظن رداً على كلام قاله هؤلاء الناس عن فترة الوحي .

لكني أسأل : هل من شرط هذا الكلام أن يكون بعد انقطاع الوحي من الفترة الأولى ، أتصور أن هذا غير ميسور ، فالوحي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى ثم انقطع ، بعضهم يقول إنها نصف شهر وبعضهم يرقى بها إلى عدة أشهر ، ثم حمي الوحي وتتابع كما جاء في الحديث الشريف ، ولكنه مع أنه تتابع كان ينقطع بين الحين والحين ، وحينما انقطع في المرة الأولى لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر أمره للناس ، آمنت به زوجه خديجة وصديقه أبو بكر وابن عمه علي رضي الله عنهم جميعاً مع نفر قلائل دون أن يلفت نظر أحد . لكنه بعد ذلك جرت فترات من انقطاع الوحي قيل ما قيل فقال الله هذا الكلام ليضع الوحي في إطاره الصحيح وليضع النبوة في مكانها الحق في حياة الناس .

( ما ودعك ربك وما قلى ، وللآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فيما قرأت كل المفسرين القدماء قلما يشذ أحد عنه ، حينما يواجهون قول الله تعالى خطاباً لحمد عليه الصلاة والسلام ( وللآخرة خير لك من الأولى ) يشيرون بهذا إلى ما أعد الله لك يا محمد من النعمة والكرامة في الدار الآخرة خير لك من الأولى التي هي هذه الدنيا ، ولكن نفراً من كرام المفسرين وهم قليل يشيرون إلى معنى متساوق مع خطوات الدعوة ، يقولون بأن المراد ـ والله أعلم ـ أن مستقبل أمرك خيرٌ مما مضى من أمرك ، لا على معنى أن ما جاءك من الوحي فاستقبلت به أيامك الجديدة خير لك من أيامك التي قضيتها في الجاهلية ، لا ، فهذا شيء لا يحتاج إلى نص ولا يحتاج إلى كلام ، ولكن على معنى أن أمرك ما يزال ينمو ويتقدم نحو الأحسن حتى تكون مقبلات أيامك خيراً مما مضى مع ملاحظة استحالة الفصل بين شخص النبي صلى الله عليه وسلم وحاله وبين حال الأمة برمتها ، وفي تقديري أن هذا معنى حسن وهو يتساوق مع خطوات الدعوة ، ولو أننا ألقينا البصر إلى آخر السورة فسمعنا الله يقول ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ) لرأينا هذا الكلام يشد المعنى الذي ذهب إليه المفسرون المحدثون . قلنا قبل اليوم إن للقرآن وللإسلام طريقة يتميزان بها عن أية دعوة أرضية ظهرت على وجه الأرض ، في الحالة العادية قد تتوفر فرص ومناسبات يتوهم الإنسان أنه يستطيع أن يحقق بها مكسباً ما للقضية التي يحملها ، وقلما يتمالك الإنسان نفسه تجاه إغراء من هذا النوع ، لعل الانتهازية والوصولية فـي الأحزاب الدنيوية مبنية على هذا إلا الإسلام ، فالإسلام لا يرضى أن ينتهز الفرص وإنما يأخذ بالبناء لبنة بعد لبنة ، قد تكون هناك فرص تعرض ولكن الإسلام يضرب عنها صفحة ولا يلتفت إليها ولا يكترث بها ، لو فعل ذلك لسقط في سياسة حرق المراحل التي يكون فيها الكسب الخارجي على حساب التنمية الداخلية وعلى حساب البناء الداخلي ، من أجل هذا رأينا الإسلام منذ البداية لم يعرف التقهقر ولم يعرف التراجع ، رأيناه في تقدم مستمر ونمو متصل ورأينا المسلمين يزدادون باستمرار ، وحينما نعود إلى نصوص الحديث نستمع إلى نص معين من الحوار الذي قام بين أبي سفيان وبين هرقل ملك الروم على أثر صلح الحديبية ، فإن هرقل في جملة الأسئلة عن الرسول وعن الرسالة وعن الأتباع سأله : أيزيدون أم ينقصون ؟ قال : بل يزيدون .

فالإسلام ما عرف التراجع ولا عرف التقهقر إلى الوراء ولم يعرف إلا التقدم وإلا اتساع الرقعة ، لماذا ؟ الأمر كله يعود إلى هذه القضية أي أن البناء يجب أن يبدأ من الأساس وإنه لا يجوز أن توضع اللبنة الثالثة قبل أن توضع اللبنة الثانية ، وإن الذي يتورط في عمل هذا الخرق وقلة العقل يغامر بالبناء كله ، فطريقة الإسلام بهذا الشكل مهما يَلُحْ في الأفق من المغريات ومن الفرص قد يعض عليها البعض بنان الندم لأنها فاتت ، فالإسلام لا يكترث بهذا ولا يلقي إليه بالاً ، قد خاض معركته الأساسية في داخل الذات ، ومنذ أوائل الدعوة ربط الإسلام ربطاً وثيقاً محكماً بين الإنسان وبين السماء حتى تتحرر حركته بوحي السماء ، وحتى يكون المسلم مرتبطاً دائماً بالله تبارك وتعالى ، ففي سورة المزمل يطلب الله جلا وعلا من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه تدريباً له على تحمل الصعوبات والمشاق في ذات الله جلا وعلا وصرفاً له عن المغريات التي يصادفها المرء في الحياة ، منذ ذلك التاريخ والإسلام يقود الأمة خطوة وراء خطوة .

فحين نأتي إلى هؤلاء الآيات في هذه المرحلة المتأخرة نوعاً ما فنراها تخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الشكل تكشف أن الله لم يودعه ولم يهجره ولم يبغضه ، وتكشف له عن حقيقة أساسية قريبة منه إنه حين اختار لكي يحمل الأمانة إلى الناس إنما اختاره بعلمه ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وإذ اختاره جلا وعلا فالله ليس شخصاً من الأشخاص يقدم على العمل ثم يرى فيه رأياً آخر فيلغي رأيه السابق فيأخذ برأي جديد ، علم الله جلا وعلا لا يطرأ عيه شيء من شوائب الجهل ، فحين اختار محمداً صلوات الله عليه واختار له هذه الرسالة اختاره على علم وأنزلها عليه على علم وبعلمه جلّ وعلا ، فهو لم يتركه بحال من الأحوال ، ولم يتوهم مسلم أن الله جلا وعلا سيترك دينه الذي ارتضاه لخلقه ألعوبة في يد العابثين والمضللين ، ما الدليل على ذلك ؟ ماذا ساق الله جلا وعلا ؟ الإسلام لا يتورط معك في مقايسات وفي أمور فلسفية غامضة ، يأخذ بك من قريب ويلفت نظرك إلى قريب ، أنت تتصور الأمور صعبة ، انظر يا محمد : لو كان ما يقول أعداؤك حقاً ؟ انظر إلى النشأة التي نشأتها وأنت في مجتمعك العربي البدوي ، ماذا كنت ؟ تزوج أبوك من أمك وكأنما لم يكن لهم من الوجود إلا أن يلقي هذه النطفة من جسده في رحم أمك ومضى من هذه الدنيا وأنت جنين في بطن أمك ، ورضعتك أمك يتيماً بلا أب ، ما الذي تركه لك أبوك ؟ جارية فقط ، ويقال ترك له شويهات ، من الذي كفله ؟ جدك الذي يدلف إلى القبر ، وحين كان سادات قريش لا يستطيعون أن يقتربوا من فراش عبد المطلب كان الله قد قذف في قلب جدك محبة لك ، فكنت تحبو على فراشه فإذا انتهرك منتهر قال : خلوا ابني فإنه يشيب ملكاً أي أنه يحس منه السيادة والعظمة والملك . ثم مضت أمك ومضى جدك . في ذلك المجتمع القاسي الذي يظلم اليتيم ، أنت يا محمد ما جعلك تحس من مرارة اليتم شيئاً ، كفلك أبو طالب ثم بقي أبو طالب حياً حتى نبّأك الله بالرسالة . اليتم الذي يشكو منه أقرانك من أطفال قريش كنت أنت محفوظاً من أن تحس مرارة اليتم . ثم أغناك ، بما أغناك ؟ هيأ لك الزواج المريح ، وجعلك تتردد في التجارة قبل أن تتزوج ، ثم تزوجت البرة التقية النقية خديجة بنت خويلد فكانت لك أنساً وكانت لعينك قرة وطمأنينة ، صدقتك إذ كذبك الناس ، وسخرت مالها من أجل هذه الدعوة فلم تحس مرارة الفقر . الله فعل بك هذا ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ) فهل من المعقول أن يتركك ؟ أتستكثر عليه أن يقود خطاك ؟ فما يزال أمرك ينمو يوماً بعد يوم حتى يستوي على أصوله وقواعده ؟ أتتصور أن الله يتركك ؟ لا ، لا حاجة إلى كثير من الفلسفة ولا إلى كثير من العقليات . في حياتك الخاصة تجد أن عناية الله قد حفت بك منذ أن كنت نطفة استقرت في الرحم وإلى أن خرجت إلى الدنيا ، وتنتقل من حال إلى حال لا تفتقد رعاية الله لك لحظة واحدة . فإذا كان الأمر كذلك فما الأمر عليك يا محمد ؟

( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ) وحذار من أن يفهم معنى الضلال بمعناها العام كضلال الوثنيين الذين كانوا يسجدون للأصنام ، فحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقترب من صنم . في سفرته إلى الشام وحين قصد بصرى قال له الراهب بحيرا : أنشدك باللات والعزى على أمر حلفه عليه ، قال له : لا تذكر لي اللات والعزى والله ما أبغضت شيئاً كما أبغضت اللات والعزى . ضلالة النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في السورة كضلالة أولئك المتحمسين الذين كانوا يطلبون في الجاهلية دين إبراهيم عليه السلام فلا يهتدون إليه ، وكانوا ينقطعون كل عام في الجبال في رمضان يعبدون الله جلا وعلا على الطريقة التي يرونها أدعى إلى الطمأنينة ويتركون ما عليه قومهم من عبادة الأصنام وضلالة الوثنية . لكنها على كل حال ضلالة يعني حالة ضياع أو عدم اهتداء للطريق ، فهذا الطريق الذي هو الإسلام ليس شيئاً يمكن اكتشافه بالتفكير ، فالبشرية عرفت عقولاً كبيرة وعرفت طاقات مفكرة عظيمة ولكن المفكرين جميعاً وقفوا متحيرين أمام مسألة الألوهية وقضية الديانة ، لأن الطريق إلى الألوهية وإلى الديانة مرتبطة بالوحي الذي لا يمكن أن تحوم حوله العقول ، فالله جلا وعلا يذكر في مقام المنة على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، لقد كنت تفتش عن مرضاة الله يا محمد قبل أن يأتيك الوحي ، لأنك تسير في طريق لا يؤدي إلى الرسالة ، لأن الرسالة ليست ثمرة البحث والاجتهاد وإنما الرسالة اختصاص من الله جلا وعلا ، فهداك الله جلا وعلا . هل كان ذلك بالخاطر أو الهاجس ؟ لا ، وإنما بالوحي الذي جاءك به جبريل عليه السلام من الله تبارك وتعالى ، هذا المن الذي منّ الله به على محمد صلى الله عليه وسلم.

من أغناك بعد الفقر ومن الهداية بعد الضلال ؟ ماذا يتطلب من الإنسان ؟ يتطلب منه واجبات وأخلاق ( فأما اليتيم فلا تقهر ) لقد كنت من قبل يتيماً فلا تظلم اليتيم ، ولقد عشت مجتمعك ورأيت كيف يعامل الأيتام فلتكن أنت نصير اليتامى والضعفاء في هذا المجتمع .

( وأما السائل فلا تنهر ) لقد كانت عطايا الناس من قبل يبتغى بها الفخر ، وكان السائل المحتاج إذا مرّ ينهر ويقهر فلا تنهر السائل . ( وأما بنعمة ربك فحدث ) من تمام عرفانك بتمام النعمة أن تتحدث بالنعمة ، إن الله جلا وعلا يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه ، ويحب من الإنسان إذا أُنعم عليه أن يتحدث بنعمة الله عليه وأن لا يجحد هذه النعمة .

( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ،  ورفعنا لك ذكرك ) من المؤسـف أن بعض المفسـرين يحمل قول الله جلا وعلا ( ألم نشرح لك صدرك ) على حادثة مشهورة في السيرة وهي الحادثة المعروفة بشق الصدر ويقولون إن المراد أن يذكر الله بنعمته عليه حين أرسل الملكين حين شقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه ثم أعاداه إلى مكانه . وأقول هذا مؤسف لأن تأويل كلام الله جلا وعلا لا يجوز أن يحمل إلا على المأنوس من استعمالات القرآن وأما غير المأنوس فلا يجوز ، إن مادة ( شرح ) والشرح وردت في القرآن في عدد من المواضع ، وما جاءت في موضع من هذه المواضع بمعنى الشق الذي يذهب إليه بعض المفسرين . موسى عليه السلام يقول ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) والله جلا وعلا يقول ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام  ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعد في السماء ) ويقول الله ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على بينة من ربه ) وهذه الآية ( ألم نشرح لك صدرك ) ففي جميع استعمالات القرآن لمادة ( شرح ) لم تأتِ بمعنى الشق وإنما للدلالة على هذه الطمأنينة التي تكشف عن سعة الصدر واطمئنان الإنسان للطريق الذي هو فيه . فكلمة ( ألم نشرح لك صدرك ) منة من الله جلا وعلا على محمد صلى الله عليه وسلم لا بحادثة شق الصدر ولكن بهذا الاحساس العظيم والضروري الذي يجب أن يتحلى به الدعاة إلى الله تعالى . إن طريق الدعوة مشقات كلها ، تكليف ، صد ، إعراض ، عداوة ومطاردة وما أشبه ذلك . والإنسان إنسان يتحمل إلى حد محدود ثم يفقد أعصابه بعد فترة ، وقد تسود الدنيا في عينيه يضيق لذلك صدره ، وحين يبلغ الداعي إلى الله جلا وعلا هـذه المرحلة يكون قد صفى حسابه نهائياً مع الدعوة ، لا يعود يصلح لشيء أبداً ، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة وقائد الدعوة كان لا يحس بشيء من هذا أبداً ، كذبه قومه وطاردوه وحاولوا قتله وأخرجوه من بلده وأخرجوا أصحابه وما تركوا أذية يمكن للإنسان أن يلحقها بأخيه الإنسان إلا ألحقوها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أضاق صدره بذلك ؟ لا ، ربما في بعض الأحيان يضيق صدره ولكنه ما يلبث أن يفيء إلى هذه الطمأنينة الغامرة التي منّ الله جلا وعلا بها عليه .

تذكرون موقفه في غزوة أحد حين رأى أصحابه مجندلين على الأرض كيف غضب وكيف تألم وكيف تأذى في الوقت نفسه وكيف أقسم على الانتقام ، ولكن الدعوة لا تساير خلجات النفوس ولا هذه الاندفاعات التي لا تعي ، الدعوة مستقبل دنيا من أولها إلى آخرها ، ولهذا حين أحس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الهاجس الخطر تداركه الوحي فوراً وأمره بالعفو أو إذا قاصص أو عاقب أن يعاقب بمثل ما عوقب به ونهاه عن المِثْلَة ، وأفاء عليه الصلاة والسلام إلى هذه الحالة من الطمأنينة الغامرة والثقة بلا حدود بالمستقبل . إن هذا الشرح هو الذي عنته الآيات وهو الذي تصدقه مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله حين كان في مكة مطارداً وبعد أن صار سيد الجزيرة العربية بلا منازع ، كان عليه الصلاة والسلام يتحلى بهذا الخلق الحسن . من الذي لا يضيق صدره عند الملمات ؟ من الذي لا يفقد أعصابه حين تشـتد الخطوب ؟ إن محمداً عليه الصلاة والسلام طُورد في مكة وأُذن الله له بالهجرة ، حينما خرج مستخفياً مع صاحبه الصديق رضي الله عنه ، تصوروا الحالتين : كان عليه الصلاة والسلام يمشي في الطريق ويعلم أنه مطلوب وكان أبو بكر لا يقر له قرار ، تارة يمشي أمام رسول الله ، وتارة يمشي خلف رسول الله ، وتارة يمشي على يمينه وتارة على يساره ، يقول له رسول الله : ما بالك يا أبا بكر ؟ يقول : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون عن خلفك وعن يمينك وعن يسارك . ويأتي سراقة يطلبه ، وأبو بكر يرتعد من الخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول سراقة : قربت منهما وسمعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . أين أبو بكر وأين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أبو بكر يرى الطلب وراءه ويعرف أن قريشاً جنّدت كل ما لديها من قوة لتقبض على الفارين الهاربين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، موصولاً بالله جلا وعلا لا يكترث بهذه الدنيا .

وتمضي الأيام وينزل المسلمون المدينة وحينما تكون غزوة الخندق يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالاً شديداً ويحس المسلمون بهذا الضيق وما من مسلم إلا وهو يعاني من ألمه ، والمسلمون يحفرون الخندق فتعترضهم صخرة ، فيشكون أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأخذ المعول ويقول بسم الله ويضرب ، في ذلك الوقت يقول : الله أكبر فتحت الشام ويضرب الثانية فيقول الله أكبر فتحت فارس ويضرب الثالثة فتتفتت الصخرة فيقول الله أكبر فتحت اليمن كأني أنظر إلـى قصورها ، ويتهامس المنافقون يقولون : ماذا يعدكم محمد ؟ إن أحدنا لا يقدر على قضاء حاجته إذا أراد أن يقضي الحاجة وهذا يعدكم بقصور الشام وقصور فارس وقصور اليمن . ما هذا ؟ ولكن نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم تتحقق .

في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجال يشكونه قطع السبيل ويشكون الفقر . فقال لي : يا عدي أرأيت الحيرة ؟ قلت يا رسول الله سمعت بها وما رأيتها . قال : يوشك يا عدي بن حاتم أن تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بهذا البيت لا تخشى إلا الله ، ولتفتحن كنوز كسرى وقيصر ولتنفقنهما في سبيل الله ، وليفيضن المال حتى إن أحدكم ليخرج الكف ذهباً وفضة يريد من يقبله منه فلا يجد من يقبله منه . قال عدي : ولقد عشت حتى رأيت الظعينة تطوف بالبيت لا تخاف إلا أحداً الله ، وكنت أنا فيمن فتح كنوز كسرى وقيصر ، والله ليتحققن قول أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . هذه الثقة ربما يتصور بعض الناس أنها لون من ألوان الغرور أو لون من ألوان التعالي على الواقع أو لون من رفض الخضوع لضغوط الواقع ، لكن هذا خطأ . فقضية الإسلام حين تمسك بها أخي المسلم وترى أنك تخرج من نصر إلى نصر وتقطع الطريق أشواطاً شوطاً من بعد شوط ، تحس مع كل مرحلة جديدة أحسست بتغيير في نفسك ، يصاحب هذا التغيير زيادة بثقة الله جلا وعلا أن ينصر الله وليه وأن يعلي دينه وهـذا هو المقصود بقول الله ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ) والوزر ليس الذنب وإنما هو الثقل والهم الذي يحمله الإنسان وهو يتحمل قضية أمة من أولها إلى آخرها .

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمضي إلى أمر الله دون أن يشعر بأثقال الهموم على كتفيه ( الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ) إن الله جلا وعلا أعلى قدر نبيه بلا إشكال ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أيها الأحباب أن معنى رفع الله لذكر نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يذكر الله إلا يذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وهذه رفعة ما بعدها رفعة لم يبلغها أحد ، لكني أحب أن أضع أمام أنظاركم ، هل رفع الذكر يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ أم هو قدر مشاع بينه عليه الصلاة والسلام وبين كل الآخذين بطريقه من هذه الأمة الكريمة ؟ إننا بعد الزمن المتطاول ما زلنا نذكر أبا بكر الصديق الأكبر ورفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، ونذكر الفاروق وعلي وعثمان وطلحة والزبير وسائر الصحابة رضوان الله عليهم ، ونذكر أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وابن حنبل وهكذا نذكر رجالاً عظاماً كصلاح الدين وقطز والملك العادل عبر التاريخ الطويل للمسلمين . من أين جاءهم الذكر ؟ إن الدنيا طوت الملايين من الناس ولم يعرفهم الناس . لكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يذكرون فيقال رضي الله عنهم .

ونقول عن علماء المسلمين : رحمهم الله تعالى . ونذكر قادة المسلمين فنقول عنهم : جزاهم الله عنا خيراً . مما جاءهم هذا الذكر ؟ لماذا أخذ هؤلاء هذا الذكر الحميد ؟ بأخذهم لهذا الدين . إن هذا الدين في الواقع ذكر للناس وتشريف ، ولا بد للأمة إذا أرادت الشرف والكرامة بين الناس أن تأخذ بأهداب هذا الدين فكما أعلى الله جلا وعلا ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين كذلك هذه الدين كفيل بأن يعلي ذكر جميع الناس الذين يأخذون بأسبابه . أعرف أن زماننا هذا العجيب فيه أناس كثيرون يكيدون للإسلام منهم من يكيد للإسلام عن سابق تصور وتصميم ، ومنهم من يكيد عن هوى ومصلحة ، ومنهم من يكيد له عن بلاهة وقلة عقل وإعفاءً لنفسه من التفكير ، فأريد أن أقول لهؤلاء : إن هذا الإسلام كلمة الله التي رضيها لعباده وطريقه التي جعلها الخط الموصلة إليه جلا وعلا وسبيل الذكر والشرف ، ولا يوهمن أحد نفسه أنه يستطيع أحد بمعزل عن الإسلام أن يحقق لنفسه شيئاً أو أن يحقق لأمته أي شيء ، إن كل إنسان ناصب الإسلام العداء سواء بشخصه أم بحزبه أم بفصيله أم بجماعته آب والتراب ملء كفيه وفمه .

إن الإسلام وسيلة الذكر والشرف والتنويه للإنسان ، وحين كانت أمة الإسلام قائمة على أمر الله جلا وعلا في الماضي البعيد كانت تقود البشرية كلها ، ولعل أي أحد يقلب صحف التاريخ يرى ويعلم أن أمة الإسلام حملت الجنس البشري بكامله حتى أسلمتها إليها الآن في الوقت الذي نناصب الإسلام العداء مع الأسف الشديد ، إن اسمنا ورفعتنا وشرفنا كله منوط بالإسلام كما أعلى الله ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فلا يذكر معه إلا ويذكر معه ، كذلك أنت أيها الإنسان إذا كنت مع الإسلام فإن الله سيعلي شأنك ، أنت ترى الإنسان التقي فإذا رأيته ورأيت من سمته وسمعت إلى كلامه ذكرت الله جلا وعلا ، إن الآخذين بالإسلام معيتهم مع الله تبارك وتعالى ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ، فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ، فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ) .

أما قول الله ( فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ) فقد جاءت الرواية أنه حينما نزلت هذه الآيات خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ضاحكاً وقال : أبشروا فلن يغلب عسـر يسـرين إن الله جلا وعلا يقول ( فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ) فحف العسر بيسرين ، وإذا وجد يسران فلن يغلبهما العسر . وهناك نكتة بلاغية وهـي أن النكرة إذا عرّفت لا تتميز ولا تتعدد ، حينما نقول : العسر فنحن عرّفنا النكرة التي هي عسر ، فحينما نقول العسر فكأنما نقول هذا العسر ، شيء مشخص أمامنا معروف ، ولكنها إذا لم تعرّف لا تتميز ، بمعنى : حينما نقول إن مع العسر يسراً ، أي يسر ؟ إن الباب مفتوح ، اليسر يكون أصنافاً وأشكالاً وألواناً ، فالله جلا وعلا عرّف العسر لكي يكون عسراً واحداً ، ونكّر اليسر وجعله يسرين لكي يكون اليسر أشكالاً وصنوفاً وألواناً تعقب العسر ، ورأى الإسلام هذا أيام الشدة ، رأى الجوع والحرمان والمطاردة ثم كان فتح الله جلا وعلا . والإسلام اليوم يعيش كتلك الأيام الماضية ، يعيش الناس بضائقة ، يحسون بقلة الأرزاق والخوف وعدم الاطمئنان في أوطانهم فلا تيأسوا ما دمتم مع الله جلا وعلا فأنتم على موعد ثابت من الله لأن يفتح لكم الأبواب لا تدرون من أي مكان تفتح ، وأن ييسر لكم تيسيراً لا تعرفون لون هذا اليسر ، لأن الله جلا وعلا أبهم اليسر ونكّره كي يتسع للجميع أسباب اليسر .

( فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ) خطاب جازم للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الأمر ( فإذا فرغت فانصب ) يعني كلما فرغت من شغل من أشغال الدين فلا تركن إلى الراحة ، انصب يعني اتعب ، اجعل نفسك في غمرة الكفاح والجهاد فإن الإنسان المسلم يستمد قيمته الإسلامية من عيشه وسط هذا الجهاد والكفاح . ( وإلى ربك فارغب ) إذا فرغت من شغل من الأشغال أو الجهاد قضيت شؤون الناس فلا تهدأ ولا تسترح انصب وأتعب نفسك في سبيل الله ولكن ما كل من يتعب نفسه في سبيل الله يقطف الثمرة المرجوة ، الذي يقطف الثمرة هو الذي يعمل لله ، هو الذي يرغب فيما عند الله جلا وعلا ، إن الرغبة فيما عند المخلوقين ممحقة للبركة ومبطلة لسعي الإنسان . فالله جلا وعلا يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يهدأ ولا يستريح وإنما يبقى في غمرة الكفاح ضد أعداء الله ومن أجل تدعيم قواعد هذا لدين وشد عرى الإسلام وأن يكون في عمله قاصداً وجه الله تعالى آيساً مما في أيدي المخلوقين .

كل ما عرضناه في السورتين وأعترف أن أموراً كثيرة كان يجب أن تعرض ويجب أن تشرح ولكن أضيف وهو أن كل حرف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فأنتم مخاطبون به وكل قضية تحققت للنبي صلى الله عليه وسلم فمن الممكن أن تتحقق لكم ، كيف أزال الله عن صدر نبيه هذا الضيق الذي يشعر به كل من يواجه الناس من بلاء وغيره يمكن أن يحدث لكم إذا تمسكتم بعرى الإيمان أن تحسوا بنفس احساس محمد صلى الله عليه وسلم ؟ كيف يشعر الإنسان أنه متخفف من كل حمل أنتم تستطيعون أن تشعروا بذلك ؟ كيف مرت الشدائد على الأمة ولم تترك إلا هذه الذكرى التي تصور معها ذكرى الانتصار عليها أنتم أيضاً يمكن أن لا يعلق في أذهانكم من سيئات الحاضر إلا ذكرى كذكرى النائم يرى حلماً مزعجاً ؟ كل شيء جاء الخطاب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم جاء الخطاب إليكم أيضاً .

أسأل الله الكريم أن ينفعنا وينفع المسلمين بهذا الخطاب الرائع وهذه البشارات المتلاحقة التي جاءت إلى رسول الله . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .