نهاية وهم تطور الحضارة الغربية وانكشاف زيف قيمها

الحضارة الغربية  الحالية الناشئة في القارة العجوز، والمنتقلة  منها إلى شمال القارة الأمريكية ،تفخر وتباهي بأنها أعرق الحضارات البشرية في المعمور، لأنها  خليط من حضارتي اليونان والرومان الوثنيتين عقيدة ، والمميزتين  طبقيا بين مكوناتهما البشرية ، ومن الديانة المسيحية المنحرفة عن عقيدة التوحيد إلى عقيدة التثليث ، والمنبهرة بمرحلة التطورالمادي والتكنولوجي .

ومعلوم أن كل  الحضارات المتعاقبة على كوكب الأرض عبر تاريخ البشرية الطويل لها قيمها المنبثقة عن عقائدها .  والحضارة الغربية الحالية راكمت معتقدات وقيم تعاقبت على حيزها الجغرافي في أوروبا، وفي أمريكا الشمالية ، ثم إلى أبعد الأصقاع فيما بعد  بسبب انتقال عنصرها البشري إما مرتحلا أو غازيا.

والمعتقدات  والقيم التي راكمتها عقائد وثنية  قوامها تعدد الآلهة كما  كان الحال في حضارة اليونان ، وفي حضارة الرومان التي أعقبتها ، وطبيعة الآلهة اليونانية والرومانية المتعددة عبارة عن خليط من كائنات بشرية ،وأخرى  وهمية  أسطورية ، ومن ظواهر طبيعية . ولقد أفرز هذا المعتقد الديني لدى أمتي اليونان والرومان قيما معينة نتجت عنها طبقية اجتماعية حيث صنف البشر فيهما إلى طبقة  الأسياد  الذين تخدمهم طبقة الجند ،وطبقة العبيد .

ومع ظهور الديانة المسيحية التي انتقلت من عقيدة التوحيد إلى عقيدة التثليث  أفرزت هي الأخرى  قيما  نتجت عنها طبقية اجتماعية حيث علت طبقة الإكليروس الكهنونية ، وهم  رجال الدين الوسطاء بين  العباد ورب العباد الذين ينقلون إليهم كلمته ، وينقلون إليه صوتهم ، وهؤلاء العباد فيهم  أيضا أسياد ،وجند، وعبيد يخدمونهم ، كما كان الحال في الوثنيتين اليونانية والرومانية . ولقد انصهرت  الحضارتان اليونانية والرومانية في الحضارة المسيحية الثالوثية ، ولا شك أن  عقيدة التثليث هي وليدة الوثنية اليوناتية الرومانية .

ومع حلول عصر النهضة الأوروبية، انضاف إلى الموروث العقدي الوثتي اليوناني والروماني ، وإلى المعتقد المسيحي الثالوثي  معتقد الإلحاد الذي نتج عن انبهار وافتتان الإنسان الأوروبي بذاته المبدعة للثورة الصناعية  والتطور التكنولوجي ، وصار يرى نفسه إلها بديلا عن الألهة الوثنية ، وعن الإله الثالوث ، وانبثقت عن هذا المعتقد قيما رفعت شعار تحطيم الفوارق  الاجتماعية بين البشر، وتحرير الإنسان من الطبقية التي كانت تفرضها أوهام وأساطير الماضي البعيد وثنية ومسيحية ، إلا أن الواقع كذب كل تلك الشعارات حيث ظلت الفوارق الاجتماعية موجودة ، والطبقية مهيمنة فعلت  وسيطرت على زمام السياسة والاقتصاد طبقة أصحاب رؤوس الأموال مسخرة  باقي الطبقات  التي حلت محل الطبقات التي كانت تسود سواء في المرحلة الوثنية أو في المرحلة الإكليروسية .

و ابتدعت عقيدة الإلحاد السائدة في أوروبا ، والتي تعايشت معها عقيدة التثليث قيما منها الديمقراطية  المقتبسة أو المنقولة عن الحضارة اليونانية وكانت خاصة بالطبقة الحاكمة المسيطرة  ، والتي شعارها حكم الشعب لنفسه بنفسه ، وهو شعار زائف أو خدعة تموه على حقيقة استمرار الطبقية على غرار الطبقية الموروثة في الفترات التاريخية  السابقة  في القارة العجوز.

ومعلوم أن  الديمقراطية عند التأمل  هي التي يكون فيها رقم  1  مرجِحا لكفة أحد نصفي رقم 100 ، بحيث يصير رقم 51  غالبا ومنتصرا  ديمقراطيا على رقم 49 ، ويسمى المجتمع الذي هكذا وضعه الاجتماعي مجتمعا ديمقراطيا ، وعلى نصفه الذي لم ترجح كفته أن يسلس قياده للنصف الآخر راضيا بقواعد هذه اللعبة " الخدعة " التي بسببها تصير الأمور غالبا إلى من يعبثون بمصير البشرية ، ويعيثون في الأرض فسادا .

ومع شعار الديمقراطية، ترفع شعارات أخرى منها المساواة ، والحريات على اختلافها، حرية  اعتقاد ، وحرية  رأي ، وحرية تعبير ، وحرية تصويت ، وحرية تظاهر ، وحرية  تنقل ، وحرية جسد ، وحرية جنس، وحرية تغيير الجنس ، وحرية الإجهاض .... وهلم جرا ، وهي كلها قيم يفاخر بها الغرب  بشطريه الأوروبي والأمريكي ، ويزهو بها على  باقي شعوب العالم، بل  يفرضها ويشترطها عليهم أو يلزمهم بها مقابل إغراءات أو تهديدات بما فيها استعمال القوة العسكرية .

وعند التأمل ، وانطلاقا من واقع الحال في المجتمعات الغربية ، نجد أن هذه القيم التي تعد معيار التحضر، لا تعدو مجرد شعارات  وأوهام على ما في بعضها من تهتك وإسفاف  يستهدف النيل بشكل فظيع من  الكرامة البشرية  كما هو الشأن بالنسبة لما يسمى  تحولا جنسيا .

ولقد كشفت أحداث ما بعد حدث طوفان الأقصى انهيار منظومة قيم الغرب الذي انجاز قادته انحيازا كليا  إلى الكيان الصهيوني المختلق في قلب الوطن العربي من طرف هذا الغرب اعتمادا على أساطير تلمودية  لا تختلف في شيء عن أساطير اليونان والرومان الراسخة في الحضارة الغربية . وها هي شعوب المجتمعات الغربية تخرج في مسيرات مليونية منددة بجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة في أرض فلسطين ، وتواجه بالمنع وبقوات مكافحة الشعب ، وبالهراوات ، وبخراطيم المياه ، وبالغازات المسيلة للدموع ، وبالدوس بحوافر الخيل ... ، وكل هذا يحدث وشعارات حرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية التظاهر مرفوعة  والغرب يباهي بها، و بشعار سيادة القانون ، وشعار الديمقراطية التي يحكم بموجبها الشعب نفسه بنفسه  نظريا فقط . ويا ليت شعري كيف ستحكم شعوب الغرب نفسها بنفسها وهي تضايق ، وتمنع من مجرد التعبير عن إدانتها لجرائم إبادة جماعية  بالقتل، والتجويع، والحصار ، والتهجير القسري ، وكلها خروق صارخة   تنسف القيم التي يبجح بها الغرب  وهو يدعي صيانة حقوق الإنسان بما فيها الحق في الحياة ، والحق في الحرية ، والحق في الاستقلال.

والمؤسف والمحزن أن تحذو مجتمعاتنا العربية والإسلامية حذو المجتمعات الغربية مستهلكة قيمها بنهم وشره مع ما يوجد من اختلاف بين مرجعيتها العقدية التوحيدية ومرجعية الغرب التي انصهرت فيها الوثنية ،والإكليروسية، والإلحاد  وتأله البشر ، وطغيان المادة. وتستورد مجتمعاتنا الديمقراطية الغربية وبأشكال مثيرة للسخرية ، وترفع هي الأخرى شعارات الحرية على اختلاف أنواعها تحت ضغط العالم الغربي إما إغراء أو تهديدا  لها ، وتمنع هي الأخرى تداعي  شعوبها بالسهر والحمى لشكاة الشعب الفلسطيني من جحيم الإبادة الجماعية تقتيلا، وتدميرا ،وتجويعا ، وتهجيرا قسريا .

وأخيرا نقول إن  وهم تطور الحضارة الغربية وسيادتها في العالم  إلى زوال  لا محالة ، وقد انكشف زيف قيمها ، وصار القانون فيها معطلا لا يطبق على  إجرام معتنقي أوهام الأساطير التلمودية ، وعلى المتورطين الغربيين معهم في جرائمهم التي هي وصمة عار على جبين العالم بأسره .والسؤال المطروح هو هل من عودة لحضارة إنسانية بديلة عن الحضارة الغربية  كتلك التي جاءت بها عقيدة التوحيد في فترة تاريخية تحرر فيها الإنسان من كل أشكال العبودية وثنية كانت أم كنسية ؟

وسوم: العدد 1124