الجلطة الأسدية

الجلطة الأسدية

احمد الشامي

حين خرج الشاب الدمشقي زكريا من منزله في صباح يوم ربيعي مشمس متجهاً إلى عمله في الورشة، لم يكن ينوي المشاركة في مظاهرة ولا في اعتصام، فهو شاب "يمشي الحيط الحيط" وليس له في الثورة ولا في "الفيسبوك" شروى نقير.. هو ابن عائلة دمشقية عريقة، والده تاجر معروف بالتقوى والاستقامة وحسن المعاملة، طول عمره لم يؤذِ أحداً، والدته أيضاً ابنة عائلة محافظة ومحتشمة.. هو الصبي الوحيد لوالديه الذين زوجاه قبل سنة ونصف بشابة مثلهم مستورة ومهذبة..  في الطريق ٳلى عمله كان زكريا يفكر في مستقبل طفله الذي ولد حديثاً وفيما تخبئه اﻷيام المقبلة للبلد وله ولعائلته الصغيرة. هو لا يشاهد سوى اﻷقنية التلفزيونية السورية ويبتعد عن تلك "المغرضة" خاصة اﻷقنية التي تريد "أن تنال من وحدة سوريا ومن قيادة رئيسها المفدى".. هو لا يهتم بالسياسة ولكنه يثق بحكمة رئيسه الشاب "الدكتور" الذي درس في الغرب وعاد ليتسلم اﻷمانة من أبيه الرئيس الخالد والحكيم حافظ اﻷسد.. والده قال له عدة مرات: (ليس لنا في السياسة، ولا في المشاكل، من طول عمرها عائلة اﻷسد تحكم هذا البلد بدراية و اقتدار وهذا اﻷمر لن يغيره بضعة شبان لا يفقهون من أمرهم شيئاً)، زكريا ابن الستة وعشرين ربيعاً و"المطيع لوالديه" نفذ حرفياً ما طلبه منه أبوه "العارف بخفايا اﻷمور"، فصار يتجنب المساجد التي "تخرج منها المشاكل" وكل يوم جمعة، يذهب مع العائلة ٳلى المزرعة تفادياً لمكامن الفتنة.

صحيح أن قنوات الدنيا ومثيلاتها تؤكد أنها "أزمة وخلصت" وصحيح "أن سوريا اﻷسد منتصرة دوماً على أعدائها الكثر" ومع أن "ما في شي والناس في السيارين وكل شيء عال العال" لكنه والعائلة بأكملها تتصرف على مبدأ "الباب الذي بيجيك منّو الريح سدّو واستريح".. في صباح هذا اليوم المشمس تجنب زكريا السير في أزقة لا يعرفها أو تحية أشخاص لا يثق بهم وحين فتح باب الورشة وهو يبسمل، كانت شمس دمشق الربيعية تلفح وجهه بحنان، قال في نفسه: "ٳن كانت الجنة على اﻷرض، فما أشبه هذا اليوم بها".

لم يعرف أن الجنة الحقيقية، كانت بانتظاره بعد لحظات.. في نفس الوقت كان الشاب علي يستلم ورديته على سطح بناية تطل على شوارع دمشق التي كانت قد بدأت تعج بالحياة في تلك اﻷثناء، علي شاب متطوع في قوى اﻷمن وهو مؤمن بأن لا خلاص لسوريا من دون آل اﻷسد.. بفضل هذه العائلة اﻷسدية خرج علي من قريته الجبلية الفقيرة وأصبح عنصر أمن مهاب الجانب "يحل ويربط".. راتبه المحترم سمح له بالزواج من ابنة عمه التي كان مولعاً بها منذ الصغر، استقر الاثنان في منزل نظيف بأحد اﻷحياء التي وفرها اﻷسد للعاملين في خدمة "الدولة" وحين ولد طفلهما اﻷول، خرج علي ٳلى شرفة منزله وجال بنظره في الحي الذي يقطنه هو وزملاؤه العاملون لدى آل اﻷسد والمسمى "مساكن الحرس"..  حينها قال لنفسه: "ما أشبه هذا اليوم بالجنة".. لكن سعادة علي ما لبث أن عكرها بضعة صبيان خربشوا على جدران منسية في مدينة بالكاد يعرفها بالاسم هي "درعا"، هؤلاء "الزعران" الصغار كانت لديهم الجرأة لانتقاد الرئيس القائد الخالد والمفدى.. بعدها بأيام انقلبت حياة علي رأساً على عقب، لم يعد يشعر تدريجياً باﻷمان خارج حيِّه، والناس الذين كانوا يهابونه ويتجنبون ٳغضابه صاروا يكرهونه ولم يعد في مقدوره أن يسير دون أن يتلفت وراءه خشية أن يتلقى طعنة في الظهر من أحد"المندسين"، فوق ذلك، لم يعد في مقدوره أن "يفركها" بعد الظهر ليعمل على تاكسي ابن خاله آصف.. بالعكس، صار دوامه غير محدود، لاٳجازات ولا راحة حتى يوم الجمعة، الذي صار أكثر أيام اﻷسبوع "عملاً".. زوجته لم تعد تحتمل غيابه الطويل عن المنزل، وكان اﻷقسى عليها أنها أضحت محرومة من "الكزدرة" في شوارع دمشق وأسواقها.. لم تعد زوجته تقدر على احتمال نظرات الشذر والكراهية التي تلاحقها في كل مكان خارج المساكن، حياتهم لم تعد كالسابق، وانتهت زوجته ٳلى اقتراح أن تعود هي والطفل للضيعة "حيث سيكونون في أمان" على أن يلحق هو بهم حين يحصل على ٳجازة.. أي ٳجازة؟ وكل يوم جمعة أسوأ من الذي قبله، أصدقاؤه يتساقطون الواحد تلو الآخر، حتى بعض زملائه صاروا يتساءلون عن مغزى القتل بالجملة ودوماً لنفس الفئات. علي لم يسمح لنفسه بالتردد ولو لحظة، فالنقيب حسن قد كلفه بأعقد المهمات وأناط به أنبل وظيفة: أصبح علي قناصاً ويوماً بعد يوم تزداد مهارته في اصطياد المواطنين الضالين والمندسين، أعداء اﻷسد واﻷمة والذين أصبحوا أعداءه الشخصيين.

في صباح هذا اليوم المشمس، تذكر علي زوجته الغائبة وطفله الحبيب.. يحز في نفسه أن يبقى بعيداً عنهما وأن تنقلب حياته جحيماً بسبب هؤلاء "المندسين" الذين يراهم كل يوم وبوضوح في الطرف البعيد من منظار قناصته. كان قد اعتاد على رؤية زكريا كل يوم وهو يفتح الورشة وهو مبتسم، بالنسبة لعلي كانت تلك ابتسامة زائدة في هذا الصباح.. سأل نفسه: لماذا لا ينتقم من هؤلاء الذين يخرجون كل جمعة لينغصوا عيشه ويحرموه من كل المزايا التي اعتاد عليها؟ حتى لو لم يكن زكريا يخرج يوم الجمعة فسيأتي يوم يخرج فيه كالآخرين؟ ثم ما الفرق ٳن اصطاده اليوم أو في يوم جمعة؟ كلهم مندسون وكلهم خونة.. استجمع علي كل مرارته وحقده ونظر في المنظار، لم يصدق حسن طالعه، فالمندس زكريا في زاوية ممتازة.  أطلق القناص الماهر رصاصته، ثم عاد ليكمل كأس المتة قبل أن يبرد.

حين اتصل المشفى بأهل زكريا أخبرهم أن ابنهم "أصيب بنوبة قلبية مفاجئة وأنه في قسم اﻹسعاف".. وصل والده مذعوراً طالباً معرفة "كيف يصاب شاب في مقتبل العمر، لا يدخن ولا يعاقر الخمر، بجلطة؟"، أجابه الطبيب المناوب بلا مبالاة: (قضاء وقدر).  أمام صراخ اﻷب وبكاء اﻷم التي لحقت به، وطلبهم رؤية ابنهم للمرة اﻷخيرة، اضطرت ٳدارة المشفى ﻹخراج الجثمان من البراد.. صعق اﻷب المكلوم حين رأى بقعة كبيرة من الدم على صدر ابنه الفقيد وصرخ في وجه الطبيب الذي بدا عليه بعض اﻹحراج: "جلطة؟! أي جلطة؟! هذه رصاصة في القلب"، الطبيب كان لديه تفسير طبي لهذه المفارقة: "الرصاصة ليست هي سبب الوفاة، بل اﻷزمة القلبية، الناجمة عن الرصاصة، هي سبب الوفاة".. اﻷب المفجوع والذي لم يدرس لا في كلية الطب ولا في غيرها من جامعات البعث أوضح للطبيب الذي نسي قسم أبوقراط أن هذا التفسير غير منطقي وأن هناك من قتل ابنه وتجب محاسبته، الطبيب أوضح بطريقة لا تقبل المناقشة أن "ليس لديه وقت ليضيعه في هكذا تفاصيل، ومن لم يعجبه ذلك فليبلط البحر" باختصار ٳما أن توقع العائلة على شهادة الوفاة بجلطة أو يدفن الفقيد في مقبرة جماعية..  الطبيب عاد بعدها ٳلى مكتبه، ليكمل كأس المتة قبل أن يبرد.

أخيراً، دفن زكريا الذي لم يكمل ستة وعشرين ربيعاً والذي استشهد صبيحة يوم ربيعي مشمس في دمشق "بجلطة" قناص، ذهب ضحية جائحة من النوبات القلبية (والتي يدعوها العوام بالجلطة) والتي تجتاح مدن سوريا الكبرى منذ بضعة أشهر..  لهذه الجلطة الدمشقية والحلبية خصائص لا تتوافر في غيرها من اﻷزمات القلبية ولا في غير بلاد البعث اﻷسدي.. أولها أن ضحاياها هم من الذكور حصراً، ومن بين من تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، ضحاياها هم من الفقراء وأبناء الطبقات المتوسطة القاطنين في مراكز المدن والضواحي القريبة، وهو ما يميزها عن "الجلطة الدولارية "التي تصيب اﻷثرياء والمرتبطة بتذبذب سعر العملة الخضراء.. المار في شوارع دمشق وحلب يشاهد الكثير من أوراق النعوة الخاصة بشبان كانوا ضحية "ﻷعمال ٳرهابية" وآخرين سقطوا ضحايا "لحادث أليم" أما قصب السبق فيعود لضحايا الذبحة القلبية والتي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق خاصة بين فئات الشباب.. مع ذلك هناك عامل مشترك بين كل هذه الوفيات، سواء تلك الناتجة عن حادث أو عن ذبحة قلبية وهو رصاص قناصة اﻷسد!

بالتعريف ٳذاً، فالجلطة اﻷسدية هي نوبة قلبية مفاجئة تصيب شاباً "تصادف" أن كان ضحية لرصاصة قناص من زبانية اﻷسد، هكذا يكون سبب الوفاة بالمفهوم الشرعي ليس الرصاصة في القلب ولكن اﻷزمة القلبية الناتجة عن تلقي الرصاصة!!! ما الغريب في ذلك وقد عودنا نظام الشبيحة على منطقه الخاص الذي لا يخضع لا لقوانين السياسة ولا الفيزياء ولا حتى العلم والمنطق الموضوعي؟ أليس النظام ممانعاً وهو يتسامح مع الاحتلال؟ أليس مقاوماً وهو لم يطلق حتى بودرة عبر خطوط "فك الاشتباك" وأي اشتباك؟ أليس معادياً للصهيونية وهو حليفها الموضوعي والمخلص في مواجهة حرية شعبه والقضية الفلسطينية؟ فوق ذلك، أليس النظام عروبياً للنخاع حتى بعدما طردته الجامعة من عضويتها ولم يبق له من اﻷصدقاء العرب سوى من يخجل العرب من انتمائهم لهم؟ أليس نظاماً "علمانياً" وهو المخترِق حتى العظم بأبشع أنواع الطائفية البغيضة؟ أليس النظام "وحدوياً" وهم من يعمل على قدم وساق في اتجاه تقسيم سوريا الموحدة بغرض الاحتفاظ بقطعة منها له ولطائفته؟ النظام اﻷسدي "العلماني" ذاته لم ير عيباً في ممارسة شعائر "كربلائية" في وسط الجامع اﻷموي بدمشق تحت حراب جند اﻷسد.. كيف نستغرب "الجلطة اﻷسدية" والنظام اﻷسدي "الاشتراكي" خلق في سوريا تفاوتاً طبقياً لا مثيل له في أكثر الدول الليبرالية توحشاً؟ ألم يلغِ نظام الشبيحة قانون الطوارئ ثم يوغل في القتل بما يجعلنا نترحم على حالة الطوارئ؟ وبعد كل الدم الذي سال، يجد النظام ورأسه أن الوضع في سوريا مستقر لدرجة تسمح بإجراء "ااصلاحات" بل وبانتخاب مجلس شعب جديد من مصفقين جدد، هذا ٳن لم يصب هؤلاء أنفسهم بجلطة أسدية (أو دولارية) قبل انتخابهم من قبل شعب "باله فاضي ومرتاح" ﻷن "اﻷزمة خلصت" ولم يبق سوى التصويت لمنافقي المجلس ودفن ضحايا اﻷزمات القلبية "اﻷسدية".  وفق هذا المنطق، تحتاج سوريا ليس ٳلى (طبيب عيون) و (مراقبين ما شافوش حاجة) لمعاينة الوضع فيها، بل تحتاج ٳلى طبيب قلب وخبراء تشريح قادرين على تشخيص سواد قلب النظام ومدى تفسخ الدولة اﻷسدية.. في سوريا اﻷسد وحدها للموت وجوه ثلاثة، فالمواطن يموت كإنسان حين تستهان كرامته وتنتهك حريته وأعراضه على يد أبشع نظام قاتل شهدته البلاد منذ غزو التتار، المواطن يموت مرة ثانية برصاص زبانية اﻷسد، وأخيراً يموت مرة ثالثة حين يضطر أهله للكذب كي يدفنوه.

في مملكة الصمت التي أصبحت مقبرة للأبرياء والشرفاء كل شيء أصبح أسدياً حتى الجلطة.