معركة الصحافة معركة شرف الصحافة ووطنيتها 1
معركة الصحافة
معركة شرف الصحافة ووطنيتها 1
نبيل ياسين
فوجئت بخبر تكريم نقيب الصحفيين من قبل مجلس محافظة النجف. من حق أي مجلس ان يجتمع مع اي نقيب ويتباحث معه. ومن حق اي شخص ان يكرم اي شخص. ولكن ليس من حق اي احد ان يقلب التاريخ, والا لصدقنا ان الحجاج مثلا كان عادلا وعطوفا وانه لم يقتل الا المجرمين الخارجين على القانون وولي الامر.
لذلك ساكتب عن هذا الموضوع ليس من زاوية شخصية. فانا فاقد لجميع حقوقي ولم استعد ايا منها حتى الان. ولست راغبا في الحصول على اعداء جدد, اذ يكفيني ماعندي من الاعداء حتى صرخت قبل اكثر من ثلاثين عاما في قصيدتي ( يا الهي، من اين لي هذا العدد الهائل من الاعداء؟ ) والسبب بسيط وهو معروف ومتداول وهو ان كلمة الحق تجلب الاعداء، لكني اريد ان اظن ، بدون اثم، ان هناك عقلاء وحكماء يديرون العقل باتجاهات شتى ويعقلون مايرون. فاقول:
لسنا نحن الذين اطلقنا على ابراهيم الجعفري ونوري المالكي وبيان جبر وباقر الحكيم ومحمد بحر العلوم ونبيل ياسين واحمد الجلبي وفخري كريم ووليد الحلي وعلي الاديب وعزيز محمد وحميد مجيد موسى واياد علاوي وفؤاد معصوم ومحمود عثمان وسامي العسكري وصادق الركابي وصاحب الحكيم وحسين الصدر وعمار الصفار واكرم الحكيم وموفق الربيعي وعادل عبد المهدي وحيدر العبادي ، على سبيل المثال ، وعلى آلاف غيرهم من معارضي دكتاتورية صدام ،مصطلح (يقتاتون على فتات موائد الاجنبي) وانما (هم) ، اي الصحفيون البعثيون الذين ارتبطوا بأسوأ تقاليد مهنة الصحافة من كتابة التقارير والوشاية بزملاء مهنتهم الى لبس (الزيتوني) وابراز المسدس والمشاركة بفصائل الاعدام الميدانية والوقوف في الطريق لتشخيص المنتفضين.
ولسنا نحن الذين هاجمنا ومزقنا صحف حزب الدعوة والحزب الشيوعي وصحف المجلس الاسلامي الاعلى وصحف المؤتمر الوطني العراقي وصحف الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والصحف المستقلة ومنعناها من دخول العراق واتهمنا من يكتب فيها بانهم عملاء وخونة ويجب ترقين قيودهم واحراق ملفاتهم ،وانما (هم) الذين (يعيروننا اليوم بترقين قيودنا) فتحولت التهمة من وطني معارض شريف (بلغة هذه الايام)، الى (لاقيد له).
ولسنا نحن، نبيل ياسين وعمار الصفار ووليد الحلي وفالح عبد الجبار وحميد الخاقاني وفاطمة المحسن ومحمد بحر العلوم وفخري كريم وعبد الحليم الرهيمي وعدنان حسين ومحمد عبد الجبار الشبوط وسامي شورش وعبد الزراق الصافي وفيصل لعيبي وفائق بطي وفلك الدين كاكائي وجبار ياسين ومهدي السعيد وصادق الصائغ وزهير الجزائري واحمد عبد الحسين وكريم عبد وابراهيم الحريري وجمعة الحلفي وهادي العلوي وكاظم السماوي وسامي عبد الرحمن وعشرات غيرهم ، كنا كتاب وصحفيي نظام صدام ،وانما كنا كتاب وصحفيي معارضة صدام حسين وابرز كتابها وصحفييها وناشطيها من اجل حرية الصحافة ومن اجل عراق ديمقراطي ومن اجل حرية التعبير وحقوق الانسان. وليسوا (هم) اي من مدح صدام وارسى عبادة الفرد حتى ضد رفاقه من الصحفيين والكتاب البعثيين الذين ترددوا في ممارسة هذه العبادة الكريهة و(هم) من قال عنا وعن سياسيينا الذين يحكمون الان (انهم باعوا انفسهم) بينما كنا (نشتري) مرضاة الوطن والشعب باقلامنا ونضالنا وصبرنا واملنا.
ولسنا نحن، نبيل ياسين ( استخدم اسمي حتى لايعترض من اوردت اسمه وليس للتباهي) ومن معي من ذهب يلقي القبض على اهلنا ويسوقهم ، على اقل تقدير، للتحقيق والتخويف في مديرية الامن العامة، لاننا نكتب ضد صدام باسمائنا الصريحة وقاماتنا الممدودة وهاماتنا المرفوعة ووجوهنا المعروفة، وانما (هم) من تابع وكتب تقاريره ورفعها الى مديرية الامن ومؤسسات القمع البعثي، لتعتقل اهلنا وتسقط حقوقنا وتشنع علينا وعلى معارضتنا الاسلامية واليسارية والمستقلة والقومية باقلام(هم.(
لسنا نحن الذين كنا مصورين لحفلات (كاولية) الرفاق البعثيين فقد كانت صورنا في الصحف والبرامج التلفزيونية صورة المعارضين المطلوبين الفارين من انعدام العدالة في عراق صدام حسين فلمن العراق اليوم؟ ولسنا نحن من كتب (يهزج) باهازيج البعث حتى على لسان غيره من اهله وسكان مدينته ، بينما كنا نتألم مطاردين من منفى الى منفى صارخين اينما حللنا( واحيانا كثيرة بدون اهلا ولا سهلا) بان صدام دكتاتور، وان العدالة معدومة في العراق ،وان الحريات مغيبة، وان السجون تغص بالمعتقلين وبان المقابر الجماعية والاعدامات ممارسة يومية لنظام صدام. فصادر صدام وطننا وحاول محو تاريخنا ، ولكن لم يكن الوطن ملكا لصدام.
ليس الوطن ملكا لاحد مهما كان قويا وجبارا. ولو كان كذلك لكان العراق قد مات مع موت الحجاج ومع موت صدام ومع موت هولاكو. الوطن هو اهله. ولذلك لا يسمى القطبان المتجمدان الشمالي والجنوبي وطنا ولم يسكنهما احد ليسميا وطنا. واذا كان الوطن هو اهله فانه ملكهم وهم المالكون الوحيدون له. ولذلك قد تسرق الاوطان ولكنها لابد ان تعود لاهلها. وحتى تعود تكون قد تحولت الى ميادين صراع وموت وغضب وصراخ واقلاق راحة الحكام وزيادة قوات امنهم وحماياتهم سواء في غرف نومهم او محراب صلاتهم او في بارات قصورهم لا فرق بين عابد وفاسق.
قضية الصحافة قضية تاريخ
ليست قضية الصحافة وحريتها ومهنيتها وموضوعيتها ووطنيتها ونزاهتها قضية شخصية بين شخصين. هل يعقل ان جارين متخاصمين يمكن ان يذهب الحمق وسوء التقدير لدى احدهم ان يعلق قلادة ذهبية في عنق الكلب الذي يعض جاره؟ لا ادافع عن احد ولا اعادي احدا. انا ادافع عن تاريخنا وشرفنا من خلال الدفاع عن تاريخ الحق وتاريخ الباطل في الصحافة العراقية وهو دفاع عن العراق. وعن شعب العراق وعن كرامة هذا الشعب التي اهدرها بعثيو صدام.
قضية الصحافة بالذات هي قضية تاريخ العراق. فاذا كان سياسيونا يجهلون تاريخ الصحافة العراقية فمعنى ذلك انهم يجهلون تاريخ العراق وعادات العراق وتقاليد العراق وحوادث العراق وشخصيات العراق. ان فخري كريم حتى وهو في خصامه مع رئيس الوزراء اكثر فائدة لرئيس الوزراء واقرب اليه من الاخر. فأن كلا من المالكي وفخري كريم كانا رفيقي طريق نضالي واحد رغم اختلاف منطلقاتهما الفكرية. ولايصح ابدا ان يفترق رفيقا الدرب من اجل عدوهما المشترك فيصطف واحد معه وواحد ضده ويكون الصديق القديم والعدو القديم صديقين جديدين.
اعرف اني سأثير غضب الكثيرين وسيقولون انني شيوعي ادافع عن شيوعي. لا. ليست القضية هكذا ابدا رغم ان تعليقات كثير من الجرذان المختبئة وراء اسماء مستعارة سيقولون ذلك. لست شيوعيا ليس لاني خائف ،فقد عملت في طريق الشعب في اقسى ظروف الهجوم على الشيوعيين، بعد ان اقصاني صدام من الصحافة بشكل سري لمدة ستة اشهر قبل ان يكتشف شفيق الكمالي وجودي في الجريدة اثناء زيارة له. انا ديمقراطي يساري احترم الفلسفة الماركسية وبليخانوف وتروتسكي وجيفارا وانجلز واكره الطاغية ستالين ولا أحب لينين . ولا يوجد شيوعي واحد لا يحب لينين. الشيوعيون كانوا اصدقائي في محنتهم، وربما في محنتي ايضا حين كان علي ان اكون اقرب لفكر ما. ولاني لا اطيق فكر عفلق ولا فكر البعث اقتربت من كثير من الاسلاميين الذين كنت اشاركهم في اعداد مواكب الطلبة عام 1969 ،كما اقتربت من الشيوعيين. فانا مثقف ديمقراطي مستقل اختار وانا حر، ولذلك رفضت جميع الضغوطات البعثية وقاومت رغبات كثير من الشيوعيين بان اكون عضوا في الحزب. اقول ذلك لان دفاعي عن قضية فخري كريم هو دفاع عن تاريخ الصحافة وهي لانها قضيتي وليست قضية حزبية او شخصية. فانا انتمي للمبادئ اكثر من انتمائي للاشخاص، ولذلك يتغير الاشخاص في حياتي ولا تتغير المبادئ. وما يهمني هو التاريخ. فالتاريخ مثل القانون، اذا لم تحترمه فانك ستخرقه. والعدالة مفهوم وهدف سماوي وانساني ، ولايهم القاضي العادل مايقوله المتهم المحكوم بحكم عادل، بانه ظالم. فقد اتهم المجرم البندر الذي كان يسوق المئات الى الاعدام دون محاكمة، المحكمة التي حاكمته بانها ظالمة.
من حقنا ان لانسمح بتمرير تاريخ آخر لمن ساهم في تدميرنا لان تمرير هذا التاريخ الملفق والمختلق سيزيد من دمار العراق على ماهو عليه من دمار. لقد زهدنا بكل شيء سوى بشرفنا وتاريخنا فأبقوه لنا رجاء ولاتعبثوا به، وسنصرخ باعلى حناجرنا ضد تزييفه، فان ما اوقفنا ضد صدام هو سعيه الحثيث لتزييف تاريخ العراقيين واعتباره الظلم عدالة والسجن حرية والجلاد ضحية .
ولذلك يختلف معي بعض القراء والسياسيين والمعلقين، فيعلقون علي كتاباتي بشتمي مثل ( يهودي صهيوني خليجي) وبعض قرائي شيعة فلا يعجبهم مقالي فيعلق احدهم( شيعي يهودي صهيوني شيوعي يقضي ليالي حمراء في بيروت) وانا اسكن لندن وليالي مع الاسف سوداء من الهم العراقي منذ اكثر من ثلاثين عاما. وسيعلق احدهم من جديد نفس هذا التعليق لانه يملك مخا مختوما عليه بختم يسد اية معرفة بالواقع ويسد عليه منافذ التفكير والعقل. وربما زاد احدهم باني مليونير استلمت ستة ملايين دولار من احدى الجهات، كما حدث مرة، ففرحت واتصلت به بعد جهد لمعرفة عنوانه مطالبا اياه بتسديد المبلغ الذي اتهمني به لانه لم يصل إلي وهو يعرف به فلابد انه سرقه. وهذه نكتة مريرة. هكذا نعاني حين نكتب او بعد ان نكتب والسبب هو ان صحفيي صدام مارسوا هذا التشويه وهذا الافتراء فاتبعهم كثير من الناس من ضحايا صدام وضحايا صحفيي صدام حتى صار هذا التشويه عملا سياسيا يستطيع ان يقوم به كثير من الاشخاص حالما يختلفون معك بالرأي فيفسد الود . واكبر شاعر كذاب في العالم هو الذي قال ( واختلاف الرأي لايفسد للود قضية) لان اختلاف الرأي يورث اكبر فساد في الود. وهذا موضوع سأتطرق اليه في مقال سياسي قادم لان اختلاف الرأي هو تعبير عن اختلاف المصالح. وهذا القول عجز بيت وضعه الشاعر احمد شوقي على لسان مجنون ليلى وهو :
ألأني انا شيعي وليلى أموية؟
اختلاف الرأي لايفسد للود قضية.
ففساد الود اصبح بين الشيعي والشيعي والسني والسني بسبب اختلاف الرأي.
كيف استولى صدام وطارق عزيز على الصحافة؟
كان صدام يرتب للاستيلاء على الصحافة، التي كان عمرها مائة عام حين استلم البعث السلطة وقد احتفلنا آنذاك في حدائق الخلد، من خلال انشائه مكتب الثقافة والاعلام القومي المرتبط بالقيادة القومية. وكان اول رئيس له ناصيف عواد البعثي الاردني .ثم اشرف على المكتب طارق عزيز وبدأ ترتيب تبعيث الصحافة والاعلام والثقافة. ورغم ان رؤساء تحرير صحف ومجلات البعث انذاك كانوا يحضرون اجتماعات المكتب اسبوعيا لتلقي التوجيهات، الا انه من الانصاف الحديث ، خلال السبعينات،عن انهم كانوا غير مقتنعين ببعض التوجيهات حين يسربون لنا بعض التوجهات المعادية لنا نحن الصحفيين والكتاب من غير البعثيين . كان كثير منهم يعيرون معرفتهم بنا واحترامنا ، رغم عدم حبهم لنا، قدرا كبيرا من الاهتمام على الرغم من معرفتهم الكاملة بعدائنا لفكر وتوجهات البعث. واستطاع طارق عزيز ان (يبعث) الاعلام والثقافة من خلال وزارة الثقافة والاعلام ومن خلال مكتب الثقافة والاعلام القومي. وكان اخراجنا من وسائل الاعلام الرسمية (التي لايوجد غيرها آنذاك) يتم بطريقة سلسلة وجزئية حتى لايبدو ظاهرة واضحة خلال السبعينات.وكانت كل توجيهات عبادة الفرد وتحويل الصحفيين الى ابواق ،ترسم في ذلك المكتب، حتى اصبح تقديس صدام ظاهرة اعلامية وثقافية لم ينج منها احد من الصحفيين حتى من غير البعثيين. ونستطيع ان نقدر مواقف بعض الصحفيين والشعراء والكتاب الذين ارغموا على التغني بصدام ونعذرهم، ولكن كيف نعذر من قاد حملة التهريج وارغم الصحفيين والفنانين والشعراء والكتاب والادباء وهددهم بالاعدام اذا لم يتغنوا بصدام؟ هذا الفرق لم يأخذه احد بالاعتبار ولذلك لم يعتذر اي واحد من اؤلئك الذين ارغموا العراقيين على تمجيد صدام وساقوا الناس من بيوتهم وشوارعهم الى ساحات القتال او ساحات التغني والانشاد وحطموا الثقافة العراقية بحيث ساق مدير عام الاذاعة والتلفزيون سعد البزاز عام 1985 الفنانين التشكيليين الى دار الاذاعة والتفلزيون ليغنوا بعيد ميلاد القائد ومن قادهم يقود اجهزة اعلامية مؤثرة اليوم.