أبطال وقتَلة
أسامة غريب
الأمر يتوقف على الأرضية التى تقف عليها وأنت تنظر، ويتوقف على النافذة التى تطل منها والزاوية التى تتخذها للرؤية.
على سبيل المثال فوجئت فى أثناء زيارة لأوزباكستان بأن تيمور لنك الغازى المغولى الرهيب الذى عاش عمره كله يقتل ويأسر وينهب وينشر الخراب حيثما حل.. فوجئت بأن له مكانة مهيبة فى قلوب الناس هناك وأنهم ينظرون إليه باعتباره بطل الأمة الأوزبيكية. وعلى النقيض من هذا فإن ذكر اسمه فى بلادنا يقترن بكل الوحشية والصفات الدموية الرهيبة، حيث حملت كتب التاريخ الذى كتبه أجدادنا كل الفظائع التى ارتكبها عامى 1399 و1400 عندما غزا حلب فأحرقها بالكامل واقتحم دمشق فألحق بها دمارا عظيما، واحتل بغداد فقتل مئات الآلاف من سكانها فى يوم واحد، غير احتلاله لأذربيجان وأرمينيا والهند وموسكو. ولا يختلف الأمر كذلك عندما ننظر إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة الذى حارب المسلمين فى الأندلس بين عامى 1230 و1260 وألحق بهم هزائم فادحة ونجح فى ثلاثين عاما فقط فى الاستيلاء على ثمانين بالمئة من الممالك والمدن التى شكلت إسبانيا المسلمة مثل قرطبة وجيان وأشبيلية وألمرية ومرسية، وقد حسم الصراع الذى أدى فى النهاية إلى زوال الدولة العربية فى الأندلس بسقوط غرناطة عام 1492 فى آخر الطابور الذى تهاوى مملكة تلو الأخرى. ولا شك فى أننا عندما نقرأ التاريخ الذى تركه لنا الشاعر والمؤرخ ابن الأبّار عن تلك الفترة لا بد أن نشعر بالحنق والكراهية للملك الإسبانى الذى اقتحم الأسوار وأحرق الزرع وروّع الآمنين وقتل الأسرى من المسلمين، كما نشعر بالأسى لأهلنا الذين واجهوا هذا الوحش الذى ولغ فى دمائهم وألحق بهم الخراب. ولكن الإسبان عندما ينظرون إلى نفس الرجل فإن كل آيات الحب والفخر والمهابة تتجلى فى أعينهم حتى لقد أنزلوه منزلة القدِّيسين وجعلوا سيرته تروى فى الأدب الشعبى واعتبروه أشبه بالملاك الذى أرسله الرب لنصرتهم فأطلقوا عليه لقب سان فرناندو أو فرناندو سانتو وملؤوا بتماثيله المدن التى غزاها بعد أن توّجوه بطلا للأمة الإسبانية. ولا يبتعد عن هذا أن نضرب مثالا بالضبع الضارى آرييل شارون بطل مجزرة صبرا وشاتيلا فى لبنان عام 1982 أو إيهود باراك الذى تنكّر فى زى امرأة وقام بقتل قادة المقاومة الفلسطينية فى بيروت عام 1973 أو مجرم الحرب ديفيد إليعازر الذى قام بدفن الأسرى المصريين أحياء عام 1967 أو شيمون بيريز قاتل الأطفال فى قانا عام 1996 أو مناحم بيجين بطل مجزرة دير ياسين عام 1948.. كل هؤلاء الوحوش الذين بقَروا بطون الحوامل وذبحوا الأطفال وروّعوا المدنيين العزّل يعتبرهم الشعب الإسرائيلى أبطاله التاريخيين بالإضافة إلى بن جوريون ومائير وديان ورابين.. وهم جميعا على نفس الشاكلة من التوحش والتعطش للدماء.
وأتصور أن الأمر ذاته لا بد أن يكون موجودا عند نظرة المعسكر الآخر لأبطال التاريخ العربى الذين نحمل لهم كل إعزاز وتقدير مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد وسعد الدين الشاذلى وغيرهم. ليس هناك إذن نظرة واحدة إلى شخصيات التاريخ، والأمر يتوقف على المعسكر الذى تقف فيه لتحكم على الشخص من منظورك الخاص إن كان بطلا أو مجرما. ولعل كتابة التاريخ بواسطة شهود محايدين يكون أكثر جدوى وأقرب للإنصاف، لأن الأطراف المندمجة فى الحدث لا تستطيع أن تنفصل عنه عند التقييم.
وربما يدفعنا هذا إلى التساؤل عن حدث مثل موقعة الجحش أو الجمل التى جرت أحداثها يومى 2 و3 فبراير 2011 بميدان التحرير.. كيف ستقرأ عنها الأجيال القادمة؟ وكيف سيقرؤون عما وقع فى ماسبيرو فى شهر أكتوبر وما حدث فى شارع محمد محمود فى شهر نوفمبر، وكذلك وقائع أيام الجمر أمام مجلس الوزراء فى شهر ديسمبر 2011؟ كيف سيقرأ تلاميذ المدارس عن هذه الأحداث فى كتبهم المدرسية، أعتقد أن نجاح شخص كأحمد شفيق مثلا فى الانتخابات الرئاسية مع بقاء المجلس العسكرى محتفظا بصلاحياته قد يجعل من منفذى موقعة الجمل الذين قدموا على ظهور الجياد والجمال وكل أنواع الدواب، وفى أيديهم السيوف والرماح والمولوتوف فى حماية القناصة الذين اعتلوا الأسطح وأمطروا المتظاهرين بزخّات من الرصاص.. قد يجعل من هؤلاء أبطالا فى مواجهة الفئة الضالة من المتظاهرين فى التحرير، وقد يجعل من أحمد حرارة مجرما يستحق ما حدث له من فقدٍ لعينيه الاثنتين، ولعل التلاميذ يقرؤون وقتها موضوعات عن المؤامرة التى نفذتها الفتاة التى طُحنت عظامها وتعرّت على أيدى الجنود لجعل صورة الجيش تسوء فى أعين الناس، بينما كان هؤلاء الجنود يطأونها بالأقدام وينزعون ملابسها دفاعا عن الوطن. أما لو فاز عمرو موسى مثلا فإنه قد يدين الطرفين ويجعل كتب التاريخ المدرسى تدمغهما معا بالشغب وإثارة القلاقل. لكن لماذا نذهب بعيدا وننتظر كتب التاريخ المدرسى فى الأعوام القادمة وأمامنا دعوة جادة يتحدثون عنها هذه الأيام للاحتفال يوم 25 يناير القادم بعيد ثورة يناير وعيد الشرطة معا..آه والله! وكأن ثورة شعب مصر قد قامت فى وجه وزارة الرى أو وزارة البيئة!