عن "حماس" وسوريا والتّدجين السّياسي

عن "حماس" وسوريا والتّدجين السّياسي

صلاح حميدة

[email protected]

لا تكاد وسائل الإعلام تخلو من أخبار يوميّة عن حركة "حماس" وعلاقاتها ومواقفها وتنقّلات قياداتها وتصريحاتهم وتحليل مواقفهم، وفي بعض الأحيان اختلاق أحداث وتصريحات تخصّهم، ومن الملاحظ أنّ هذه الكثافة والمتابعة الإعلاميّة وما يرافقها من تحليلات سياسيّة -عبر مقالات ومقابلات- تهتمّ بشكل كبير بتوجّهات الحركة السّياسيّة وتموضعها الجيوسياسي في ظلال ثورات العرب المختلفة، تبعاً للأثر الكبير الّذي أحدثته – وستحدثه - تلك الثّورات على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة وفي قلبها مقاومتها التي تبرز حركة "حماس" كمكوّن رئيسي فيها.

يختلط هذا الاهتمام بين أثر فوز الإخوان في انتخابات في دول كمصر وتونس والمغرب وما يمكن أن يحقّقوه في ليبيا الجديدة واليمن، وبين أثر ما يجري في سوريا على حركة "حماس" والفصائل الفلسطينيّة، حيث يرى بعض المحلّلين والمخالفين لهذه الحركة أنّها مقبلة على دخول نفق " التّدجين" السياسي إثر احتمالات خروجها من دمشق، ولذلك لا بدّ من تحليل و فهم التّوجّهات العامّة التي تحكم ممارستها السّياسيّة والمقاومة على الأرض، بالإضافة إلى معرفة المعايير الّتي حكمت علاقتها مع النّظام السّوري وغيره من الأنظمة والمنظّمات في العالم.

أنشأ فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين ذراعه المقاوم المسمّى حركة المقاومة الإسلاميّة "حماس" بداية الإنتفاضة الشّعبيّة الفلسطينيّة عام 1987م ، وكان العمل الكبير والمركزي لهذا الذّراع هو المشاركة الفاعلة في فعاليّات تلك الثّورة الشّعبيّة وتأجيجها ضدّ قوّات الإحتلال، كما رافق هذا النّشاط فعاليّات أخرى مختلفة بينها العمل المسلّح ضدّ قوّات الاحتلال العسكريّة، مع تجنّب واضح لاستهداف غيرهم، في حين أحدثت مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل نقلة واسعة لاستهداف الحافلات والتّجمّعات المدنيّة ردّاً على استهداف الاحتلال للمدنيين الفلسطينيين، وكانت الحركة أبدت استعدادها لوقف استهدافها للمدنيين إذا أوقف الاحتلال استهدافه للمدنيين الفلسطينيين، ولكنّ الاحتلال كان يرفض على الدّوام.

وفي السّياق ذاته فإنّ تصريحات بعض قادة الحركة عن أهمّيّة تفعيل المقاومة الشّعبيّة لا يمكن اعتبارها نكوصاً أو تراجعاً عن مبدأ المقاومة،  بقدر ما هي سعي لتنشيط كافّة أشكال النّضال ضدّ الاحتلال، ودمج أكبر شريحة ممكنة من الفلسطينيين في هذا اللون النّضالي. ولذلك لا يمكن تقييم مشروعها العسكري من باب قبولها للتّهدئة أو التّفاهمات السّياسيّة مع بعض الأطراف، ولكن ينظر إليه من باب كونه مشروعاً تراكميّاً في الكمّ والنّوع، وبناءً على قدراته الرّدعيّة لقوّات الاحتلال وتأثيره على سلوكها واستعداداتها.

من حيث الطّرح السّياسي، إعتبرت الحركة أنّ فلسطين من ( بحرها إلى نهرها أرض وقف إسلامي لا يجوز التّنازل عنها) وطرح الشّيخ أحمد ياسين فكرة ( الهدنة) مقابل انسحاب قوّات الاحتلال من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967م وتفكيك المستوطنات وعودة اللاجئين، ولكن الاحتلال رفض، وبين فترة وأخرى تعيد الحركة هذا الطّرح، ويصرّ بعض السّاسة والمحلّلين على اعتباره موقفاً جديداً كل مرّة ودخولاً لما يسمّونه ( نفق التّدجين السّياسي)!!.

أمّا علاقة الحركة بالنّظام السّوري فهي مرتبطة بعدد من المحدّدات، ويعتبر حرص الحركة على علاقات جيّدة مع الجميع أهمّها، فهي تعلن حرصها على حشد كل القدرات العربية والإسلاميّة لدعم القضيّة الفلسطينية، وترى أنّ ( القضيّة الفلسطينيّة بحاجة لجهود كل العرب والمسلمين وكلّ الأحرار في العالم لنصرتها بلا استثناء)، ولذلك لم تر الحركة في استضافتها هناك مشكلة مع أنّ الإخوان السّوريين تحسّسوا من ذلك، والّذين يشكّلون الشّقيق السّوري لها، ولهذا فإنّ المراقب يلاحظ أنّها تقترب من الأنظمة بالقدر الّذي لا يمكن لهم احتواء الحركة أوالتّأثير على قراراتها، فعندما سئل الشّيخ ياسين عن موقفه من طلب محتمل يتقدّم به الملك حسين له لوقف العمليّات ضدّ دولة الاحتلال، قال :- ( أقدّر للملك دوره في تحريري من السّجن ولكنّنا لسنا في جيب أحد)، كما عبّر خالد مشعل عن موقف مشابه في إجابته على إمكانيّة حدوث تحوّل سياسي للحركة إن أخرجت من سوريا، فقال:- ( في الأردن كنّا حركة مقاومة، وفي سوريا كذلك، وإن أخرجنا منها سنبقى حركة مقاومة) فكون حركة "حماس" حركة مقاومة سابق لعلاقتها مع النّظام السّوري ومع النّظام الإيراني ومع حزب الله وغيرهم كذلك، فصفة مقاومة الاحتلال لم تكتسبها الحركة من وجودها في سوريا ولا من علاقتها بأطراف معيّنة، بل هي صفة أصيلة فيها، وقد تكون هذه إشارة مبطّنة من مشعل موجّهة لبعض الأنظمة العربيّة الّتي تحاول ابتزاز الحركة بمواقف تخالف توجّهاتها مقابل تغيير سياسات تلك الدّول تجاه الحركة، فأبواب كثيرة تفتح الآن أمامها بدون تقديم تنازلات لأحد، فما الّذي يجبرها على تقديم تنازلات في الوقت الّذي بدأت فيه قطف ثمار صمودها على مواقفها الرّافضة للخضوع لإملاءات الآخرين.

اختارت قيادة الحركة أن تتّبع سياسة حياديّة تجاه الأنظمة والحركات السّياسيّة العربيّة، وأن لا تدخل في صراعات تفقدها بوصلتها وتضيّع القضيّة وتستعدي من هي بغنى عن استعدائهم، ولذلك أصبحت بوصلة الجميع تتّجه نحوها، يختلفون على كل شيء ويتّفقون على دعمها – وإن كان بأشكال متعدّدة- ولذلك تعتبر الهجمة الإعلاميّة الحاليّة على الحركة في سياق محاولة للضّغط عليها لتتّخذ  مواقف تخالف توجّهاتها ومنطلقاتها السّابقة، ويعتبر موقف الحركة الّذي أعلنت عنه جيّداً ومنسجماً مع توجّهاتها العامّة فهي ( لا تنفي ولا تغبن النّظام السّوري حقّه في ذكر دعمه للحركة، وفي نفس الوقت هي تقف إلى جانب الحقوق المشروعة للشّعب السّوري إلى آخر مدى،.... وترفض الحلول الدّموية والعنيفة) كما قال مشعل.

هذه السّياسة لها أبعاد أخرى لها علاقة بالشّعب الفلسطيني وبالنّظام السّوري أيضاً، فالحركة تريد تجنيب الفلسطينيين في سوريا عبء مواقف قد يجبرون على دفع ثمنها كما جرى في الكويت، كما أنّ أحد أهمّ شروط استضافتها في سوريا هو عزل نفسها عن الصّراع الدّاخلي السّوري بين الإخوان والنّظام، وقد التزمت الحركة بهذه السّياسة في سوريا و في غيرها، ولذلك شكّل حياد الحركة مصلحة لها وللنّظام السّوري فيما سبق، وليس من المعقول مطالبتها بتغيير موقفها حاليّاً.

هل الحركة مأزومة بسبب وجودها في دمشق؟ وهل تسير رياح الرّبيع العربي باتجاه لا تهواه أشرعة المقاومة الفلسطينيّة؟ أغلب المؤشّرات تقول: لا، ومن المؤكّد أنّ نبض الشّعوب العربيّة وحرّيّتها لن يترك فلسطين ومقاومتها، ولن يكون أيّ نظام أحرص على فلسطين من شعبه، كما أنّ النّظام السّوري ليس بوارد الضّغط على الحركة لدرجة يجبرها على الخروج من سوريا، فهو يقول: أنّه يتعرّض ل( مؤامرة بسبب مواقفه من دعم المقاومة وعلى رأسها الفلسطينيّة)، وقيامه بهذا سيضعه موضع اتهام بأنّ دعمه لها لم يكن مبدئيّاً، بالإضافة إلى أنّ قيادة الحركة هناك ليست في عجلة من أمرها للخروج من هناك على ما يبدو.

بقراءة مبسّطة لسلوك الحركة ومواقفها الحاليّة من الممكن أن نخلص إلى أنّها تدرك تمام الإدراك أنّ التّحوّلات الجارية في العالم العربي تصبّ في خدمة القضيّة التي نذرت نفسها من أجلها، وهي تعمل بانسجام مع منطلقاتها وأهدافها، تحرص على تفادي الوقوع في مطبّات وسقطات في ظل الوضع المتفجّر في هذه المرحلة الانتقاليّة، وتحرص على تجنّب خوض معارك مع الاحتلال وبعض القوى الإقليميّة لا لزوم لها حاليّاً، وفي نفس الوقت لا تضع نفسها في خضمّ الصراعات البينية العربيّة، فهي ليست (طرفاً إلّا في صراعها مع الاحتلال، وما يثار حول مواقفها وتحرّكات قياداتها في الإعلام لا يعبّر إلا عن تمنّيات أو محاولات للضّغط لإيقاعها في منزلقات لمنعها من تجاوز هذه المرحلة بنجاح) كما قال أحد قادتها.