قراءة متعمقة في قرار الجامعة العربية

د. نور الدين صلاح

من الممكن بسهولة وبساطة أن يحكم المراقب حكماً متسرعاً ومبدئياً على قرار الجامعة العربية بأنه طوق نجاة أو مهلة جديدة للنظام لالتقاط الأنفاس، ومخيباً لأمل الشعب السوري، وقد أدركت من الناس الذين حولي مدى خيبة الأمل والحنق الشديد بحيث رأيت الدموع تترقرق من العيون والمآقي حزناً وألماً يجلل ذلك الشعور بالغبن والإحساس بظلم ذوي القربى، وما لبث الحاضرون بعد هذه الصدمة وبعد أن سري عنهم فرددوا بصوت واحد: يا الله ما لنا غيرك يا الله، ومع ذلك قلت لأصحابي قبل أن أودعهم لا تقنطوا من رحمة الله إن شاء الله سيجعل الله فيه خيرا وسيجعل بعد عسر يسرا

أخذت بعد ذلك أقرأ القرار بهدوء وأفكر فيه بروية لأتوصل إلى نقاطه الإيجابية ونقاطه السلبية وما سكت عنه وهو ما سيكون على الأغلب مجال المناورة والمماطلة والتحايل، وأريد أن أثبت بعد ذلك ما يلي :

أولاً : قبول النظام له دون تحفظ دليل ضعف النظام وليس دليل قوة لا سيّما بعد أن تحفظ عليه ورفضه واعتبره على لسان ممثله بالجامعة العربية مؤامرة ويخدم أجندة غربية، وكان من الواضح أن النظام سيتجرعه سماً ويروج له بحيث لا يظهره مهزوماً، وخصوصاً بعد الموقفين الروسي والصيني اللذين أكدا على أهمية هذه المبادرة، وبعد اللقاء الطويل بين بشار الأسد وأعضاء اللجنة العربية والذي أشير إلى أنه كان صريحاً وواضحاً وأعلموه بأن عدم التجاوب يعني التدويل والتدخل الخارجي، والدليل على ما أقول أن النظام رضي بسحب المظاهر العسكرية من المدن والأحياء وإطلاق سراح المعتقلين ولو فعل ذلك النظام قبل صدور القرار لكان له دلالة أقوى ولكان أثره داخلياً وخارجياً أعظم، ولكن الآن سوف ينظر إليه الجميع أنه فعله رغماً عنه وتحت الضغط وهو الذي جزم من قبل أنه لن يعطي شيئاً تحت الضغوط، وكل ما يعطيه للشعب كان مقرراً من قبل ومدروساً بعناية، فسوف يخرج جيشه مذموماً مدحورا فلا حمداً ولا شكورا، وهو إعلان لفشل حله الأمني بقبوله حوار المعارضة خارج الأراضي السورية، وهذا يدل على أن النظام خسر جولات كثيرة فقد كان بإمكانه إجراء الحوار داخل سوريا وتحت سقف منخفض ودون أي ضمانة أو رقابة

ثانياً : هذا القرار لا يحمّل المعارضة أي مسؤولية لأنه ببساطة لم يخاطبها ولم يأخذ رأيها ولم يلزمها بأي شيء وهي في حل من أي شيء فيه سواء التزم النظام أم لم يلتزم، وهذه نقطة قوة فيه إذ إن المطالب فيه هو النظام وحده، فهو ملزم بسحب الجيش من المدن وإطلاق سراح المعتقلين وعدم إطلاق النار على المدنيين وإدخال المراقبين والسماح للإعلام الحر بالتغطية المباشرة وهذه كلها مطالب كان النظام يرفضها بالماضي ويعدها من التدخل الخارجي الذي كان ينعته بالخيانة والمس بالسيادة، وهنا لا بدّ أن أشير إلى أهمية آليات الحركة بالنسبة للمراقبين والإعلام الحر بحيث لا يستطيع النظام - وكما لمح وزير خارجية قطر رئيس اللجنة – اللف والدوران والتحايل والتلاعب ليجعل من هؤلاء إما شهود زور أو (شاهد ما شافش حاجة) وهذا مستبعد، وبالتالي دخول الإعلام الحر لن يفيد فحسب بكشف ما سوف يجري على الأرض بالمستقبل بل ستتاح له الفرصة أن يوثق ما حصل بالماضي ويستمع إلى الشهادات الحرة من أهلها لا كما يقول النظام عن طريق ما يسمى (شاهد عيان والصور المفبركة)

ثالثاً : إن الأطراف المؤثرة على النظام والفاعلة في تضييق الخناق عليه ليست طرفاً في الاتفاق، وبالتالي سوف يبقى الحصار الاقتصادي والسياسي والعقوبات المستمرة من تركيا والاتحاد الأوربي وأمريكا والغرب عموماً ولا أدل على ذلك من مطالبة البيت الأبيض للأسد بالتنحي بعد التوصل إلى الاتفاق وهي رسالة تعني أن الاتفاق لا يعنينا شيئاً ولا يلزمنا بشيء، وهذا يكشف لنا الاستراتيجية العامة لإسقاط النظام والتي تتمثل المرحلة الأولى بإضعافه ثم تفكيكه ثم إسقاطه دون زلازل توعد بها رأس النظام بحيث تصل ارتداداتها إلى المنطقة بأسرها

رابعاً : إن الجامعة العربية وكثيراً من أطرافها الفاعلة تعلم علم اليقين طبيعة هذا النظام وتعرف تاريخه الطويل في الخداع والمماطلة وبعض هذه الدول تعاملت معه مباشرة كالسعودية مثلاً في أزمة لبنان وكثير من اكتوى بناره كالفلسطينيين واللبنانيين وأهل الخليج عموماً ويعلمون أن النظام السوري كان لاعباً إقليمياً مهماً يحاول دائماً كسب أورق رابحة من مشاكل ومآسي من حوله ويشارك باستمرار في صناعة الأزمات وفي حلها، وهذا يرتب على الجامعة مسؤولية جسيمة في إحكام المتابعة والمراقبة الجادة لتنفيذ ما اتفق عليه أي بعبارة أخرى لا تكفي القرارات بل لا بد من إحكام الآليات

خامساً : ما هي مكاسب النظام ؟ فكرت في ذلك ملياً فوجدت أنه لا مكسب له إلا شراء الوقت، لأن النظام كان يقتل قبل المبادرة وسوف يقتل مع المبادرة وبدونها، وسوف تستمر المظاهرات ومن المتوقع أن يزداد زخمها إذا ضعفت القبضة الأمنية، فهل الوقت يمضي لمصلحة النظام ؟

بالطبع لا، فالضغوط الاقتصادية تزداد وبدأت آثارها تظهر وسوف تتفاقم، والمتضررون والمتململون يزدادون، والعزلة السياسية تحكم حلقاتها على عنق النظام، والمنشقون عن الجيش يزدادون ومعه يقوى الجيش الحر، وأوراق النظام السياسية تتساقط يوماً بعد يوم كورقة حماس مثلا، وفضح ممارسات النظام تتجلجل بعد كشف الغطاء الدولي عنه، لكن لا يملك النظام أي خيار سوى الخيار (الشمشوني)، وشراء الوقت ولو كان خاسراً هو المخرج الوحيد ودليل التخبط وشعار اليأس

سادساً : بالنسبة لحوار المعارضة، فهذا مأزق سياسي كبير للنظام في عدة أمور، منها أن المعلن إلى الآن أن طاولته سوف تكون في القاهرة، وكذلك لو اشترك فيها من لا يرغب فقد أعطاهم شرعية وحكم على نفسه أنه يفاوض الخونة، وكذلك فإن الحوار لن يبدأ حتى يعطى شهادة حسن سلوك بناء على تقيده بالتزاماته على الأرض، فلو لم يلتزم فليس هناك حوار وإذا التزم فستشتعل المظاهرات وستشكل ضاغطاً أكبر على النظام والمعارضة برفع السقف وسيصبح الحوار تفاوضاً على انتقال السلطة، وعلى المعارضة أن تدرس بجدية هذا الخيار وإن كان احتمال حصوله ضعيفاً

سابعاً : منطقة الفراغ في القرار يمكن تلخيصها بالنقاط التالية :

· بالنسبة لسحب الجيش فيمكن للنظام أن يستبدلهم بشبيحة مدنيين أو عسكريين بثياب مدنية وسوف يبقي العصابات المسلحة التي هو وراءها ليثبت روايته للعالم فما لم توجد آلية فاعلة في التحقيق بالكشف عن الجهة الحقيقية التي تكون وراء العصابات فسوف يراوغ النظام في هذه النقطة كثيراً ولعله سيتعرض إلى أولئك المراسلين ومندوبي القنوات والمراقبين بالاعتداء على يد العصابات المسلحة أو يحد من حركتهم بدعوى عدم مسؤوليته عن حمايتهم، ولا أظن الجامعة ستغفل عن هذا

· وبالنسبة للمفرج عنهم فقد ذكر إعلام النظام أنه لن يفرج عن الذين رفعوا السلاح في وجه النظام وبالتالي سوف يبقى النظام هو الخصم والحكم ولا يوجد ضمانة لأي شخص وسياسة النظام أنه يطلق سراح البعض ويعتقل غيرهم

· وماذا عن المفقودين والذين ماتوا تحت التعذيب والمقابر الجماعية وما حدث من جرائم أثناء اقتحام المدن فكان من الواجب على المبادرة ألا تغفل لجان التحقيق لأنه سوف يبقى من يبحث عن ذويه

· مسألة الضمانات، لا يوجد ضمانات لكن هناك ضمانة وحيدة وذلك معرفة النظام أنه في حالة المراوغة والتلاعب سوف يسحب هذا الطوق منه وسوف يترك لمهب الريح نهباً للتدخلات الخارجية وإلا فما الذي حمله على قبوله المذل لها، والجامعة لن تفعل شيئاً سوى أن تقول إن الجامعة العربية فشلت في إقناع النظام ولم تستطع أن تؤمن الحماية للشعب السوري، وعند ذلك ستصمت الأصوات التي تدافع عن النظام في الجامعة العربية وستدول القضية

وأخيراً خيارات النظام محدودة وهامش المناورة يضيق يوماً بعد يوم ولن يتمكن من الإفلات هذه المرة ولو أراها (شمشونية) على مبدأ (عليّ وعلى أعدائي) فسوف تكون عليه وحده، وكل المؤشرات والقرائن والنماذج المعاصرة تدل على ذلك، وما نظام القذافي عنه ببعيد، ولنتذكر دائما قول الحكيم (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا).