كيف يمكن إطفاء نيران "التمييز العنصري"؟

بعد اشتعال ضواحي "باريس، وسيدنى، ولندن"،

ومذبحة "أوسلو":

كيف يمكن إطفاء نيران "التمييز العنصري"؟

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

[email protected]

إثر قتل الشرطة البريطانية في منطقة "توتنهام" للمواطن (المشتبه به) "مارك دوغان" ذوو البشرة السوداء أشتعلت لندن وضواحيها كما أشتعلت من قبل باريس وسيدني. يأتي هذا عقب تلك المذبحة التي قام بها النرويجي (اندروس برايفيك ــ 32 سنة)الذي قتل ٨٦ شخصا من بنى جلدته فى 22 يوليو الماضى.

منذ ستينيات القرن المنصرم (1968م)، حيث كانت أحداث الطلبة الشهيرة في فرنسا، لم تشهد "باريس" أحداثاً مماثلة .. عاصفة ومحزنة ومؤسفة.. كالتي شهدتها خلال نوفمبر العام 2005م، والتي تابعها العالم كله عبر وسائل الإعلام.. حرائق سيارات، تخريب بلديات، اعتداء على مدارس ومحال إعمال..الخ ،.. ترى ما الدوافع التي وقفت خلف هذه الأحداث الأليمة في بلد:"الحرية والعدالة والمساواة" ؟، وهل هي ردود أفعال على ثقافة الإقصاء والتهميش والتمييز العنصري؟ وكيف يمكن معالجة هذه المشاكل الكبيرة وإطفاء نيرانها كي لا تتكرر أمثالها؟، وهل في  رسالة الإسلام الحضارية والعالمية نموذج يُهتدي به في معالجة مثل هذه الأحداث؟. تلك الأسئلة ـ وغيرهاـ تلح في طلب الإجابة عنها، في وقت سقطت فيه الحدود والسدود، وتشابكت المصالح والمفاسد على حدٍ سواء، فترى الجميع يسعون  للتشارك ـ إنسانياًـ لإيجاد حلول للأزمات التي قد لا تدع أخضراً ولا يابساً.

بداية لقد تم تبرئة الدوافع الدينية، إذ ليس ثمة بواعث دينية محضة خلف أحداث "الضواحي" الفرنسية والشواطئ الأسترالية، والتي يقطنها أغلبية من أصول مهاجرة. فلقد اعترفت الحكومة الفرنسية بتجاهلها وإهمالها لمشاكل " الضواحي" حتى تفاقمت إلى هذا الحد، فالأحداث أشعلتها توالى حوادث قضى فيها عديد من الأسر المهاجرة نحبها حرقاً بسبب اشتعال النيران (ليلاً) في منازلها "الواهية والمكتظة"، وفجرها موت شابين من أصول عربية وإفريقية صعقاً بعد ملاحقتهما، هؤلاء الشباب الذين جاء آبائهم ـ ومازال غيرهم كثير تغرق بهم القوارب بصفة شبه يومية، فيموتون بالعشرات على شواطئ إيطاليا وأسبانيا وغيرهما ـ سعياً خلف" لقمة العيش التي ندرت في بلادهم الأصلية"، هؤلاء الشباب:" يطاردهم شبح أصولهم المغاربية والأفريقية اللبنانية مما يحول دون كامل اندماجهم في مجتمعاتهم التي ولدوا فيها ويجعلهم مُهمشين وإن نالوا أقساطاً من التعليم المتميز، فليس ثمة مجال للعمل مما يجعل البطالة/ الفقر أمرا حتمياً ومكرساً بينهم".

وهاهي شرطة مكافحة الشغب البريطانية تشتبك ـ خلال عدة أيام من يوم السبت 6/8 ـ  مع مع عدد من الشبان في لندن، في أسوأ اعمال شغب تشهدها العاصمة البريطانية منذ سنوات، ما اضطر رئيس الوزراء لقطع اجازته والعودة لترؤس اجتماعات ازمة. وامتدت أحداث العنف الى مناطق جديدة، كما أفادت الأنباء باندلاع أعمال شغب في مدينتي ليفربول وبرمنغهام، يأتي ذلك بعد ساعات من فتح الشرطة تحقيقات في الأحداث كمحاولة لتطويقها. وقتل ثلاثة أشخاص "كانوا يقومون بحماية منطقتهم" دهساً بسيارة، وانتشرت أعمال الشغب والنهب والحرائق، واشتعلت النيران في بعض المتاجر الكبرى، وأحرقت سيارات بينما قام شباب ملثمون بقطع الطرق في بعض المناطق مستخدمين صناديق القمامة. وقال رئيس شرطة لندن "تيم غودوين" من امام مقر سكوتلاند يارد "هناك اضطرابات كبيرة في عدد من الاحياء في انحاء لندن".

وفي هاكني - وهي منطقة متعددة الاعراق في شرق لندن قريبة من مقر الالعاب الاولمبية التي تقام العام القادم- أضرم شبان ملثمون النار في صناديق القمامة ودفعوها في اتجاه الشرطة والقوا الزجاجات والحجارة. وفي منطقة إيلينج غربي لندن وقعت أعمال سلب وتحطيم متاجر بينما اشتعلت النيران في عدة مبان. وفي بيكهام المجاورة، المنطقة الفقيرة، اظهرت صور التلفزيون اشتعال النار في مبان تجارية، ويخشى من انتشار الحريق الى مبان مجاورة. كما انتشرت اعمال الشغب في منطقة كرويدون في جنوب لندن حيث اشعلت النار فى مبنى تجاري ضخم.

 وقامت السلطات البريطانية بنشر 1700 شرطي إضافي لمواجهة اعمال الشغب ومحاولة وقف عمليات النهب بينما استمرت حملات الاعتقال. واجتمعت وزيرة الداخلية البريطانية "تيريزا ماي" بكبار قادة الشرطة.
وقد القي القبض على أكثر من 225 شخصا كما جرح العشرات.

عنصرية "أندروس"

وتأتي الأفكار العنصرية للإرهابي النرويجي القاتل (اندروس برايفيك ــ 32 سنة) وتعلقه يالصهيونية وتأييده اسرائيل في إضطهادها للفسلطينين والتى سجلها فى بيان من 1500 صفحة أوردها على موقعه الإلكتروني. جاءت حافلة بمشاعر البُغض ضد المسلمين بوجه أخص، وضد الحكومات الغربية التى تسمح باستقبالهم واستمرارهم على أراضيها.

جذور التمييز العنصري

لقد كان "مشركو العرب" يدّعون أنهم "أهل الله " لسكناهم مكة، ومجاورتهم للبيت، وقيامهم على خدمة الحجيج، فكانوا يستكبرون بذلك على غيرهم:" اجعلتم سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدى القوم الظالمين"(التوبة: 19)، ويقول تعالى:" قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامراً تهجرون"(المؤمنون: 66ـ67)، فشعوب تستند في تعاملها على أنها"شعب الله المختار":" وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإليه المصير"(المائدة:18) وشعورها بنقاء العرق المميز والمتميز، فتظهر فيها النازية (التي ادعت أنه إذا كان هناك من إله فليكن ألمانياً، أو أن الإنسانية ليست بحاجة إلى آلهة،"فالإنسان يقوم وحده"، وتلك النماذج من الصور التي تشخص مريم البتول في صورة بيضاء، بينما يصورها السود ـ في إطار رد الفعل ـ على أنها مثلهم في لون بشرتهم). كما تستند ـ في خياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى الداروينية وفقاً للتصارع لتحقيق مصالح الأقوى (الغربي) دون الأضعف، والأبيض دون الأسود، والغنى دون الفقير. وتراها تكرس العنصرية والاستعلاء والإقصاء وعدم المساواة، وتبرر الإمبريالية التي تستعمر الشعوب البربرية/ المتخلفة، وتسعى لأبادتها حرصاً على حياتها، وخوفاً من رعب الندرة الاقتصادية.

ولقد تجدد الشأن ـ بعد أحداث سبتمبر 2001م،  وظهرت مشاكل الأقليات المهاجرة والمسلمة في أمريكا وأوربا بصعود ما يسمى" اليمين المتطرف، والنازيون الجدد، وحليقي الرأس الخ"، فبدا عدم القبول بالاندماج الكامل لهم، ومحاولات التحرش بهم، وتطهير المجتمعات منهم، لتحتفظ بنقائها العرقي والثقافي (كما حدث في البوسنة والهرسك، وكوسوفا)، كما تم تكريس الانقسام العرقي والطائفي في جنوب السودان ودارفور والعراق. فكيف يمكن معالجة هذه المعضلة الكبيرة، وهل في  رسالة الإسلام الحضارية والعالمية نموذج يُهتدي به في معالجة مثل هذه المشاكل؟

رسالة الإسلام الحضارية تطفئ نيران "التمييز العنصري"

المواثيق الدولية ـ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948م ـ نصت فقط على ضرورة صيانة حقوق الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه، لكن دون وضع الوسائل الكفيلة بضمان ذلك، لكن إنسانية الشريعة الإسلامية تُحق الحقوق للناس كافة، وهذا التوجه ينبني على أن طبائع البشر وسنة الوجود التي أرادها الله تعالى اقتضت التنوع والتعدد:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، ألا من رحم ربك ولذلك خلقهم.."(هود: 118- 119).

وهي تعترف بالتنوع المنبثق من التوحد، وتقدم أنموذج الآصرة الإنسانية الواحدة:" كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونُن أهون عند الله تعالى من الجعلان"(رواه أبو بكر البزار في مسنده من حديث حذيفة)، وكذلك الأسرة الروحية الواحدة التي تؤمن بجميع الكتب والأنبياء دون تفريق بين أحد منهم:"قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أًنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أُوتى عيسى وموسى، وما أُوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون"(البقرة:136).

فرسالة الإسلام"وفى لبها القرآن لا تصلح لأن تكون محلاً للسؤال عن العلاقة بينها وبين الشرائع السماوية السابقة،إذ لا يُسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فالإسلام ليس اسماً لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك بين الأنبياء جميعاً، فكلهم أمروا بإسلام الوجه لله، فهاهنا وحدة لا انقسام لها (د. عبد الله دراز: بحث عن موقف الإسلام من الأديان الأخرى اُعد لإلقائه في الندوة العالمية عن الأديان بباكستان يناير 1958م  وملحق بكتابه:"الدين.. بحوث ممهدة"،  وملحق مجلة الأزهر: بحوث إسلامية، صفر: 1426، ص 21).

إن رسالة الإسلام محت وتمحو ما بين الإنسانية من فوراق الأجناس والأنساب والألوان واللغات (سلمان منا آل البيت)، لتجمع بينهم في أمة اصلها واحد، ففي خطبة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد كلكم لأدم وآدم من تراب"،  فلا فضل لأحد يتعالى به وباستحقاقه ما ليس له على حساب الآخرين، إلا بالمعيار الأساس: التقوى والعمل الصالح، وهما أعمال كسبية يتسابق فيهما الناس جميعا لمرضاة لربهم، وخدمة لمجتمعاتهم التي يعيشون فيها، وإنسانيتهم التي ينتمون إليها:"يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"(الحجرات:13). لذا لم تنعم عرقيات وإثنيات عبر التاريخ بحقوقها المتعددة كما نعمت ضمن منظومة الحضارة الإسلامية.

إن مقاصد شريعة الإسلام هي حفظ ضرورات الناس، التي لا يصلح الأمر إلا بها وبما يلزمها من حقوق وواجبات، وإذا ما أنتقص حق فرد فللعدالة دورها:"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"(النساء: 58)، وللتقاضى والمساواة الكاملة للكافة أمام القضاء تاريخها الساطع:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"(المائدة: 8). ومن عدالة رسالة الإسلام في إطفائها لنيران التمييز العنصري توجهها نحو التنمية الحقيقية (بشرية ومادية)، وعدالة توزيع الثروات، ومنع استغلال موارد الدول الفقيرة، والحث على العمل الشريف:" من أبطا به عمله لم يسرع به نسبه"(من حديث رواه مسلم)، عبر سياسات اقتصادية جادة، تحقق المواطنة وتقلل من الهجرة وأو التهجير. بهذا تهتدي الإنسانية بالتجربة الحضارية الأعدل من كل ما توصل إليه العقل البشرى، حيث التحرر الحقيقي وحقوق الإنسان:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

صفوة القول: إن البشرية اليوم، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها وتجمعاتها، في حاجة ماسة لهدى رسالة الإسلام الرشيدة لتستطيع أن تجد حلاً جذرياً لمشكلاتها، وتدير بنجاح أزماتها المتعددة، وبخاصة التمييز العنصري. كما لن تتنسم البشرية هذه الهداية إلا إذا نهض بها أولا أهلها وقدموها للبشرية.. قدوة وأنموذجا.