ميدان التحرير ومنطق: فيها لاخفيها

حسام مقلد *

[email protected]

يعرف الجميع أن للثورة المصرية أعداء كثر داخليا وإقليميا ودوليا ممن تصطدم مصالحهم مع مشروع النهضة المصري، وليس هذا بغريب على السياسة فتصادم المصالح هو الأصل بين الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعات والأمم المختلفة، ولكن الدول المتحضرة تسعى للوصول إلى نوع من التوافق ولو على الحد الأدنى من المصالح المشتركة لتوفير مناخ من السلام والاستقرار والتعاون المشترك، وهذا ما حدث في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة أكثر من خمسة وعشرين مليون قتيل عسكري وعشرات الملايين من القتلى المدنيين ودمرت الكثير من الدول الأوربية، ورغم ذلك تخلصت هذه الدول من العداء التاريخي بينها ودخلت في الاتحاد الأوربي لتحقق حياة أفضل وأكثر استقرارا وازدهارا وأمنا للإنسان الأوربي.

وبكل صراحة ووضوح أقول: أمر بدهي أن يقع المجلس العسكري ووزارة الدكتور عصام شرف تحت ضغط رهيب من الداخل والخارج، فبعيدا عن العواطف وعبارات الإشادة بالثورة المصرية والشعب المصري التي شنف بها أسماعنا الكثير من قادة دول العالم وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي أوباما إلا أن هذه الدول لها مصالح إستراتيجية في المنطقة العربية وفي مصر بالتحديد، وقد قدمت الولايات المتحدة لمصر نحو ستين مليار دولار كمساعدات طوال العقود الماضية بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، والإدارة الأمريكية ليست جمعية خيرية بل تعتبر هذه المليارات استثمارا سياسيا لاحتواء مصر وتقليم أظافرها ونزع إرادتها الوطنية لتبقى رهنا بالمواقف الأمريكية والإسرائيلية، ولو كان على حساب أشقائها العرب بل حتى لو كان أحيانا على حساب المصالح المصرية المباشرة والأمن القومي المصري، وهو ما رأيناه في موقف نظام مبارك من العدوان الإسرائيلي على غزة وموقفه من أزمات السودان المتعاقبة، ومن ماء النيل وغيرها من القضايا شديدة الحيوية لمصر وأمنها المصري.

بالمثل هناك مصالح إقليمية لدول في المنطقة لا تريد أن تؤثر ثورة 25 يناير الشعبية  المصرية على أوضاعها الداخلية، فلو نجحت هذه الثورة في إنجاز مشروع نهضة شاملة وتنمية مستدامة وقطف الشعب المصري ثمارها قريبا فيعد ذلك من وجهة نظر بعض الساسة في هذه الدول تهديدا قويا وضغطا معنويا كبيرا على أنظمتها السياسية؛ إذ ستطالب شعوبها بالاستمتاع بنفس القدر من الحرية والديمقراطية التي نالها الشعب المصري وحقق في ظلها معدلات كبيرة من النمو والعدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي.

وغني عن القول إن هناك الكثيرين ممن كانوا يستفيدون من نظام مبارك سواء على المستوى الاقتصادي أو الهيكل الإداري في البيروقراطية المصرية، وبعضهم كان يتمتع بدرجات عالية من النفوذ والسلطة والثروة، وبلغ بهم الأمر مبلغا عظيما من الطغيان والجبروت واستغلال النفوذ وإهدار كرامة الغالبية الساحقة من المصريين، وفي مقدمة هؤلاء رجال الأعمال الذين كبروا وترعرعوا في حجر مبارك، وكبار المسئولين في وزارة الداخلية الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ولا يتصور عاقل أن يتخلى هؤلاء هكذا وبكل بساطة عن هذه الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها دون وجه حق، وطبيعي أن تُسْحَب منهم في ظل الثورة التي تسعى إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية في المجتمع، وبالتالي فالمتوقع أن يدخل هؤلاء في معارك حقيقية من أجل الحفاظ على مصالحهم، ويقاوموا بكل شراسة  كل عمليات الإصلاح التي تسعى الثورة إلى إنجازها في مصر على وجه السرعة ليلمسها المواطن المصري في أقرب وقت ممكن.

لكن ما حدث أنه مر على الثورة  أكثر من خمسة أشهر ولا زالت البلد تدار بنفس العقلية والمنهجية التي كانت موجودة في عهد مبارك، بل إن نحو نصف أعضاء مجلس الوزراء هم من أعضاء لجنة السياسات في عهد مبارك، وبالتالي فحكومة الثورة المصرية هي نسخة معدلة من حكومة مبارك، حتى إن الضباط المتهمين بقتل الثوار لا يزالون يمارسون أعمالهم في وزارة الداخلية وبعضهم رقي إلى مناصب أعلى، وبعضهم نال حكما بالبراءة في السويس!!

وبدلا من التفكير الجدي في إنقاذ وتحسين اقتصاد مصر المتداعي وإنهاء الاستحقاقات السياسية وفق الإعلان الدستوري ووضع خارطة طريق محددة لإعادة بناء مصر بناء حضاريا شاملا ـ بدلا من التفكير في ذلك واستثمار الطاقات والعقول المصرية في هذا الاتجاه اخترع بعض من يسمون أنفسهم بالنخب فكرة (الدستور أولا)  وتم جرجرة القوى السياسية لنزاع مبكر على كعكة السلطة، فالبعض خائف ومتوجس من الإسلاميين؛ وبالتالي راح يشوههم ويشوشر عليهم ويدعي أنهم سينفردون بوضع الدستور المصري، ولم تنفع أية ضمانات قدمها الإسلاميون، بل استثمر الليبراليون  قلة الخبرة السياسية عند فصيل من الإسلاميين وراحوا يورطونهم في قضايا افتراضية أو يستدرجونهم للوقوع في أخطاء شكلية وإجرائية بغية استنزاف طاقاتهم وتشتيت قواهم بعيدا عن القضايا الجوهرية التي تهم مصر في المرحلة الحالية.

وفي ظل كل هذه الأحداث والتفاعلات والمعارك السياسية ومع مرور الوقت وجدت قطاعات كبيرة من الشباب الأمر أشبه بمسرحية كبيرة، وأنه يجري محاولة منظمة لإعادة إنتاج نفس نموذج مبارك السابق في صورة جديدة وبوجوه جديدة  لكن العقلية الحاكمة هي ذاتها  العقلية القديمة بنفس الفلسفة ونفس المنهجية!!

وهنا وجدت غالبية الشعب المصري ومعها القوى السياسية المؤثرة نفسها مدفوعة لتجديد زخم الثورة وضخ جرعات كبيرة من الطاقة الثورية في المجتمع من خلال العودة إلى ميدان التحرير واستغلاله كوسيلة للضغط على من بيدهم الأمر في البلاد، وهكذا نشأت فكرة مليونية 8 يوليو وتحملت مئات الآلاف من الناس حرارة الشمس الشديدة ونزلوا إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين في عدة مدن مصرية، ونجحت الفعالية وشكلت ضغطا هائلا أسفر عن نتائج عملية كبيرة، لكن ذلك من جانب آخر عزز الإحساس لدى الجماهير بأنها لن تحصل على أية مكتسبات حقيقية دون ضغط على المجلس العسكري الحاكم.

وبالفعل كانت هناك إجراءات بسيطة كان بالإمكان اتخاذها والتسريع فيها لإيجاد جو من الثقة المتبادلة وتوفير الزخم الثوري الدائم الذي يطمئن الجماهير على ثورتها ويقنعها بأن الأمور تسير في وجهتها الصحيحة وفق الخطة المرسومة لها، لكن غاب ذلك الإحساس عن الناس بسبب غياب الرؤية، وتم سحب الجماهير إلى دهاليز الجدل والخلاف على الدستور أولا أم الانتخابات أولا، وحتى رغم تأكيد المجلس العسكري على السير وفق الخطة المرسومة وإنجاز التحول الديمقراطي بالشكل المتفق عليه وإجراء الانتخابات في موعدها المحدد رغم ذلك لا يلمس الناس حقائق محددة تؤكد السير في هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال لم يصدر قانون الانتخابات ومباشرة الحقوق السياسية الذي سينظم الانتخابات البرلمانية القادمة بعد شهرين، بل لم يحدد حتى الآن موعد أو تاريخ معين ستجرى الانتخابات فيه، وكل شيء يوحي للشباب بالتباطؤ والتراخي وعدم الجدية أو عدم الرغبة في سرعة الإنجاز!

كل هذا دفع الناس للنزول للتحرير مجددا لكن بكل أسف دخلت على الخط مجموعات من المتظاهرين لها أجنداتها الخاصة فراحت تشوه رمزية ميدان التحرير بارتكابها لأعمال عنف أو تعطيل لمصالح المواطنين كإغلاق مجمع التحرير أمام آلاف الموظفين والمراجعين كل يوم، ومعروف أن مجمع التحرير هو عصب الدولة الإداري ويرتبط به مصالح مئات الآلاف من الناس كل يوم، بل حدث في السويس ما هو أبشع من ذلك حيث تَنَادَى بعض المتظاهرين للاعتصام أمام المجرى الملاحي لقناة السويس لتعطيل سير الملاحة فيها!! ولا أدري من هو هذا الشرير الذي تفتق ذهنه عن هذه الخطة الجهنمية التي من شأنها توجيه ضربة قوية ومباشرة للاقتصاد المصري الذي يعاني أساسا من أزمات كبيرة منذ بداية العام؟!! ولا أعلم كيف يعتبر نفسه ثائرا وطنيا مصريا كل من تسول له نفسه الإضرار بمصر وباقتصاد مصر وبسمعة مصر بهذه الأعمال التخريبية التي أقل ما توصف به أنها أعمال فوضوية همجية لا يمكن أن يقدم عليها إلا حاقد على مصر وشعبها؟!!

صحيح أن القائمين على البلاد تباطؤوا أو تلكؤوا بعض الشيء في إنجاز أمور بسيطة والقيام بمهام يسيرة كان من شأنها تعزيز الثقة لدى الجماهير، لكن الأصح من هذا أن المجلس العسكري يحتضن بإخلاص الثورة المصرية، ويحاول إنجاز مهمته على أفضل وجه من الكفاءة والجودة وتسليم الدولة لإدارة مدنية منتخبة بطريقة شرعية ديمقراطية، لكننا بشر ومجبولون على النقص ولا يمكن توقع إصلاح تركة ثلاثين عاما من الفساد المالي والإداري والمؤسسي في كافة قطاعات الدولة ومفاصلها بين عشية وضحاها!!

ويجب علينا أن نتعلم فن الاختلاف ونتدرب على ثقافة الديمقراطية الحقيقية، وأن نقدر كل شيء بقَدَرِه، ونتعامل مع كل موضوع بحجمه الطبيعي ونضعه فيه دون تهويل أو تهوين، ولا بد أن نتعلم ضبط النفس وننسى بعض الأفكار الصبيانية الصغيرة فلا يوجد في السياسة ولا في حياة الأمم فكرة تحقيق المطالب بصورة فورية وإلا...، حتى في أرسخ الأنظمة الديمقراطية هناك آلية ومنهجية للتظاهر وعرض مطالب المتظاهرين والاستجابة لها، وإلا لتحولت الحياة إلى ساحة كبيرة تعج بالفوضى وتضج بالتسيب والانقسام والاضطراب، وما أجدرنا ونحن نؤسس لمجتمع ديمقراطي ناهض أن نتخلى عن فكرة ( فيها لاخفيها) فأصحاب هذا المنهج هم أخطر شيء على مشروع النهضة المصري الذي نسعى جميعا لإنجازه!!

                

 * كاتب إسلامي مصري