لماذا لم يفعلوا؟

مجاهد مأمون ديرانية

الثورة السورية: عِبَر وفِكَر (1)

مجاهد مأمون ديرانية

أنا ما كنت لأقدّم للنظام نصيحة تطيل عمره. لا؛ لا تبلغ بي الغفلة أن أصنع ذلك، لكني الآن سأصنع، وما أنا إلا كالأستاذ الذي يكشف أجوبة الأسئلة للطلاب، ولكن بعد انتهاء الامتحان وسحب الأوراق.

النظام كان يستطيع سحب فتيل الأزمة بسهولة كبيرة لو أنه أبدى بعض المرونة وقليلاً من التنازل والتجاوب في أولها، لو أنه -مثلاً- أعلن وقفاً فورياً لحالة الطوارئ وعفواً كاملاً عن جميع المساجين السياسيين ومعتقَلي الرأي. وماذا كان يضرّه لو عاد إلى أهاليهم عشرةُ آلاف من الأسرى الذين قضوا في السجون ثلاثين عاماً؟ لا يُظَنّ أن يسبّب هؤلاء له مشكلة، فقد حطم السجن الطويل نفوسَهم ويحتاجون إلى سنوات لإعادة بنائها، إنما الخطر من الشبان الذين يملؤون الشوارع، وهؤلاء كان يمكن أن يُخدَعوا (أو يُخدَع كثير منهم) بإصلاحات ظاهرية من هذا النوع ويعودوا إلى البيوت.

كان يمكن أن تجمع أنيسة أولادها وتقول لهم: إن كل ما بناه أبوكم في ثلث قرن تعصف به الريح ويكاد يطير، وعائلتنا أَولى بالبقاء من غيرها من الطائفة والأقرباء والأتباع، فهيا أسرعوا بتقديم بعض القرابين، وليذهب الكل إلى الجحيم إذا كان هذا يبقينا في أمان. هيا يا ولدي يا بشار، أسرع بمحاكمة عاطف محاكمة علنية وألقِه في السجن، وجرِّدْ رامي من المال الذي سرقناه من الشعب وأعده إلى خزينة الدولة، واعزل كل من فاحت رائحته من الفاسدين أو ارمهم في السجون، ولا بأس في أن تعلق بعض كبار اللصوص (الذين ربيناهم على أعيننا خلال السنوات الماضية واستفدنا من خدماتهم) علقهم على الأعواد في ساحة المرجة... لا يهم، هؤلاء عبيد يمكننا أن نشتري غيرهم بعد انحسار الأزمة، وعندها سنكون في أمان فنُخرج أقرباءنا وموالينا من الحُبوس ونسترجع ما فقدنا من أموال، كل ذلك بتدرّج وخفاء بعدما نكون قد كسبنا الوقت وتفرغنا لهؤلاء الثائرين، ففتكنا بهم وألقينا خمسين ألفاً منهم وراء الشمس كما صنع أبوك منذ ثلاثين سنة.

ولماذا لم يفعلوا؟ لن أقول إن هؤلاء القوم مغفلون، ولو قلت ذلك لهجوت قومي، وإلا فكيف تنجح ثلة من المعتوهين في حكم شعب من العقلاء كلَّ هذه السنين ويسكتون؟ لا؛ بل هم عباقرة في الشر والدهاء كإبليس، ولكن الله إذا أراد أن يقضي أمراً هيّأ أسبابه، وكما وصف ربنا تبارك وتعالى أمثالهم في كتابه العزيز: يختم على قلوبهم فلا يعقلون، ويضرب الغشاوة على أعينهم فلا يبصرون... أو كما يقول العوام عندنا "يتوّه الله رأيهم". وهذا ما كان، فلم يبصروا الحل وهو بين أيديهم، وقفزوا إلى أبعد وأسوأ حل ممكن لهذه الأزمة فبطشوا بالناس، فاعتقلوا وعذبوا وقتلوا، حتى النساء! حتى النساء يا جبناء؟ حتى النساء يا مغفلون؟ أما علمتم أن هذه الأمة لا يحركها شيء في الدنيا كما تحركها النخوة والمروءة، وأن النخوة لا تكون أشدَّ ما تكون إلا دفاعاً عن امرأة؟ فكيف بامرأة عزلاء تعتقلها الجماعة من أوباش الرجال من بين أظهر الناس وعلى أعينهم؟ كيف بالجماعة من النساء المسالمات يُقنَصنَ بالقنّاصات ويُرشَشْنَ بالرشاشات؟

ثم تعجبون من خروج سوريا كلها انتصاراً لحرائرها في جمعة الحرائر؟

*   *   *

لقد اعتقل النظام في أول الأمر أطفالاً ثم اعتقل بعض النساء، وطالبه الناس بالإفراج عن الأطفال وعن النساء فلم يفعل، ولو أنه فعل لَوَأد الثورة، والحمد لله أنه لم يفعل. ثم خرج الناس إلى الشوارع هاتفين ضد الفساد ورموز الفساد، ولو استجاب النظام يومها فحاصر الفساد وحاكم بعض الفاسدين لَوأد الثورة، والحمد لله أنه لم يفعل. ثم زاد غضب الناس وزادت أعدادهم في الشوارع لأن النظام بدأ بقتل المتظاهرين، ولو أنه حاورهم وسايرهم لوأد الثورة، والحمد لله أنه لم يفعل. ثم ظهر رأس النظام للناس وخاطبهم، ولو أنه احترمهم واعتذر لهم وترحّم على شهدائهم وقدم أي تنازل حقيقي فوري لوأد الثورة، والحمد لله أنه لم يفعل.

في كل يوم مَرَّ من أيام انتفاضة الأمة سنحت للنظام فرصةٌ لو أحسن استغلالها لَوَأد الثورة، لكنه لم يفعل قط، وكلما خشينا أن يعقل فيفعل ضَلَّ ففعل العكس وزاد النارَ ضِراماً، فالحمد لله الذي ختم على قلوب رؤوس النظام فباتوا لا يعقلون، وضرب الغشاوة على أعينهم وآذنهم فلا يسمعون ولا يبصرون، وتَوَّهَ آراءَهم فلم يحسنوا صنعاً ولا أصابوا في رأي قط، ولا نقول اليوم إلا: زادكم الله -يا قادة النظام- عَمَىً، وأبقاكم في الضلال سائرين.

لكن حتى لو وقعت معجزة من المعجزات فاسترجعتم ما فقدتم من عقول وأحسنتم الفعل فقد فاتت الفرصة. لقد انتهى وقت الامتحان وسُحبت الأوراق وأعلنت النتائج، وقال الشعب كلمته الفصل التي ما وراءها كلمة: الشعب يريد إسقاط النظام. ربما كان بوسعكم أن تخدعوا شعب سوريا قبل ستين يوماً، أما اليوم فلن يرضى الشعب بديلاً بسقوط النظام.