رسائل الثورة السورية المباركة (19)
رسائل الثورة السورية المباركة (19)
الانتصار الكبير
مجاهد مأمون ديرانية
مع نهاية هذا اليوم المجيد من أيام ثورة سوريا العظيمة، جمعة الحرائر، لا أملك إلا الاعتراف بأن ما جرى فيه كان أغرب من الخيال. أنا حقيقةً مدهوشٌ من حيوية وشجاعة شعب سوريا لدرجة أنني لم أستطع أن أمضي في كتابة هذه الرسالة حتى قطعتها فكتبت خاطرة في موضوعها، ثم عدت إليها من جديد!
حسناً، أين وصلنا في نهاية هذا اليوم؟ كثيرون من الذين قوّموا "جمعة الحرائر" قالوا إنها الأقوى منذ بدأت الانتفاضة، وأنا أوافقهم، فقد خرج الناس بأعداد كبيرة في مدن كثيرة، وزادت رقعة المظاهرات انتشاراً على الأرض بحيث سمعنا بأسماء جديدة لم تشارك في الثورة من قبل، وازدادت رسوخاً عادةٌ جميلة بدأت منذ عدة أسابيع وصارت أصلاً من أصول الثورة السورية في كل جمعة، وهي اجتماع القرى والبلدات الصغيرة في المدن القريبة منها. فاجتمع في هذه الجمعة أكثر من عشرين ألفاً من أبناء قرى حوران الشرقية في المسيفرة، وتدفق إلى معرة النعمان الآلافُ من القرى المحيطة بها، والآلاف ساروا إلى إدلب من قراها، وكذلك قرى دير الزور (الشحيل وهجين والطيانة والقورية). وكانت الأعداد التي خرجت إلى الشوارع في الطبقة والبوكمال والسلَمية أكثر من هائلة، وخرج أكثر أهل بلدة الضمير الصغيرة (غرب دوما) فاجتمع في مظاهرتها الحاشدة آلافُ الرجال والنساء والأطفال الذين لم يهتفوا بسقوط النظام فقط، بل طالبوا بإعدام النظام! أما حماة فما زالت تثير الدهشة، فقد خرج جِنُّها من القمقم فلن يعيدهم إليه أحدٌ بعد اليوم!
وكالعادة شارك إخوتنا الأكراد بالكثير وكانوا أول الخارجين إلى الشوارع (لأن مدنهم هي الأقرب إلى الشرق فتنتهي الجمعة عندهم قبل غيرهم) فخرجوا في القامشلي وعامودا والدرباسية ورأس العين وعين العرب والحسكة. كل مناطق سوريا شاركت أيضاً بشكل متميز، فبالإضافة إلى ما ذُكر آنفاً خرجت المظاهرات المشرّفة الحاشدة في الميادين وسرمين وبنش وكفرنبل وقلعة المضيق وطيبة الإمام وجسر الشغور والرستن والقصير، أما تلكلخ فقد شهدت مهرجانات صاخبة رُفعت فيها لافتات صارخة: "لا نحبك، ارحل يا سفاح"... إلخ، فدفعت الثمنَ اجتياحاً وقصفاً واعتقالات في اليوم التالي، يوم السبت الذي أكتب فيه هذه الكلمات.
وخرجت مظاهرات صاخبة في منبج وعفرين من قرى حلب، وفي حلب نفسها سارت عدة مظاهرات في الفردوس والحمدانية وصلاح الدين وسيف الدولة. وفي اللاذقية في منطقة الرمل الفلسطيني، بل حتى في بانياس المحاصَرة خرجت مظاهرةٌ من حارة البحر باتجاه جامع أبي بكر لدعم مظاهرة كانت ستخرج منه، لكنها فُرِّقت بعنف شديد. وخرجت مظاهرات ضخمة في القرى القريبة من حمص: الحولة وتلبيسة والغنطو وتيرمعلة، أما المفاجأة الكبرى فكانت حمص نفسها، فقد سارت فيها مظاهرات كبيرة في باب السباع وباب الدريب والغوطة والخالدية والوعر ودير بعلبة والبياضة والإنشاءات، وحتى في حي بابا عمرو الذي تلقى القدر الأكبر من الضغط والحصار... ولا أكتمكم أني كنت سأشك في صحة ما ورد من أخبار عن هذه المظاهرات لو لم أرَ تسجيلاتها المصوَّرة، وسوف أكرر ما قلته عنها أمس: هذه المظاهرات أقرب إلى الخيال وتفوق قدرة الإنسان على التصديق!
وليس أقلَّ غرابةً منها المظاهرةُ الصغيرة التي خرجت في درعا! نعم هي صغيرة بعددها، ولكنها -في ميزان البطولة والأثر- أعظم مظاهرات سوريا قاطبة، لأنها خرجت تحت النار وفي عين الخطر، حين أصرّ عدد من أبطال درعا على الخروج لصلاة الجمعة (وقد حُرموا الصلاةَ ثلاث جُمَع) فأقاموها في بعض الشوارع الفرعية وتظاهروا بعدها لبعض الوقت، ثم تظاهروا ليلاً بأعداد قليلة أيضاً. وقد سُجِّلَت حالة قتل واحدة على الأقل، حيث نُشر خبر استشهاد الحاج رزق أبازيد الذي قُتل برصاص الأمن عندما خرج لصلاة الجمعة من منزله في درعا البلد محاولاً التوجه إلى الجامع، بعدما ودّع أهله قائلاً إنه لم يعد يطيق صبراً ويريد أن يصلي في الجامع العمري ولو كلفه ذلك حياته. وقد كان... صدق الله فصدقه الله، فعليه رحمة الله.
ومع درعا الأسيرة أبلت حوران كلها في جمعة الحرائر أعظم البلاء، رغم الحصار ورغم الجراح، فكما علمتم اجتمع عدد كبير من قرى حوران الشرقية في المسيفرة في مهرجانات حافلة، وكذلك سارت المظاهرات في جاسم وإبطع ونوى وطفس والحارّة والطيبة وخربة غزالة وغباغب وشيخ مسكين، وفي غيرها من البلدات والقرى.
في دمشق سارت مظاهرات في الميدان والزاهرة الجديدة وباب توما وفي المهاجرين (الشمسية) على بعد كيلومتر واحد من بيت بشار الأسد! وفي قلب دمشق القديمة في العمارة والعقيبة (بالقرب من الجامع الأموي)، وفي حي برزة والقابون والحجر الأسود والقدم، وفي المعضمية العجيبة التي عانت من حصار خانق لأكثر من أسبوع، وما كاد يُرفَع عنها الحصار حتى عادت إلى التظاهر برجالها ونسائها، فعاد المعتدون إلى "غزوها" من جديد. وفي أطراف دمشق وريفها وغوطتها: في التل وداريّا وقطنا والكسوة والرحيبة وجديدة عرطوز، وأيضاً -ويا للغرابة- خرجت مظاهرة في دوما التي ما زالت محاصرة كحصار درعا من يوم حوصرت درعا. وكذلك في سقبا وحرستا اللتين حوصرتا وعانتا من التضييق والاعتقال الشديد لأكثر من أسبوع، وأيضاً في مضايا التي ما زالت هي والزبداني تحت الحصار منذ أسبوعين، خرجت فيها مظاهرة بعد صلاة الجمعة وحاولت التوجه إلى الزبداني فقُطع عليها الطريق وفُرِّقت بقوة، وظن عناصر النظام أنهم ارتاحوا حتى خرجت لهم مظاهرة من الزبداني نفسها في آخر الليل!
* * *
كما في كل جمعة أُطلق الرصاص على المتظاهرين في جمعة الحرائر وسقط شهداء في حمص ودمشق (القابون)، ولكنه كان أقل بكثير مما أُطلق في الجمعتين السابقتين وكان الضحايا أقلَّ أيضاً. مع ذلك كان ثمة رصاصة مهمة جداً وضحية كبيرة جداً، لكنها رصاصة أطلقها الشعب هذه المرة ولم يطلقها النظام، رصاصة الرحمة على الحملة العسكرية التي أثبتت فشلها ولفظت آخر أنفاسها! فإذا كان النظام قد جيّشَ جيشه وأطلق حملته على المدن لكبتها وقتل انتفاضتها فقد وصلته رسائلُ مزلزلةٌ من حمص ودرعا ودوما ومعضمية الشام، ورسائل أخرى من سقبا وحرستا ومضايا والزبداني وجاسم وإبطع وطفس والحارّة ونوى. وحينما يعيد النظام حساباته سيجد أنه قد ثوّرَ على نفسه العالم وفضح نفسه من أدنى الدنيا إلى أقصاها، ثم لم يربح شيئاً! فماذا سيفعل الآن؟
أولى بوادر الاعتراف بالفشل هي الإعلان المفاجئ عن الدعوة إلى حوار. لا تنسوا أبجديات العمل السياسي التي أعلنها النظام ورأس النظام غيرَ مرة: (1) إنه لا يحب العمل تحت الضغط، (2) وهو لا يحب التعجّل. والآن لنفحص هذه المبادرة المشبوهة: هل وُلدت على كرسيّ الاسترخاء أم تحت مطرقة ضغط الشارع؟ وهل تأنّى فيها على عادته (عشر سنوات للتفكير وعشر سنوات للتخطيط وعشر سنوات للتنفيذ) أم طبخها في ساعات بعد فشل الحملة العسكرية؟
ليست هذه المبادرة سوى انتكاسة جديدة للنظام، ولا نملك أن نقول فيها إلا ما قاله أشرف المقداد في مقالته القيّمة "ميشيل كيلو، لا تعجل علينا وأنظرنا..."، وأحسن فيها وأجاد، فلا صوتَ اليوم يعلو على صوت الثورة، ولا مفاوضَ اليوم باسم الثورة غير الرجال المنثورين في الشوارع، وهؤلاء لم يوافقوا على الالتقاء بكاهنة دمشق الشمطاء ولا بغيرها من رؤوس النظام الذي قتل منهم إلى اليوم ألفاً واعتقل وعذّب أحد عشر ألفاً من أشراف البلاد. الثوار في الشوارع خاطبوا أقوى حاسّتين وأفضلَ جهازَي استقبال يملكهما إنسان، فهتفوا بملء الحناجر "الشعب يريد إسقاط النظام" ليسمعها الذين لا يبصرون، ثم كتبوها على يافطاتهم بالخط العريض ليقرأها الذين لا يسمعون. وبعدها نقطة، وليس بعد النقطة سطر جديد كما يقولون، بل صفحة جديدة، بل فصل جديد في تاريخ سوريا بإذن الله.
* * *
من أين جاءت هذه المبادرة فجأة وما محلها من الإعراب؟
لعلكم تذكرون قولي في إحدى الرسائل السابقة إن الحكومة هي الحلقة الأضعف في نظام الحكم السوري وإن الأجهزة الأمنية هي الحلقة الأقوى، وبينهما مؤسسة الرئاسة (الرئيس ونائبه ومستشاروه غير الأمنيين). أنا أبني دراستي للأحداث الماضية وتوقعاتي للآتي منها على هذه الفرضية، فإذا كانت صحيحة فإن استنتاجاتي ستكون صحيحة، وإذا كانت غير صحيحة فسوف تكون استنتاجاتي غير صحيحة كذلك. بناء على هذه النظرة يمكن أن تكون المبادرة المزعومة فرصة منحتها القيادات الأمنية للرئاسة لحل الأزمة سياسياً، وفي هذه الحالة سيبقى المطبخ الأمني شغّالاً بطاقته القصوى ومستعداً للتدخل الفوري في أي مرحلة لاحقة، وغالباً لن تسمح له عقيدته الأمنية بالبقاء على الحياد خلال أي فترة لأنه يخشى أن تفلت من يديه الأمور لو أرخى القبضة الأمنية ولو قليلاً.
على أن المبادرة اليائسة للحوار ليست سوى محاولة فاشلة، فهي مبادرةٌ سُقْط وُلدت ميتة لا حياة فيها، وسوف تكون محرقة وطنية لكل من يشارك فيها ممّن يسمون أنفسَهم شخصيات معارضة، وهي ستتلاشى سريعاً بحيث لن نسمع لها أي ذكر بعد أسبوع. من بعدها ربما يحاول النظام أن يستجدي هدوء الشارع بخطوات سياسية مشابهة، وقد يقدم -مضطراً- بعض التنازلات الشكلية، لكن المؤكد أن ذلك كله صار وراء ظهر الثائرين على الأرض، وكلما قدم النظام تنازلات جديدة سيزيد نار الانتفاضة اشتعالاً، وسيكسب قادة الأجهزة الأمنية مزيداً من المبررات ومزيداً من الدافع لتصعيد العنف، معتبرين أن أي حل سياسي لن يفيد ولا نهاية للأزمة إلا بالقضاء العنيف على الانتفاضة.
إذن فإن أي مبادرات سياسية يقدمها النظام لحل الأزمة لن تكون إلا تحت المظلة الأمنية وضمن حدود ضيقة جداً أهم شروطها أن لا تضحي بأي مقدار -ولو قليل- من سيطرة وسطوة الأجهزة الأمنية الحاكمة، ومن ثَم فلا أمل في أن تحقق أي مبادرة من هذا النوع حلاً حقيقياً، ولا بد أن تبقى الثورة في اشتعال بإذن الله وصولاً إلى نقطة الحسم النهائية.
هذا الكلام مُطَمئن من ناحية لأنه يزيل المخاوف من إجهاض الثورة لا سمح الله، ولكنه -من الناحية الأخرى- لا يخلو من توقع أيام مقبلة صعبة لا بد من احتمالها للوصول إلى الهدف النهائي الذي لن ترضى الثورة عنه بديلاً إن شاء الله، وهو إسقاط النظام (وليس فقط إسقاط الرئيس)، ودعاؤنا إلى الله وابتهالنا أن نصل إلى تلك النقطة بأقصر زمن وأقل تضحيات، والله المستعان... لكن تذكروا دائماً أن كل يوم يمر على الثورة وهي في اشتعال يسجَّل كسباً لها وخسارة للنظام، وأن الوقت في صالحنا ونحن الكاسبون على الدوام بإذن الله وهم الخاسرون، ولعلي أعود إلى التأكيد على هذه المعاني المهمة في الرسالة القادمة.