سورية بعد الأربعاء الدامي في "درعا"

سورية بعد الأربعاء الدامي في "درعا"..

هي غير سورية التي كانت قبله"!

الطاهر إبراهيم *

أحداث جمعة "العزة" في سورية في25 آذار ذهب فيها المعلقون مذاهب شتى في التنظير لما حدث في سورية بشكل عام وفي درعا وبلدة الصنمين على وجه الخصوص. أدلى المراقبون كل بدلوه عما ينبغي أن يكون عليه الحل الناجع للخروج من الأزمة التي ضربت سورية من نهر الخابور في أقصى الشمال الشرقي، إلى درعا في جنوب غرب سورية.

لفت انتباهي أن هناك من حاول تبرئة الرئيس السوري "بشار أسد" من المسئولية عما حدث، بأن حاول إلقاء التبعة على فريق استئصالي في النظام وعلى الأجهزة الأمنية التي "أخذت حريتها" الكاملة بإطلاق الرصاص الحي على كل من هب ودب. ليس المهم والمفيد القول أن الرئيس هو الذي أمر أو هو الذي يستطيع أن ينهي. لأن الأمور لم تعد تحسب بهذا الشكل، وأن الدماء التي أهريقت لها حرمتها التي تفرض حسابات أخرى.

النظام السوري الحالي، كمعظم جمهوريات الأمر الواقع العربية، لم يصل إلى الحكم بطريق الانتخاب الحر النزيه، وإنما جاء بشريعة الأمر الواقع. بعض الأنظمة التي جاءت بشريعة الأمر الواقع، استطاعت أن تتكيف –ولو جزئيا- مع مصلحة شعبها فقامت بإصلاحات، وإن لم تكن كاملة، فرضي الشعب هذه الإصلاحات ولو على "مضض"، على أمل أن تتحسن الأحوال أكثر فيما بعد، لأن البديل هو الاحتراب الداخلي.

أما في سورية، وخصوصا في عهد "حافظ أسد" فقد كانت أحوال الشعب تسوء أكثر فأكثر، على الأخص في ثمانينات القرن العشرين حيث تم قمع الشعب، كما تم إفقاره عن عمد. كان على معظم أفراد الشعب إن لم نقل كله، اعتقال ألسنتهم في أفواههم، وأن يفرضوا عليها حصارا، فلا يتكلم الواحد إلا بأمور معيشته، بعيدا عن أي تذمر، خوفا من سوء العاقبة.

على أنه لم تتحسن الأمور كثيرا في عهد الرئيس "بشار أسد" عنها في عهد أبيه "حافظ أسد" إلا بالقدر الذي  يعبر عنه المثل السوري "العمش* أهون من العمى". ما يعني أن المواطن السوري كان يمشي "الحيط الحيط ويقول يا رب الستر".

الاستراتيجيون يعتقدون أن "محمدالبوعزيزي" من بلدة "سيدي بو زيد" الصغيرة عندما أحرق نفسه إنما كان "القشة التي قصمت ظهر البعير". لم يكن ذلك منه احتجاجا-وهو كذلك- وإنما كان ذلك منه ردة فعل لا شعورية في ساعة انغلاق نفسي رهيبة. ثم كان ما كان ما عرفه الناس في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن، ثم أخيرا في سورية.

لن يغير من الأمر كثيرا أن الرئيس "بشار أسد" قد لا يكون في صورة ما حصل في "درعا" يوم الأربعاء الدامي عندما استشهد أكثر من خمسين مواطنا، مابين طفل وامرأة ورجل، وأن الأجهزة الأمنية تصرفت من عند أنفسها،فإن النتيجة واحدة وهي أن الدم السوري أهريق من دون وجه حق بل ظلما وعدوانا. إن الاستعمال المفرط للرصاص الحي -بدلا من استعمال خراطيم الماء على أسوأ تقدير- أشعر السوريين أن الدم السوري لاقيمة لهم عند النظام. هذا ما جعل السوريين يعلنون: "إن سورية بعد أحداث درعا هي غير سورية التي كانت قبلها".

ترجمة هذا الكلام، أن السوريين لا يمكن أن يغمضوا أعينهم عن دماء إخوانهم التي أهريقت في درعا والصنمين وغيرهما، وأن الذين ذبحوهم ليسوا إسرائيليين بل إخوانا لهم في الوطن قاموا بفعلتهم الشنعاء بدم بارد وعن عمد وسابق إصرار.

لن يكون مقبولا التعايش مع نظام سمح باقتراف هذه الجريمة النكراء،سواء كان بعلم الرئيس بشار أو أنه كان مغلوبا على أمره، على ما تم تسريبه من أن الحاكم الفعلي في سورية الآن هو شقيقه العقيد "ماهر أسد" قائد الحرس الجمهوري. وكأن الأحداث أفرزت غرفة عمليات جديدة داخل النظام في دمشق يقودها "ماهر أسد" ومجموعة من الضباط يأتمرون بأمره. وسواء أصح ذلك أم لا، فإن على النظام أن يرحل. كما أنه لن يغير من الأمر شيئا أن تعلن "بثينة شعبان" مستشارة الرئيس بأن القيادة السورية ستقوم بدراسة مجموعة قرارات لتخفيف الاحتقان الذي خلفته أحداث درعا وباقي المدن السورية، حيث زعمت أنه سيتم إلغاء قانون الطوارئ، كما سيتم محاسبة الذين أطلقوا النار في درعا وفي غيرها.

الشيء الغريب أنه خلال أسبوع كامل كان النظام السوري كله غائبا عن المشهد، ابتداء من الرئيس بشار إلى رئيس الحكومة وباقي الوزراء. فلم يكن هناك في الساحة إلا أجهزة الأمن تصول وتجول وتعتقل وتقتل. والسيدة "بثينة شعبان" مستشارة الرئيس، التي توالى ظهورها في وسائل الإعلام، مبشرة مرة ومتوعدة ومنذرة مرات عدة. أما الوعود التي أطلقتها "بثينة شعبان" فلم يكن أحد يعرف من طلب منها أن تَعدَ بها.

 ولم تكتف مستشارة الرئيس بهذه الوعود التي ما عاد الشعب السوري يصدقها بعد أن سالت الدماء، بل بدأت من حيث انتهت جميع الأنظمة التي أطاحت بها شعوبها. فعندما كان يضيق الأمر بالرئيس (تونس ومصر وليبيا واليمن)، فهو يعلن -متوددا لواشنطن يطلب منها النجدة  وأنى له ذلك- متهما الإخوان المسلمين بأنهم وراء القلاقل. هذا الإعلان كان دائما نهاية مدة حكم الرئيس، كما حصل في تونس ومصر، وهاهو القذافي و"صالح" على نفس السكة.

وهكذا فعلت "بثينة شعبان" يوم الأحد 27 آذار الجاري عندما زعمت بأن الإخوان المسلمين هم وراء الأحداث في سورية. مع أن العالم كله يعرف أن الثورة ثورة الشباب في سورية، وأن واشنطن تقر بذلك، وأنها قد لا تريد مد يدها للنظام الذي يغرق في بحر أخطائه، ولو مدت يدها إليه لما استطاعت له شيئا.        

يبقى أن ننوه بأن الأوضاع في مدينة اللاذقية ذات الخصوصية المذهبية -حيث يتقاسم العيش فيها أهل السنة والعلويون والمسيحيون- علم أن مجموعة أطلقت عليهم السلطات السورية اسم "الزعران"، وهم مجموعة يقودها "نمير بن جميل الأسد" وهو واحد من أبناء عم الرئيس يقود عصابة "الشبّيحة"، حيث كانوا من قبل يفرضون "الإتاوات" في كل مدن سورية. هؤلاء "الشبيحة" قاموا بالقنص على بعض المواطنين في الشوارع فقتل أكثر من 12 مواطنا ومنهم بعض رجال الشرطة، وأن النظام سكت عما يحدث، بل على ما يظهر أنه عاجز عن إيقافهم عند حدهم.

* العمش: يصيب عيني الإنسان فيصبح لا يرى إلا خيالات

                

* كاتب سوري معارض يعيش في المنفى..