الشباب السوري سيجد الطريق إلى الانتفاضة

محمد فاروق الإمام

الشباب السوري سيجد الطريق إلى الانتفاضة

محمد فاروق الإمام

[email protected]

لاشك أن العديد من الشباب السوري وخاصة العاطلين عن العمل ـــ وهم بمئات الآلاف ـــ  يتحسرون بل يتحرقون لقيام انتفاضة في سورية شبيهة بالانتفاضة التي قامت في تونس للخلاص من نظام شمولي استبدادي حكم سورية لنحو نصف قرن (1963ـــ2011) وجعل من نفسه بقوة القانون الذي سنّه (حزب البعث القائد والموجه للمجتمع والدولة بموجب المادة الثامنة)، وهذا ما كان حال الحزب الدستوري الشمولي الاستبدادي في تونس.

فما الذي جعل شباب تونس ينتفضون انتفاضة رجل واحد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مرددين بصوت واحد (لا.. لابن علي.. لا.. للحزب الدستوري)، ونفتقد نحن في سورية عند الشباب هذا الإجماع واندلاع مثل هذه الانتفاضة؟!

سؤال لطاما راود الشباب السوري في نجواهم وفي أضيق الحدود همساً.. فقد تلقّن الجميع ثقافة (للباب وللجدران وللنوافذ آذان) منذ كانوا في بطون أمهاتهم وحتى بعد أن خرجوا إلى هذه الدنيا وحبوا وترعرعوا في مختلف الحضانات والروضات والمدارس والمعاهد والجامعات وبعثات الدراسات العليا.. وعاشوا على ثقافة التجسس والجاسوسية، فقد يكون الأخ جاسوس وقد يكون القريب جاسوس وقد يكون الصديق جاسوس فالحذر الحذر من الجميع.

أذكر انني زرت في بعض السنين ـــ  قبل ان يفرض علي النفي القسري ـــ السجن المركزي بحلب (المسلمية) في سبعينيات القرن الماضي، لزيارة مدير السجن وكان صديقاً لي، وفي لقائي معه استذكرت صديقاً لي سجيناً في نفس السجن ظلماً وعدواناً، اعتقل لا لذنب اقترفه أو جريمة ارتكبها أو جنحة وقع بها عن طريق الخطأ، بل لأنه وصلته رسالة من قريب له من بلد مجاور يطمئن بها عن صحته وصحة أهله، وليس في الرسالة ما يسير الشكوك أو الريبة، فكل ما جاء فيها عبارات بسيطة وعادية وتدور حول صحة العيال والأولاد والأهل، وليست فيها أي جملة مبهمة فيها بعض الغموض، ويمكن ان تفسر بغير معناها، وكان موصل الرسالة لهذا الصديق رجل يتردد بين سورية وذلك البلد المجاور، وتبين أنه عميل مزدوج لمخابرات سورية ومخابرات ذلك البلد ويقوم بكل أمانة وأريحية بتسليم كل ما يحمل من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا من رسائل إلى المخابرات هنا وهناك قبل تسليم هذه الرسائل إلى أصحابها ويقبض المعلوم من هنا وهناك، وكان هذا حظ صديقي العاثر أنه لم يقم بإبلاغ المخابرات عن وصول هذه الرسالة إليه بعد ثلاثة أيام من تسلمها، فاقتاده في جنح الظلام مجموعة من رجال الأمن ـــ باللباس المدني طبعاً ـــ من بيته واختطفوه من أسرته رغم موقعه الوظيفي الهام، دون ان يًعرف من أخذه والجهة التي اقتيد إليها، وبقي على ذلك الحال نحو سنة دون أن يُعرف مكانه.

أقول بعد أكثر من سنة عرف أهله مكانه وراحوا يترددون عليه بعد تقديم المعلوم (الرشوة) وتدخل الوساطات النافذة، وعرفوا ان تهمته (كتم معلومات تمس أمن الوطن) وأحببت عند زيارتي لصديقي مدير السجن أن أشاهده وأطمئن عنه، معتقداً ان ذلك أمراً عادياً ولن يرفض صديقي مدير السجن مثل هذا الطلب، ولكن صديقي مدير السجن تجاهل طلبي ولم يرد علي، فظننت أنه لم يسمع ما طلبته منه، فكررت الطلب فرمقني بنظرة لم أرتح إليها ثم قال: أدنو مني، فدنوت منه حتى أصبحت على بعد نحو متر من كرسيه، فقال: اقترب أكثر، فاقتربت حتى أصبح الكرسي الذي أجلس عليه ملاصقاً لكرسيه، ثم قال أعطني أذنك، ثم همس قائلا: هناك مثل يقول (عين الأمهات كلها تبكي وعين أمي ما تبكي)، وأنا أقولك: (عين أمك تبكي وعينك ما تبكي) سكر على الموضوع، ويتابع قائلاً: شايف هذا العسكري يلي بيقدم القهوة هو عميل للمخابرات ويقدم تقرير يومي عن كل ما يجري في مكتبي وعن كل من يزورني فيه.. ثم رفع رأسه عن أذني وأومأ لي بأن ابتعد عنه، وانصرفت دون أن ألتقي بصديقي السجين.

لم يكتف النظام بتلقين سياسة الجاسوسية لنحو عشرة أجيال من السوريين، بل لقنهم سياسة الخوف والرعب، فلم تسلم من عصاه الأمنية الغليظة أسرة سورية واحدة (أب أو ابن او أخ أو قريب أو جار أو صديق.. قتيلاً أو سجيناً أو معتقلاً أو مختفياً أو مطارداً أو منفياً) إلا من رحم ربي، بتهمة الخيانة والعمالة والإرهاب، فكل مواطن سوري متهم حتى تثبت براءته، بعكس ما جاء في كل الشرائع والدساتير والقوانين الإنسانية (المتهم بريء حتى يدان).

وأضاف النظام ثقافة اللامبالاة والتنكر لكل ما يجري حوله ولو كان الأمر يخص أباه أو أخاه أو ابنه أو قريبه أو صديقه أو جاره أو ابن حيه، فيكفيه أنه ليس من كل هؤلاء، إضافة إلى زرع فيروس الفساد في كل مفاصل الحياة في المجتمع السوري (نصب، احتيال، نفاق، تملق، غش، خداع، رشوة، خوّة، كذب، افتراء) والعشرات من المفردات الهابطة والسيئة التي تفشت في كل مؤسسات الدولة والحياة العامة والعلاقات بين الناس.

لهذه الأسباب وغيرها أقول إن سورية غير تونس وما حدث ويحدث في سورية لم يحدث في تونس ولا في بلدان أعتى الأنظمة الشمولية والاستبدادية والديكتاتورية في العالم.

ومع كل هذا الواقع الأليم الذي عشناه، إلا أنني متفائل بالشباب السوري بأن يجد طريقاً غاب عن أذهاننا نحن، لينتفض في وجه المافيا التي تحكم سورية ويعيد للفيحاء تاريخها المجيد ووجهها الناصع القشيب بعد كل هذه السنين العجاف، متمثلاً قول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلابد أن يستجيب القدر

مديراً ظهره لقول الشاعر السوري نجيب الريس:

يا ظلام السجن خيم... إننا نهوى الظلاما