عندما يبكي الوطن
عندما يبكي الوطن !!
د. عصام مرتجى- غزة
[email protected]
قد يصيبك الوجوم وتقف حائرا تبحث عن إجابة حقيقية
تعبر عن قناعتك، عندما يبادرك طفلك الصغير بسؤال بريء يستكشف به دنياه ويسألك "أبي
ماذا تعني كلمة وطن؟؟؟" !!!
كلمة تعايشنا معها، كما نتعايش مع نبضنا دون أن
نسمعه سوى عندما يغزونا المرض ويجتاحنا الألم !! ومن يعرف طعم هذا الألم كمعرفتنا
نحن الفلسطينيين ؟!! ومن غير المحروم يعرف قيمة العطاء !!؟؟
قد يمر عليك في التاريخ الإنساني كثيرون قد هاجروا
أوطانهم طوعا أو قسرا، هاجروا من بيئة اجتماعية لبيئة أخرى ، حملوا وطنهم حقيبة
يبحثون فيها عن جواز سفر يعطيهم أحلامهم.!!!
قد يغدو الوطن لدى البعض جنسية في بلدٍ ما من بلاد
الدول المتقدمة يمنحه وظيفة ومال، ويحلم بان يسكن بلاد بلا فقر أو معاناة او حروب.
ومن هؤلاء كثيرون يهربون من بلادهم و أوطانهم يدفعون ما يملكون ويسعون جاهدين
ليعبروا الحدود للجنة الموعودة (بلاد المال والجمال) ومنهم من يدفع ما يملك ليتم
تهريبه ليغدو لاجئا سياسيا يبحث عن وطن بديل " مهاجرين غير شرعيين" وبعضهم يموت على
الحدود بلا شربة ماء ، وكلهم يحملون أحلامهم بين دفتي جواز سفر يحلمون به في دول
الهجرة.
ولكن عندما يقف في ظل علم الدولة المستضيفة ليحصل
على جنسيتها، ويقف ليقسم بالولاء لها، تقف بناظريه هجرة من نوع آخر !!!
الآن بات لزاما عليك أن تهجر وطنك الذي يسكن بين
جوانحك ، تاريخك وجغرافية بها كان أجدادك وأسلافك وقيمك ودينك وكيانك الاجتماعي !!!
كفلسطيني أصابني الغم عندما قرأت مناشدة للسيد
الرئيس محمود عباس، من فلسطيني يعيش في السويد يقول بأن السلطات السويدية قد أخذت
منه طفله بحجة سوء المعاملة وأعطته لأسرة سويدية وهو منذ أربعة أشهر لا يعرف عن
طفله شيئا !!!
شعرت وكأن الوطن طفلٌ صغير ينتحب بين جوانح الرجل
ويقطر على رؤوسنا دما حتى أغرقنا !!!
تقول النظريات الاجتماعية، بان الإنسان ابن بيئته،
وهو يتكييف مع البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها. ولذا لو ولدنا في غير بلادنا لكنا
نتكلم بغير اللغة التي نحبها الآن وللبسنا بغير الطريقة التي نحن عليها، ولكان
ديننا وفقا لمشيئة ربنا حيث أراد لنا بيئتنا الاجتماعية في البلاد التي اختاراها
ورضيها لنا !!
فلكل قومٍ شرعة ًٌ ومنهاجا ، وعندما ينتقل الإنسان
من بيئة لبيئة يجد صعوبة في التكييف والانسجام ، لصعوبة مغادرة المبادئ و القيم
المزروعة فيه، والتي ارتبطت بطبيعة البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها وهي أيضا تتأثر
بتاريخ وجغرافية المكان وحضارته.
هنا تقف على حقيقة الوطن الذي مازال يسكنك ، تهرب
منه ولكنه لا يهرب منك !!!
الدول الغربية تتعامل مع الطفل والمواليد كأبناء
الدولة ، وضمن ثقافة المجتمعات الغربية ، حيث يوجد نظريات خاصة متعلقة بالأسرة
ومفهومها ومكوناتها وعن المجتمع تختلف عن مفهوم المجتمع والأسرة ومكوناتها في
مجتمعاتنا الشرقية والمجتمعات المسلمة خاصة. فالدولة تأخذ الطفل لينمو ضمن ثقافتها،
وينشأ على المبادئ والقيم التي يرفرف بها علمها ويحمله جواز السفر الخاص بها !!!
أي أن كثيرون ممن هاجروا ليبحثوا لهم عن وطنٍ بديل،
وجدوا أنفسهم قد باعوا بلادهم وتاريخهم وقيمهم وأبنائهم ليحظوا بجنسية وجواز سفر؟
لم نسمع عن مناشدات من مهاجرين غير الفلسطينيين ،
يشكون البلاد التي هاجروا إليها، فالآخرين قد هاجروا بلادهم طوعا أوكرها في سياسات
بلادهم وبحثا عن ثقافة غير ثقافتهم ، فحاولوا أن يتكيفوا مع ثقافة تلك البلاد
وقوانينها .
لكن نحن كفلسطينيين قد هُجّرنا قصرا من بلادنا، لا
نستطيع أن يهجرنا الوطن الذي يسكن بين جوانحنا وأحلامنا، ولذا لا نجد مكانا نتكييف
معه أو نندمج فيه ، فلنا ثقافتنا الخاصة وملامحنا التي تمييزنا بها، ولنا وطنٌ
نعشقه كما نعشق أبنائنا.
وهنا قد يصيبك العجب من وقاحة رئيس الوزراء
الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت عندما صرح يوم الأحد 19/09/2010 أن الولايات
المتحدة الأمريكية كانت قد وافقت على استقبال مائة ألف لاجئ فلسطيني في إطار اتفاق
سلام محتمل في الشرق الأوسط،!!!!.
لو كان الوطن جواز سفر أ و عقد عمل أو سكن، لما
كانت هناك قضية فلسطينية !!
ولما كان هناك ملايين الفلسطينيين رفضوا الوطن
البديل في بلاد العرب التي تحمل نفس الثقافة والقيم والتاريخ الإنساني والحضاري
المشترك !!؟؟
وقد يستشيط بك الغضب عندما تسمع تصريحات المهاجر المولدوفي
( ليبرمان)، الذي ترك بلاده ليحتل ويستوطن بلادنا ، يريد أن يطرد الفلسطينيين من
قراهم ومدنهم في مناطق ال48 وينسوا حيفا ويافا وعكا ، ليخلق مجتمعا يهوديا خالصا
يستطيع أن يتكييف في العيش معه ضمن ثقافته الغريبة عن البلاد والعباد !!!
ولذا تجد هؤلاء المحتلون الغرباء عن الأرض والتاريخ
الفلسطيني، يحاولون أن يقروا قانونا يلزم النواب الفلسطينيين العرب بالقسم بالولاء
"لدولة إسرائيل - دولة الشعب اليهودي" !!!؟؟؟؟.
هؤلاء المهاجرون من بقاع الدنيا ، ليبحثوا لهم في
أرضنا عن وطن، طوال هذه السنين التي قضوها في أرضنا، لم يستطيعوا أن يخلقوا تكيفا
اجتماعيا بينهم ، فكيف سينسجمون مع من يختلف معهم في القومية والحضارة والتاريخ
والثقافة والديانة !!؟؟
من هنا قد يتجلى لك الوطن في أجمل صوره، وترتسم في
روحك اجمل معانيه :
عندما تكون فلسطينيا هُجِّرت من وطنك وجواز السفر
البديل سرق منك ولدك ، ستعرف ما معنى الوطن !!!
عندما تكون فلسطينيا ، ذبحوا أبائك وقتلوا جيرانك
وهجروا أهلك و جاءك نغلٌ من بلاد الثلج يغتصب مرج أبائك ويطالبك بالقسم لعلم وديانة
دولته اللقيطة ستعرف ما هو الوطن !!!
عندما تكون فلسطينيا ، تعيش عشرات الأعوام في
المهجر ، ثم تموت غريبا ميتة الشبحٍ في المنفى بلا جيران يقرءون عليك فاتحة الوطن،
عندها يعانقك ويبكيك الوطن !!