آفاق تأسيس حزب وسط  فلسطيني

آفاق تأسيس حزب وسط  فلسطيني

صلاح حميدة

[email protected]

أثارت تصريحات إعلامي وسياسي فلسطيني في أوروبا عن  عمل جهات أوروبية لخلق بديل  سياسي لحركة فلسطينية بعضاً من الجدل في الساحة سرعان ما انتهى، بالرغم من أنّها احتوت تفاصيل مهمة حول توقيت وأطراف واجتماعات لما وصفه ذلك السياسي بمحاولات أوروبية وصلت طور التنفيذ ل ( وراثة ) حركة " حماس" التي اكتسحت الانتخابات الفلسطينية قبل ما يقارب الأربع سنوات ونيّف.

أطراف إعلامية محسوبة على حركة "حماس" هاجمت الطّرف الذي كشف عن الموضوع ولم تتعاطى معه بشكل  مكافىء للطّريقة الاحتفالية التي صيغ بها في العديد من المواقع  الاعلامية والصحف التي في أغلبها مناوىء للحركة، وهذا يعكس أنّ حركة "حماس" رأت في هذا الاعلان محاولة لمناكفتها فقط، في حين أن التّفاصيل التي ذكرت في الاعلان ودلالاتها لم تحظ بالتحليل والاهتمام الكافي من غالبية المتابعين للشأن الفلسطيني.

لا نفشي سراً إن قلنا أنّ حركة "حماس" - ومنذ انطلاقتها- تتعرّض للإستهداف بشكل شبه متواصل من العديد من القوى الدّولية والاقليمية والمحلّية، ودوافع هذا الاستهداف متنوّعة ولا يمكن حصرها في نوع محدد. فقد تعرضت لألوان كثيرة من الاستهداف  الميداني والاعلامي والسياسي والاقتصادي والديني والاستئصالي المباشر، كما أنّه من المعروف أنّها لا زالت تعاني من هذه الأشكال وغيرها  حتى اللحظة.

يكشف الخبر عن حقيقة أنّ الإعداد للحرب على قطاع غزة عام 2008- 2009م ترافق مع إعداد واجتماعات للتحضير لوليد " يرث" حركة "حماس" بعد القضاء عليها في الحرب، ويبيّن أنّ هذه التحضيرات لوراثة القتيل تم إجهاضها بعد فشل الحرب في تحقيق أهدافها، وبالتالي تم إيقاف كافّة الاجتماعات وتجميد كافّة الخطوات حتى يتم الترتيب لخطوات أخرى.

و يبين الخبر أنّ القوى الأوروبية و الغربية التي عملت ودعمت وهي لا زالت على استعداد لدعم بديل "يرث" لا زالت مهتمة بخلق هذا البديل في الضفة الغربية على وجه التحديد، وأنّ هذه القوى تلاقي تعاوناً من أكاديميين وأساتذة جامعات، كما يورد المصدر. كما يرى ناقل الخبر أنّ إمكانيات خلق مثل هذا الحزب " الوسط" على غرار تجربة العدالة والتنمية التركي يعتبر البديل المفضّل لتلك القوى على حساب الجنوح " الطّالباني" لحركة "حماس".

بقراءة متأنّية لهذا الخبر يصل القارىء إلى نتيجة تفيد بجهل القوى الغربية الكبير بطبيعة الشّعب الفلسطيني، مع أنّه يكاد  لا يوجد جهاز مخابرات في العالم لم يحط رحاله في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967م، فعمليات تنصيب كرزايات بلحى  يأتون فوق الدّبابات الاسرائيلية وفوق الدّمار وجبال الشهداء لا يمكن أن يكون لها جذور، فالشّعب الفلسطيني لا زال يعاني من الاحتلال، وأزمته لا تكمن في الاختيار بين نظام أردوجاني  أو آخر  طالباني، فصنيعة الغرب  إن كان بلحية أو بدونها فهو منبوذ من قبل شعبه، والقضية الرئيسية التي تهم الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة هي قضية التحرر من الاحتلال.

ولعل أسوأ ما يواجهه الشّعب الفلسطيني في هذه المرحلة من تاريخه، أنّ بعض سياسييه اختلطت عليهم المراحل بين الدّولة والثّورة، وهذا جلب للقضيّة والشّعب مشكلات وعقد لا يزال حلّها مستعصياً. ولذلك يتم تسويق الأوهام للشعب الفلسطيني عبر مسمّيات احتفالية خالية المضمون ومن ضمنها هذه الأحزاب التي يعلن عن محاولات لتصنيعها في الغرب، والتي لا يخفى على أحد أنّها فاقدة للجذور والحضور على الأرض ولا يمكن أن تحيا وتنتشر إلا بشكل محدود وبحقن مالي وسياسي لا يمنحها شرعية أخذها غيرها بالتّضحيات والدّماء.

فإمكانيات الوراثة لفصيل متجذّر في الساحة مثل إمكانيات استئصاله بالضّبط، فكل محاولات الاستهداف والاستئصال تؤتي نتائج معاكسة، ولا يدرك الكثير ممن يعملون بخطط وأدوات كثيرة أنّهم يقدّمون لحركة "حماس" خدمات جليلة باستهدافهم لها، وهم عملياً يطلقون النّار على ذاتهم، وأنّ هذه الحركة تستمد ماء حياتها  من مواقفها السياسية والميدانية وتضحيات رجالاتها، ولذلك لا يعتبر الاعلان السّابق الذّكر ذو أهمّية تذكر. فقد شهد قطاع غزة على وجه التّحديد محاولات عديدة لتأسيس أحزاب ذات صبغة دينية، إضافةً لمحاولات لشق صف حركة "حماس" نفسها باستقطاب قيادات  فيها، ولكن كل هذه المحاولات لم تثمر خلال  ما يقارب عقد ونصف من الزّمن.

وهنا يطرح تساؤل مهم عن ماهيّة الأخطار التي تحدق بحركة "حماس" إذا كانت الحروب والحصار والاغتيال تفيدها ولا تبيدها؟!.

  فبنظرة متفحّصة  نكتشف أنّ الحروب التي تشنّ على حركة "حماس" تقوم تلقائياً بتطهيرها داخلياً وجماهيرياً، فاستهدافها من قبل أعداء الشّعب الفلسطيني يعتبر  تزكية لها أمام جمهور الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ولو رضي أعداء الشعب الفلسطيني عنها لقضي عليها مباشرةً، طبعاً الحديث هنا يدور عن القضاء المعنوي قبل المادّي، فخروج الرّوح يسبق تلف الجسد، وفي التاريخ السياسي والحركي عبرة لمن يعتبر.

أمّا التّطهير الدّاخلي فهو مهم للحركات السياسية والدّينية على حد سواء، ولعل الاستهداف الدّائم لحركة سياسية ودينية من قبل الكثير من الأطراف يجعلها  تعيش نقاءً نادراً من المنتفعين والمنافقين، فهؤلاء يميلون إلى قطف الثّمار ويفرون من التضحية ودفع الأثمان، ومن خلال المرور على أدبيات حركة "حماس" فإنّها وباعتبارها حركة دينية فهي  تربّي عناصرها على أنّ طريق الدّعوات والأنبياء ليست معبّدة، بل شائكة وفيها المصاعب والتّضحيات والامتحانات، ولذلك يعتبر الاستهداف لهؤلاء فرصة نادرة للتقييم الذّاتي، وفي تجربة بعض الدّول العربية في هذا المجال عبرة، فقد فعل هؤلاء كل ما يستطيعون لقمع الحركة الاسلامية ولكنّهم اكتشفوا في النّهاية أنّهم مثل من يحاول تجفيف البحر بقبّعته، و في حالة حركة "حماس" فهي تحوز على نقطة أفضليّة هامّة  إضافية، تتعلق برفض الاعتراف بشرعية الاحتلال من خلال رفضها الاعتراف بشروط الرّباعية وصبرها على دفع ثمن ذلك.

ولكن هذا لا يعني أن حركة مثل حركة "حماس" منزّهة عن الأخطاء، فهي كتلة من البشر المعرّضون للخطأ دائماً، فالطّبيعة البشرية هي التي تحكمهم، وكلّما عملوا أكثر كلما زادت أخطاؤهم، وهم ليسوا ملائكة ولا منزّهين، ولكن المعيار هنا يتعلّق بتشكيل آلية حاسمة  للرقابة الذاتية، تقمع الخلل ولا تتهاون معه وتأخذ بعين الاعتبار تجارب غيرها من الحركات الثورية والدينية على حد سواء، إضافةً إلى أنّ الاستهداف والمراقبة والتّصيّد الدائم للحركة ولأفعالها على الأرض، يجعلها متحفّزة بشكل دائم لمنع وتقويم الخطأ إن حدث.

تعدّ تجربة حركة "حماس" في الحكم قصيرة الأمد بشكل عام، ولكن في قطاع غزة الآن تعتبر تجربتها النّاقصة في الحكم مجلبة لبعض المشاكل والاختراقات، ولعلها بحاجة دائمة للمزاوجة والموازنة بين كونها حركة سياسية وثورية ودينية، وبين كونها المدير الفعلي للكثير من الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في القطاع المحاصر، وهذه المزاوجة تجلب لها منافع وأزمات في نفس الوقت، تحتاج لآلية من الرّقابة والاصلاح بيقظة مضاعفة ذات نسبة خطأ نادرة الحدوث، فالخطأ في واقع كواقع الحصار والاستهداف في قطاع غزة المحاصر له أثمان مضاعفة.

في هذا المقام يرى عدد من المتابعين للشأن السياسي الفلسطيني أن من أخطر ما يمكن أن تواجهه حركة مثل حركة "حماس"   في الواقع الغزّوي هو المتملّقين والمنافقين وطالبي المنافع، وهؤلاء موجودون في كل المجتمعات في العالم، وهؤلاء يرغبون دائماً بحصد المنافع، ولكنّهم يفرّون في المواجهة الحقيقية. هذا النّوع من النّاس قد تجده صباحاً بلحية وآخر النّهار بدونها، وقد يكون لونه أخضر ثم ينقلب إلى أصفر أو أحمر حسب اللون الحاكم. هذا النّوع من النّاس خطير جداً لأنّهم يفسدون ولا يصلحون، ويزيّنون الأخطاء ويشجعون على الاستمرار في فعلها، وهم فايروس يقتل الحياة في جسد الحركات المقاومة ويفسدونها.

كما يرون أنّه يوجد نوع آخر من الخطر الذي من الممكن أن يتهدّد حركة "حماس" ونظام حكمها في قطاع غزة، وهم المغالين في إظهار التّديّن ومحاولات فرض أنماط معيّنة من السلوك على مجتمع متديّن ومحافظ تقليدياً،  وهؤلاء يحصرون في عدّة أنواع:-

* النّوع الأول: هم من أصحاب النّفوس النّقيّة التّقية التي تريد أن تقيم دولة الاسلام على الأرض، ولكن اختلط عليهم أنّ قطاع غزة ليس دولة وأنّ ما يجري فيه هو أنّه خندق قتالي محاصر تديره حركة مقاومة ذات رسالة دينية، وأنّ لهذه الوضعية اعتبارات  وفقه خاص، ويتأثر هؤلاء بالدّعاية المضادة من أصحاب توجّهات دينية تختلف معهم قامت بتجارب في مناطق أخرى ثبت فشلها في بيئة تحظى بحريّة أكثر من تلك التي في غزّة، مثل الوسط السّنّي في العراق، وأدّت ممارسات هؤلاء إلى أنّ ثار النّاس عليهم وارتمى الكثيرون بسببهم  في أحضان الاحتلال الأمريكي وضربت المقاومة العراقية في مقتل.

ولذلك يرى هؤلاء أنّ المقاومة الاسلامية الفلسطينية بحاجة إلى التّمسك  ببوصلة واضحة وخطاب صريح حتى يتم منع التّأثيرات السلبية وخلط الأولويات، بتبيان مفاسد ما جرى مع من خاضوا هذه التّجربة ويسعون لاستنساخها في قطاع غزة، وهذا يحتاج لخطاب سياسي وديني وتثقيفي واضح، وجرأة في اتخاذ المواقف، وعدم الاستسلام لمصطلحات وثقافة القوالب الجاهزة والحرق والتّدمير، وفي العراق عبرة لمن يعتبر.

النّوع الثاني:- التّجربة الأمنية للفصائل الفلسطينية كافّة أثبتت أنّ بعض المغالين والعنيفين والمتطرفين والمتعصّبين في التنظيمات، هم الذين يثبت فيما بعد أنّهم مدسوسون، وهم بخطابهم وممارساتهم يقودون أصحاب النّفوس الطّيبة والأقل وعياً ليفعلوا أفعالاً خطيرة، من الممكن أن تجلب مشاكل ومصائب كثيرة لحركات المقاومة، وتعزلها عن شعبها الذي هو بمثابة البحر للسمك بالنّسبة لها.

كما أنّ التّجربة العراقيّة أثبتت بالدليل أنّ الكثير من الذين أمعنوا تقتيلاً وتدميراً في العراق، كانوا إما عملاء مباشرين لأجهزة مخابراتية معادية، أو كانوا مضللين من عملاء لتلك الأجهزة، حيث دفعوا بلا وعي منهم لارتكاب مجازر دموية بحق العراقيين.

صحيح أنّ من يتعرّض للحصار والاستهداف الشّديد والمتواصل يكون في حالة تحفّز وتوجّس دائم، ويميل إلى السّلوك والخطاب الحاد فطرياً، إلا أنّ تجاوز التّحدّيات التي تهدّد القضية والشّعب يفرض على المعنيين التّريث والتفكير مطوّلاً قبل التّصريح والتّصرف.

ويرى بعض المحللين والسياسيين أنّه يوجد نوع خطير جداً من النّاس على حركات المقاومة الفلسطينية، وهؤلاء بعضهم داخل  الحركات وبعضهم يعتبرون أصدقاء ومقرّبين لها، وبعضهم من الاقليم أو العالم، وهؤلاء يسمّون ب ( المستدرِجين) وجوهر خطرهم يكمن بتزيينهم مقايضة حركات المقاومة أدواتها الفاعلة ضد الاحتلال بالاعتراف الدّولي بها، وهؤلاء لا يخفون على حركات المقاومة الفلسطينية على إطلاقها.

فالخطر على حركات المقاومة لا يأتي عبر محاولات غربية لخلق  بدائل ترثها، بل إنّ  حركات المقاومة تبقى بخير ما دامت مناعتها قوية ضد النّماذج التي أشار إليها الكثير من المحللين والمتابعين أعلاه، أمّا إن بدأت تفقد مناعتها ضد هؤلاء فعليها السّلام، وسيظهر من رحم الشّعب الفلسطيني - وليس في أوروبا- حركات مقاومة بديلة لها .