المقترح الأميركي
والاستحقاق الديمقراطي
حسام طبرة
الإرادة الشعبية التي خرجت تتحدى الموت والإرهاب والتزوير لتضع الأمانة والثقة في كتلة العراقية تلزم العراقية صونها والوفاء بما وعدت به لإحداث التغيير ومن هنا جاء رفض السيد الهاشمي للمقترحات الأمريكية التي تدعو ائتلاف العراقية للتحالف مع ائتلاف دولة القانون على أن يمنح منصب رئاسة الحكومة لزعيم دولة القانون نوري المالكي معبرا بذلك عن معاني التمسك بالحقوق الدستورية والأنتخابية التي يفترض إن الأمريكان هم أول من يلتزم بها .
وقد بين الهاشمي في تصريح لصحيفة الحياة اللندنية أن قادة العراقية رفضوا اقتراحا كررته الوفود الأميركية التي زارت بغداد خلال الفترة الماضية وأشار في هذا السياق إلى أن رؤية العراقية لا تلتقي مع رؤية الولايات المتحدة الأميركية التي تأتي في إطار مصالحها في العراق. غير مستبعد طرح فكرة تشكيل حكومة إنقاذ وطني لإدارة المرحلة الراهنة، مؤملا في الوقت ذاته عدم اللجوء إلى اعتماد مثل هذه الخيارالذي وصفه بأنه صعب.
تصريحات قادة العراقية جاءت كرد فعل لما أثارته العروض الأميركية الأخيرة التي تراوحت بين مقترحات قدمتها للأطراف وللكتل العراقية الفائزة وفي مقدمتها ائتلاف العراقية تارة بتقاسم فترة ولاية رئاسة الوزراء وأخرى بالتخلي عن الأستحقاق الأنتخابي الديمقراطي لصالح كتلة أخرى أثارت دهشة العالم قبل أن تثير دهشة العراقيين الذين ضجت رؤوسهم بقراءة وسماع الشعارات الأمريكية الضامنة لمبادئ الديمقراطية وحقوق الأنسان واحترام الدستور والخيار الأنتخابي ولوائح شرعة الأمم المتحدة .... ألخ فقد خالفت هذه العروض كل هذه القيم والشعارات وأكدت ان ما يهم واشنطن هو مصالحها فقط .
ومن أجل تنشيط الذاكرة للربط بين ما حدث قبل احتلال العراق الى ما انحدرت اليه طبيعة العروض والمقترحات الأمريكية التي قدمتها واشنطن الى ائتلاف العراقية ينبغي أن نعرض لبعض اللقطات عرضا سريعا لتبين اصرار واشنطن على الفعل الذي ارتكبته مع العراق تحت شعارات عرفناها جميعا ثم تراجعها عنها بعد فشلها في تحقيق معظم تلك الشعارات وهرولتها اليوم سريعا نحو الأنسحاب , ففي هذا السياق وفي يوم من أيام احتدام السجال بين واشنطن وبغداد على مسائل التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل التي لا نريد الدخول في سفه توصيفاتها والأوهام التي تأسست عليها بشهادة الغربيين أنفسهم بدءا من سكوت ريتر خبير الأسلحة وضابط ألـ سي آي أيه مرورا بمديره جورج تينيت ثم هانز بليكس رئيس أنسكوم الى كولن باول وزير الخارجية الأمريكي نفسه الى آخر قائمة الأسماء الطويلة دون أن نمر على ما تكشف من فضائح توني بلير في لندن وتورطه في زج القوات البريطانية في حرب فاشلة .. وفي ذروة أزمة احتدمت بين الجانبين وبلغت شفير الهاوية أي الأقتراب من اندلاع الحرب التي تحاشى الكثيرون وقوعها لكنها وقعت لأنها كانت يجب أن تقع كما أكد يوما الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نكسون معلقا على اندلاع حرب الخليج الأولى التي تم فيها تحرير الكويت حيث قال لم نذهب الى هناك لانقاذ الديمقراطية لأنه لا توجد في المنطقة ديمقراطية ... ذهبنا إلى هناك وكان يجب أن نذهب من أجل مصالحنا . وهو ما يفسر سلفا ان مجيئهم للمرة الثانية الى العراق لم يكن للقضاء على الدكتاتورية لأن في هذه المنطقة وفي غيرها كثير من الأنظمة الدكتاتورية.... بعد تصريح نكسون بأكثر من عشر سنين جاءت حرب الخليج الثانية التي وصفت بحرب تحرير العراق وكان ممكنا جدا للولايات المتحدة أن تكفي نفسها مؤونة نقل تلك الأرمادا الهائلة عابرة البحار والمحيطات لأسقاط النظام القائم وتوفر على نفسها مليارات الدولارات التي أنفقتها وتحقن دماء الآلاف من جنودها وتستعيض عن كل ذلك بأن تمد المعارضة العراقية بالدعم الكافي لأسقاط النظام انطلاقا من مناطق حظر الطيران في الشمال والجنوب زحفا باتجاه بغداد كما حدث في مناطق كثيرة من بلدان العالم الثالث لكن واشنطن أصرت على المجئ لأزاحة الدكتاتورية واقامة الديمقراطية وبناء الشرق الأوسط الجديد... ويوم احتدام الأزمة التي بدأنا كلامنا حولها سأل أحد الصحفيين أمين عام الأمم المتحدة يومها خافير بيريز دي كويلار عما يعتقد أنه سيحدث خلال الأيام المقبلة فأجابه الأمين العام بالأنكليزية المطعمة بالأسبانية ""god knows أي: الله يعلم , وهو محق في هذا القول فالله وحده هو العالم لكن ان دل ذلك على شئ فانما دل على اصرار واشنطن على الحرب اذ لم يكن أمام دي كويلار حتى أن يقدم تخمينا لما قد يحدث وهو ما حمل تفسيرا واحدا , هو عبثية الفعل الأمريكي وفرضه على مجلس الأمن الذي يختزل المجتمع الدولي برمته وعبطية من يتحملون مسؤولية القرارات في العالم .
ما حمل واشنطن على احتلال العراق قبل سبع سنوات هو اذن ضمان مصالحها وأمنها والأمن والسلم في العالم بأسره من الخطر العراقي النووي أو خطر أسلحة الدمار الشامل لكن هناك أسئلة يثيرها موقف واشنطن اليوم وهي قد بدأت الخطوات الفعلية للأنسحاب من العراق , الأول يبحث عن أسباب عدم معالجة الملف النووي الأيراني وقواتها تنتشر بجواره قبل أن ترحل جغرافيا عن العراق علما انه ملف قطع مراحل لا تقارن بالملف النووي العراقي الذي أجهض في بواكير أيامه في سبعينات القرن الماضب بغارة اسرائيلية معروفة ؟ يقابل ذلك أن واشنطن وطهران ما تزالان تتبادلان أدوار المماطلة والتسويف لحسم أمر هذا الملف وتتبادلان الأستفادة من الهامش الزمني الذي ربما وبغفلة من الزمن تعيشها واشنطن سيتيح لطهران انجاز ذلك الملف على عكس ما حدث مع الملف العراقي وهنا نود أن نؤكد اننا لانستعدي الموقف الأمريكي ضد ايران لكن من حقنا أن نعقد هذه المقارنة بين الملفين اللذين أرتبط كل منهما بأمن اسرائيل وأمن العالم والأمن القومي الأمريكي والسؤال الثاني يتعلق بمشروع واشنطن لنشر الديمقراطية في العالم أو بالتحديد في الشرق الأوسط الجديد , وبعد أن تأكد حتى لرجل الشارع البسيط عبثية الحجج التي اطلقت لاحتلال العراق خوفا من اسلحة الدمار الشامل المزمع امتلاك العراق لها والتي جاءت واشنطن من أجل القضاء عليها عابرة المحيطات في حين تضطجع المفاعلات النووية الأيرانية على مقربة من قواتها المرابطة في العراق وتوشك أن تنجز عملية رحيلها عن العراق , وفي سياق ذي صلة بشكل ما تأتي تصريحات رئيس اركان القوات العراقية بابكر زيباري بأن العراق ليس مؤهلا لادارة أمنه قبل عام 2020 ما يؤكد أن سعي واشنطن للأنسحاب هو فقط لتحقيق مصالحها لأن تصريحات زيباري حتى وان كانت تحمل جانبا من المبالغة الا انها لم تصدر عن فراغ وعدم دراية بموقف وأهلية القوات العراقية في مواجهة الجارة الشرقية التي ما انفكت تطالب وتطالب وما زالت اشكالية كبيرة تلف اتفاقية 1975 تحدث عنها الرئيس طالباني ووزير خارجيته هوشيار زيباري أكثر من مرة .
أما مشروع واشنطن الديمقراطي العالمي فقد فشل في أول محطة دشنتها في الشرق الأوسط حيث باء المشروع بعد سبع سنين من الحرب بفشل ذريع في الأنتخابات العراقية بسبب مقترحات واشنطن الأخيرة على العراقية بالتخلي عن حقها الدستوري في الأنتخابات وفي هذا السياق ومن أجل مصالحها كثفت واشنطن قبل موعد سحب قواتها الدعوات والرسائل الى العراقيين للأسراع في تشكيل حكومة مابعد انتخابات آذار 2010 لسبب بسيط هو ان مثل هذه الحكومة يفترض بحسب اتفاقية الأطار الموقعة بين بوش الأبن والمالكي يفترض أن توقع اتفاقية ثانية ذات اطار تجاري اقتصادي يحكم العلاقة مع بغداد ويحدد مساراتها لعقود قادمة وبهذا يثبت لنا ان المصلحة هي العامل الأول الذي يحدد شكل الجداول الأميركية سواء العسكرية منها أم السياسية .
ولعل أكثر هذه الرسائل اثارة هو ما تردد خلال الشهرين الماضيين لدى زيارات فيلتمان ثم بايدن ووفد من أربع سيناتورات من صقور الكونجرس كان على رأسهم جون ماكين وأخيرا زيارة جيمس جونز والتي ستضاف اليها قريبا زيارة أخرى لـ فيلتمان هو العروض المشوهة التي عرضتها واشنطن على ائتلاف العراقية لتتخلى عن حقها الديمقراطي الأنتخابي وتقدمه هدية الى كتل أخرى جاءت في الترتيب الثاني والثالث والرابع لا لشئ الا لضمان سلامة خطط واشنطن في الأنسحاب وتوقيع الأتفاقية التجارية مع الحكومة الجديدة
الخلاصة التي يخرج المرء بها من هذه البانوراما الخاطفة هي ان واشنطن على الصعيد العسكري والأمني لم تحقق شيئا لأمنها بل انها أذكت المشروع النووي الأيراني وكانت عاملا أساسيا وراء ترويج السيناريو الذي تضعه طهران للمنطقة وهو أمر لانظن ان واشنطن تمتلك القدرة لتأتي مرة أخرى الى المنطقة لتدمرهذا لملف وذاك السيناريو ولا نظن ان اسرائيل ستدمره أيضا كما حدث مع العراق لذا فيبدو ان ايران باتت سيدة الموقف في المنطقة وستخرج أميريكا خاسرة في نهاية الشوط من العراق كما توقع تقرير متشائم كتبه ماك بوت كبير خبراء مجلس العلاقات الخارجية الأميركية الذي زار بغداد قبل ثلاثة أشهر حيث قال ما نصه " ستكون هناك تراجيديا تاريخية اذا خرجت الولايات المتحدة خاسرة في نهاية الشوط من العراق " وهي تظن انها ستحقق مصالح تجارية على المدى البعيد الذي يلوح في أفق مكفهر أما على الصعيد السياسي فقد فشلت واشنطن فشلا ذريعا في ارساء قواعد الديمقراطية التي رفعت شعار نشرها في العالم انطلاقا من العراق , وتأسيسا على عروضها الأخيرة لائتلاف العراقية جاءت تصريحات الهاشمي التي بدأنا كلامنا بها وأشار فيها الى أن منطلق واشنطن في مقترحاتها هو مصالحها بالدرجة الأولى وليكن بعد ذلك الطوفان . فلا يهم من يتولى شؤون العراق هل هو الرابح أم الخاسر في الأنتخابات ولا يهم أمن العراق وديمقراطيته بل المهم هو أن تتخلص من عبء نفقات جنودها في العراق وتبدأ مرحلة قطف الثمار باتفاقية ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة أيا كان شكلها.