صحفنا القومية تُصدِّر النفاق

صحفنا القومية تُصدِّر النفاق!!!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

هذه الصحف التي تتمتع برعاية الدولة، وتملك أوسع الإمكانات، ويعيش رؤساء تحريرها، ومجالس إداراتها في نعيم "قاروني" حتى إن أحدهم أعاد إنشاء "حمامة" في دار صحيفته بتكلفة مليونين من الجنيهات.. مما دفع أحد "المطحونين" الظرفاء إلى اقتراح جعل حمام رئيس التحرير هذا "معْلمًا من معالم مصر والقاهرة" كالأهرام وأبي الهول، وهرم سقارة المدرج.

هذه الصحف سموها الصحف القومية. أي والله...والمعروف أن هذا الوصف وصفٌ "شريف"؛ لأنه يعني العمل لمصلحة الوطن، ولو أدى إلى "إغضاب" القادة والحكام، ألسنا نقول: مشروع قومي، ونقصد المشروع الضخم الذي يعود بالنفع على الأمة جميعًا ؟، ونقول مطالب قومية، ونعني المطالب العليا ذات القيمة الأدبية التي يعتز بها الشعب جميعًا ؟، ولكن وصف "القومية" الذي يخلعه كُتاب المستنقع وصحفيوه على صحف الحكومة يعد وصفًا مغلوطًا لا يتفق مع الواقع، ووراء هذا الوصف باعث نفسي قوي هو "الحرص على إرضاء" السلطان، فإذا تحقق هذا الهدف، تحقق النفع الذاتي من مناصب، وأموال، ورحلات في مصاحبة القادة والسلطان.

أما هذه الصحف فمهمتها الأولى هي "التبرير" و "التلميع" ... تبرير أخطاء النظام وتصويرها على أنها خير "الممكنات" وأنها تدل على بُعد النظر والرؤية الصائبة.. بل المثالية.

ويتطوع المستنقعيون ـ في سبيل إرضاء السلطان ـ بالتنافس بإصدار أحكام تعتبر نقيض الواقع . مثل:

ـ قولهم إننا نعيش حاليًا أزهى عصور الحرية، والديمقراطية.

ـ وقولهم إن العهد الحاضر هو أرقى العهود تفتحًا وتقدمًا، وعدالة من عهد مينا حتى الآن.

ـ قولهم: المعارضون للنظالم الحالي كلهم عملاء، تمونهم "دول أجنبية".

ـ وقولهم: الجماعة المحظورة تستحق هذه الضربات الإجهاضية.

ولا بد "رفع" درجة هذه الضربات حتى يتحقق للدولة القضاء البات الكامل على هذه المحظورة.

ولا أنسى ما قاله مكرم محمد أحمد في برنامج تلفازي "إن الإخوان إذا دخلوا قرية أفسدوها".

ومن فضول القول أن نقف على الآثار السيئة لهذه الآفة الضارية المسماة "النفاق": فالنفاق غش للحاكم يدفعه إلى الغرور وتوثين الذات، وهو جناية على الأمة؛ لأن الحاكم يستهين بها،ويهمل شأنها، ويظلمها، ويعبث بها كما يشاء؛ فهو لا يرى إلا ذاته، على حد قول الشاعر المنافق:

أنت المليك عليهمو          وهمو العبيد إلى القيامة

والنفاق إلغاءٌ لشخصية المنافق، ونشر القدوة السيئة التي تجعل من الشعب غثاء كغثاء السيل.

فتهاوتْ  خُطى الشريف iiالمعنَّى
كيف نمضي والزيفُ دين وطبعٌ
والأصـيلُ الأصيلُ يحيا iiغريبًا
والـعـدوَ  الـغريبُ فينا iiسعيدٌ
فاختلالُ  المعيارِ أضحى iiصوابًا




نـازفَ الـقلب ماله من iiنصير
والنفاقُ  الخسيس جسْرُ iiالعبور؟
بـحـقوق  الإنسان غير iiجدير
ومـحـاطٌ  بـالحبِّ.. والتقدير
والـصوابُ  التمامُ شر iiالشرور

هذه هي حالنا في مصر المحروسة!! ... التي أصبح فيها الزيف والتزوير دينًا وطبعًا، والنفاق الخسيس جسر العبور إلى تحقيق المطالب والغايات.

تصدير النفاق:

ولم يكتفِ المستنقعيون بالنفاق الداخلي المحلي، بل وسعوا دائرة نفاقهم، وامتدوا بها إلى خارج مصر، فهذا أحدهم يقول عن زعيم عربي بالحرف الواحد: "أنا شديد الإعجاب بالأخ العقيد معمر القذافي زعيم ليبيا لسببين: أولهما أن لديه آراء جديدة لم يسبقه إليها أحد في كثير من القضايا شديدة التعقيد التي تشغل ساسة وزعماء العالم.

وثانيهما: أنه يعلن هذه الآراء بمنتهى الجرأة والبساطة أيضا، في خطابات يبثها التليفزيون الليبي، وتتناقلها وكالات الأنباء العالمية بعد ذلك، والأخ العقيد يرى أن الصراع في الشرق الأوسط لن ينتهي إلا بإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية، التي فشل العالم بأسره، ممثلاً في الأمم المتحدة على مدى ما يقرب من ستين عامًا من الاقتتال. ورأى العقيد أن الحل هو إقامة دولة جديدة على أرض فلسطين، يكون اسمها "إسراطين" يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون معًا في سلام ووئام بدلاً من المعارك والحروب التي لا تؤدي إلا للخراب!

رأى جريء آخر في قضية الديمقراطية ـ التي يكثر حولها الجدل الآن ـ أعلنه الأخ العقيد في خطاب إذاعة التليفزيون منذ أيام ونقلته وكالة "رويتر" للأنباء وهو يتحدث عن الديمقراطية وتعدد الأحزاب.. وقال إن تبادل السلطة من حزب إلى آخر معناه أن الحكومات تعامل شعوبها كالحمير.. وأنه يعرف رؤساء وسياسيين في العالم الغربي الذي يعتبر نفسه ديمقراطيًا، يشمئزون من هذه المهزلة التي يعيشونها، المتمثلة في الأحزاب والانتخابات.

وأكد أن ليبيا لن تتخلى عن نظامها الشعبي الذي لا يعتمد على الأحزاب. وأكد أن العالم في النهاية سيتبنى هذا النظام لتقوم سلطة الشعوب، وتنتهي مخلفات العصور القديمة التي يسمونها الديمقراطية! إنني أحيي الأخ العقيد القذافي على عبقريته، وشجاعته، وجرأته..!!". ( أخبار اليوم . السبت 20 – 10 -2007 )

* * * * * * * * * *

ولنا وقفة...                           

وأقول للكاتب الكبير "جدًّا": أو ما كفاكم ما تكيلونه لقادتنا وسلاطيننا من ألقاب وصفات "علوية" ما أنزل الله بها من سلطان! فوسعتم من دائرة "اختصاصكم"، وطال لسان نفاقكم، كأن البيئة المصرية قد ضاقت عليه، فامتد إلى سلاطين الجوار!!!

لقد استعمل الكاتب وصف "العبقرية" استعمالاً دارجًا شأن العوام من الناس. وكأنه يجهل أن العبقرية تعني "السبق، والتفوق، والامتياز". ومن أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ "لم أرِ عبقريًّا يفري فريًّه"أي لم أر من يفوقه في عزمه وقدرته وحسمه. والعبقري كما قال الشاعر:

الألمعي الذي يظن بك الظن         كأنْ قد رأى وقد سمعا

*  *  *  *

والكاتب المصري الكبير "جدًّا" يبدي إعجابه الشديد "بالأخ" معمر القذافي، ويصفه بالعبقرية لسبببين أساسيين هما:

1ـ جدة آرائه وابتكاريتها، وخصوصًا في المشكلات التي عجز العالم بكباره وقادته عن حلها.

2ـ جرأته وبساطته في عرض هذه الآراء في كل المجالات والمنافذ المحلية والعالمية.

ولننظر ـ في عجالة ـ إلى بعض مظاهر العبقرية القذافية التي فتنت الكاتب الكبير:

فمنها أنه لا استقرار للسلام في الشرق الأوسط إلا بحل مشكلة فلسطين بإقامة دولة جديدة على أرض فلسطين يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون، وتسمى "إسراطين" (وهو نحتٌ من كلمتي إسرائيل وفلسطين). وإنا لنسأل لماذا لا يكون الاسم "فلسئيل" مثلاً؟.

والتسمية لا إشكال فيها، ولكن الإشكال في خيالية هذا الاقتراح لاصطدامه بكل أنواع الواقع:

الواقع النفسي، والواقع التاريخي، والواقع المعيش. فمن ناحية الواقع النفسي : معروفٌ أن مزاج الشخصية الصهيونية، وما جبلت عليه ـ من عدوانية وغدر، وأنانية، ونرجسية ـ يناقض مزاج الشخصية العربية، وخصوصًا المسلمة. ومن ناحية الواقع التاريخي : نجد أن اليهود لم يتوافقوا مع شعبٍ أو حكومة في التاريخ، ولنضرب مثالاً بعلاقتهم بالدولة الإسلامية الناشئة في المدينة أيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لقد كتب ـ عليه السلام ـ ما يسمى "كتاب الموادعة" وفيه النصوص واضحة بضمان الحقوق، والواجبات لكل الفئات بما في ذلك اليهود، وهو كتابٌ يحكمه العدل، وحسنُ النية. ولكن اليهود غدروا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومالئوا المشركين، وحاولوا اغتيال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا دائمًا مصدر شر وفتنة وغدر، ولم يكن هناك حل إلا إجلاؤهم من المدينة، اتقاءً لشرهم. ويناقض الواقع المعيش: فالصهاينة قد احتلوا الأرض، واستعمروها وطردوا أهلها، ولم يرضوا بعودة اللاجئين أصحاب الأرض الأصليين، ولن يرضوا بذلك أبدًا، كما أنهم يعاملون عرب الداخل معاملة سيئة.

فتوافق الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل دولة واحدة أمرٌ مستحيل بلا نقاش، وقد سأل أحد الصحفيين الدكتور أحمد زكي ـ رحمه الله ـ عن إمكان معايشة اليهود والفلسطينيين في دولة واحدة.

فكان جوابه: إن مثل العنصرين كمثل كوب نصفه فيه زيت، والنصف الثاني فيه ماء، فالناظر إلى الكوب يعتقد أن هناك تجانسًا، ولكن إذا قلبت محتوى الكوب بملعقة تحول محتوى الكوب إلى مستحلب أبيض، وبعد دقيقة أو دقيقتين تعود الحال إلى ما كانت عليه، الزيت كما هو أعلى الكوب، والماء كما هو في النصف الأسفل.

* * *  *

وماذا عن الديمقراطية؟

وقد رأينا من مظاهر إعجاب الكاتب المصري "الكبير جدًّا" بالأخ العقيد رأيه في الديمقراطية: فالعقيد يرى أنها خيانة عظمى، وأن تبادل السلطات معناه أن الحكومات تعامل شعوبها معاملة الحمير... إلخ.

فهل يجهل الأخ العقيد مفهوم الديمقراطية في شكلها الصحيح، وأنها نظامٌ سياسي ـ اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأي المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة.

أما أساس هذه النظرة فيعود إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر الشرعية، وبالتالي فإن الحكومة مسؤولة أمام ممثلي المواطنين، وهي رهن إرادتهم. وتتضمن مبادئ الديمقراطية ممارسة المواطنين لحقهم في تنفيذ هذه القوانين بما يصون حقوقهم العامة وحرياتهم المدنية. وقيام تنظيم الدولة وفق مثال "حكم الشعب لصالح الشعب بواسطة الشعب".

وهل يجهل أن الديمقراطية أصبحت أمل الشعوب المغلوبة على أمرها، والمحكومة بحكام ديكتاتوريين ومتطلعة إلى العدل، ومن البديهيات التاريخية أن الديمقراطية، ليست من مخلفات الشعوب القديمة، كما يزعم القذافي ويصفق له كاتب صحيفتنا القومية.

أما رأيه في النظام الشعبي في ليبيا... نظام اللجان الشعبية .. وأن العالم كله سيلجأ إليه كمنقذ له في حياته فإني أقول إنها نكتة ثقيلة الدم والظل، لا تحتاج إلى نقاش.

* * *

والمعروف أن القذافي تولى الأمر من سنة 1969م حتى الآن (38 سنة) وهي سنوات لم يعشها ملك من الملوك. ودعك مما يقال إنه استقال ليكون قائدا للثورة , ولا سلطة له، فالسلطة كلها أصبحت في يد اللجان الشعبية، وقد صدق أحد الصحفيين حين قال: "القذافي في ليبيا لا شيء، وهو في الواقع كل شيء"، ولا قيمة لتحويل ليبيا من الجمهورية إلى "الجماهيرية". ولكنا نقول: إننا لا نجدُ صوتًا معارضًا واحدًا مواجها للأخ العقيد. على الرغم من تصرفات له تأخرت بليبيا كثيرًا جدًّا . وما زلنا نذكر إهداره لمال الشعب الليبي حين عوض أهالي قتلى طائرة لوكيربي بعدة مليارات من الدولارات، وكانت دية القتيل الواحد 10 ملايين دولار، ومع ذلك يصرح "بأن ليبيا قدمت ذلك بدافع إنساني، وهذا لا يعني أن ليبيا هي التي قامت بنسف الطائرة"!!!.

منطق عجيب لا يصدقه أشد الناس "عبطًا وهبلاً". ولو صدقنا الأخ العقيد، فإنا نسأل ألم يكن الفلسطينيون الذين نسفت بيوتهم، ويعيشون في فقر وجوع أحق بهذا المبلغ أو بنصفه،  وكذلك فقراء المسلمين في أنحاء المعمورة ؟.

وقد اشتهر الأخ العقيد بتمويل ما يسمى "حركات التحرر في العالم" مثل: الجيش الأيرلندي، وبعض الحركات في أمريكا اللاتينية، وتمويل حركة قرنق، وتمويل أعمال أخرى لا يتسع المقال لتفصيل القول فيها.

وفي هذا السياق نذكر أن أغرب المفاجآت كانت ما أعلنته الجماهيرية الليبية العظمى يوم 20/12/ 2003م أنها قررت ـ بإرادتها الحرة ـ التخلص تمامًا من كل أسلحة الدمار الشامل المحظورة دوليًّا، وكشفت عن أنها قررت ـ بعد مباحثات مع الولايات المتحدة وبريطانيا ـ التخلص من كل المواد، والمعدات، والبرامج الخاصة بإنتاج هذه الأسلحة، وقبول الخضوع لمراقبة دولية عاجلة للتحقق من هذه التعهدات.

وقد أشاد القذافي بهذا البيان، ووصفه بأنه "قرار حكيم، وخطوة شجاعة تستحق التأييد من الشعب الليبي، ودعا الدول الأخرى وخصوصًا سوريا، وإيران، وكوريا الشمالية، إلى الاقتداء بالجماهيرية في هذه الخطوة الشجاعة.

وفي 21/12/2003م أعلن مسئولون أمريكيون أن الاجتماعات السرية التي جرت ليلاً بين الرئيس الليبي معمر القذافي وضباط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه)، ونظرائهم البريطانيين قبل عدة أشهر كانت السبب الرئيسي في القرار الليبي بالتخلي عن برامج أسلحة الدمار والشامل. وأكد هؤلاء المسئولون أن القذافي بدا متحمسًا للتخلي عن هذه الأسلحة، وطلب من بريطانيا التوسط لدى واشنطن لبدء هذه الاتصالات.

وفي 27/12/2003م أعلنت ليبيا أنها ستوقع البروتوكول الإضافي لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية الذي يسمح لمفتشى الأمم المتحدة بعمليات تفتيش المنشآت النووية بعد إبلاغ الجهات المعنية بفترة قصيرة قبل البدء فيها، وأكد وزير الخارجية الليبي أن طرابلس ستتعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشفافية تامة.

وهذه القرارات المتلاحقة، والتصريحات القذافية المتتالية رحبت بها ـ في صراحة معلنة ـ الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل، كما وضعت سوريا، وإيران في حرج شديد، وأخضعت سوريا بالذات لضغوط شديدة، وتهديدات أمريكية متلاحقة، زيادة على جرح كبرياء الدول الثلاث: سوريا، وإيران، وكوريا الشمالية، بدعوتها إلى الاقتداء بليبيا في خطوتها الشجاعة؛ لأن العالم كله يعلم أن "صدام" ـ بعد سقوطه ـ هو السبب في اتخاذ الحكومة القذافية هذه الخطوة "الشجاعة جدًّا" إنها الأنانية، وحب الذات والتشبث بكرسي الحكم.

ثم في النهاية نسأل: كم مئات من المليارات أنفقت على هذه المشروعات النووية التي انفضت وانتهت؟ وهذه المئات من المليارات كان من الممكن أن تجعل من ليبيا جنة الشرق والغرب، ودولة من أقوى دول المنطقة.

ترى ـ بعد هذه البيانات ـ أما زال كاتبِ صحافتنا القومية يؤمن بالعبقرية القذافية؟

وأقول: هو حر في إيمانه، وحسابه على الله.