إسرائيل لم تفقد «كنزها الإستراتيجي»!

في شباط في العام 2011، لم يتردد المسؤولون الإسرائليون في الإعلان عن انزعاجهم من إطاحة الرئيس المخلوع حسني مبارك، غداة «ثورة 25 يناير»، معتبرين إياه «كنز إسرائيل الإستراتيجي».

لم يكن مبارك الرجل الذي بدأ مسيرة السلام مع إسرائيل، لكنه كان الرجل الذي حافظ على العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل وبين أكبر بلد عربي، والذي أصرّ على بقاء مصر بعيداً عن خطوط المواجهة مع إسرائيل، والرئيس الذي شهد عهده تطبيعا اقتصاديا مع إسرائيل في مجالات الزراعة والطاقة والثقافة وغيرها، فضلاً عن مشاركته في حصار الشعب الفلسطيني في غزة، وقيامه بدور مركزي في حماية الحدود الجنوبية لفلسطين المحتلة عبر حصار المقاومة.

السفارة الاسرائلية على ضفاف النيل التي لم يكن يجرؤ أحد على المرور قربها في عهد مبارك، حاصرتها التظاهرات عقب الثورة، وتم اقتحامها شعبيا، في إشارة واضحة إلى أن الثورة على مبارك تشمل الثورة على سياساته الخارجية وخاصة في العلاقة مع إسرائيل.

عندما بدأ نجم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في السطوع، بدأت أطياف الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر تلوح في الأفق، ما اعتبر في إسرائيل تهديداً يفوق تهديد «ثورة 25 يناير».

وبالرغم من أن الرجل لم يعلن أي موقف مناهض للكيان الصهيوني، إلا أن مجموعة من العوامل ساهمت في رسم صورة لعهده على أنه اعادة احياء للعهد الناصري.

أول تلك العوامل، تمثل في الخلفية العسكرية للسيسي، والتي يشبه فيها عبد الناصر، وثانيها، وربما اهمها، عداؤه الشديد لجماعة «الإخوان المسلمين»، والذي ذهب فيه الى أبعد مدى، ما ذكّر بصدامات عبد الناصر مع الجماعة ذاتها في ستينيات القرن الماضي.

يضاف الى ذلك، التناقضات الأولى بين نظام السيسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي وصل الى حد منع مساعدات عسكرية واقتصادية عن مصر، وهو ما أسهم في ظهور السيسي على أنه الرئيس الذي تجرّأ على تحدي الإرادة الغربية، التي تحداها عبد الناصر قبل أكثر من نصف قرن.

أحسن السيسي العزف على الوتر الناصري، وإن بشكل غير مباشر، فغلّف تناقضاته مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالخطاب الوطني ذاته الذي اعتمد في الحقبة الناصرية، وتوجه الى إقامة علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية قوية مع روسيا، مستعيداً نفس تجربة عبد الناصر مع الاتحاد السوفياتي.

كل ذلك ساهم في بناء التصورات التي ربطت بين السيسي وعبد الناصر، ودفعت البعض الى القول إن ثمة اعادة احياء للتجربة الناصرية، بما يشمل، حتى، اعادة احياء الصراع مع اسرائيل، وإن على أسس جديدة.

لكن هذه التصورات لم تستمر كثيراً، فالسياسات الفعلية التي انتهجها السيسي في ما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي كانت تتناقض بشكل جذري مع سياسات عبد الناصر، الذي كانت إحدى أهم مفردات زعامته مصريا وعربيا موقفه من إسرائيل.

قبل ايام، تحدث السيسي، خلال افتتاح محطة كهرباء في صعيد مصر، فأشاد بدفء السلام بين مصر وإسرائيل، ووجّه رسالة الى «الشعب الإسرائيلي» طالباً منه السعي الى السلام، معتبرا أن «هناك فرصة حقيقية للتوصل إلى سلام دائم وشامل مع الفلسطينيين بما يحفظ أمن إسرائيل ويُحقق مصلحة أجيالها القادمة».

هذا الموقف أعقب لقاءً بين السيسي والرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، وسبق لقاءً أخر بوزير الخارجية الأميركي جون كيري.

ما قاله السيسي قوبل بترحيب حار في الأوساط الاسرائيلية، لكن «المبادرة» هذه لم تكن الخطوة الأولى، أو حتى الأهم، التي يخطوها السيسي في اتجاه الكيان الصهيوني.

العنوان الذي وضعه السيسي لعهده هو «الحرب على الإرهاب»، وميدانها الرئيس هو شبه جزيرة سيناء، التي تجاور حدودها إسرائيل وقطاع غزة. كان التعاون والتنسيق بين مصر وإسرائيل في الحرب على الإرهاب في سيناء مبعث تباه للمسؤولين الإسرائليين، لا بل تم التوصل الى تفاهمات لتعديل بعض بنود اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية للسماح لقوات مصرية بالعمل في مناطق عدّة في سيناء.

في المقابل، اعتبر النظام المصري أن قطاع غزة يمثل أحد روافد الإرهاب في سيناء، ما استدعى إحكام الحصار والتضييق على الفلسطنيين، في ما يرقى الى ما يمكن اعتباره عقاباً جماعياً نتيجة الخصومة مع حركة «حماس»، المرتبطة بجماعة «الاخوان المسلمين».

العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسرائيل لم تتوقف في عهد السيسي، بل على العكس، فتصدير الغاز لإسرائيل بموجب صفقة أبرمت في عهد مبارك، توقفت عقب الثورة بعد تفجير خط الغاز في سيناء مرات عدّة، بينما بدأت مصر في التفاوض على استيراد الغاز من حقل «تمار» الإسرائيلي.

وللمرة الأولى منذ قيام إسرائيل، صوتت مصر في عهد السيسي لصالح الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة، لكي تحصل تل أبيب على عضوية لجنة الاستخدامات السلمية في الفضاء الخارجي، في ما اعتبر سابقة تاريخية ليس لمصر فحسب، وانما للدول العربية ككل.

حديث السيسي في صعيد مصر قبل أيام، سبقه حديث آخر في نيويروك في تشرين الثاني في العام 2015، حين دعا الرئيس المصري الى توسيع اتفاقية كامب ديفيد لتشمل دول عربية أخرى.

ولكن الحديث عن دمج إسرائيل في المنطقة، وتعميم اتفاقية السلام لتشمل دولاً أخرى، انتقل مؤخرا من حيّز الأحاديث الى الفعل.

وربما كان اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، الذي بموجبه انتقلت تبعية جزيرتي تيران وصنافير من مصر الى السعودية، مدخلا استثنائيا لمد جسر بين إسرائيل والمملكة السعودية، فالجزيرتان تقعان ضمن اتفاقية كامب ديفيد، ضمن المنطقة «ج»، والتي تمنع وجود أسلحة ثقيلة فيها، كما تلتزم الدولة، التي تتمتع بالسيادة عليها، بضمان الملاحة في خليج العقبة للسفن الإسرائلية. وانتقال السيادة على الجزيرتين للسعودية يلزمها بنقل التزامات اتفاقية كامب ديفيد اليها، والتي يمكن التنسيق في بعضها على الأقل مع إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو عبر وسيط. وفي كل الأحوال يعتبر ذلك نقلة نوعية في العلاقات العربية الإسرائيلية. ويعني كل ذلك، تحولا هاما في شكل المنطقة، ومصير القضية الفلسطينية، خاصة إذا تطور الأمر إلى تعاون اقتصادي بين إسرائيل ودول نفطية.

السفارة الإسرائيلية التي اقتحمها الثوار في العام 2011، عادت مرة أخرى بعد اقفالها لفترة طويلة، والعلاقات بين مصر وإسرائيل ازدادت عمقا ودفئا، حتى أصبح الرئيس المصري مبشراً لعلاقات عربية ـ إسرائيلية ربما لم تحلم بها إسرائيل من قبل.

لم يبق شيء من أطياف عبد الناصر، التي رآها البعض بقدوم السيسي، بينما ربحت إسرائيل في عهد السيسي ما لم تربحه حتى في عهد انور السادات، وبعده في عهد حسني مبارك «كنزها الإستراتيجي».

وسوم: العدد 670