جداريّات... أو رحلة المتنبّي الثّانية إلى مصر

صدقي شعباني

*** تصدير:

أعنّي قليلا ببعض يديك

فمازال ريشي يصارع أن يخرج للكون

دون انتباه النّسور...

ومازال ريشي قليلا من الزّغب الأصفر

المتموّج...

مازال ريشي يحنّ إلى مطلق للرّحيل

******************

1

ممالك الشّعر لها باب...

حاجبها يأتي ليغلق النّوافذ

ليطلي الجدران بالأسرار؛

حاجبها اليوميّ ــ

ليس له اسم،

عرفته من وجهه الأسير

من فمه

من خطوه في اللّيل...

حاجبها اليوميّ ــ

مبتدئ في الشّعر

يقرأ أحيانا /

للمتنبّي ــ

       بيتين...

يشرد في البيت وفي البيت

يترك للصّورة أن تفتح أبياتا

في قلبه...

يغمض عينيه ــ

فتأتي مدن الشّعر

وتأتي مدن أخرى...

تعرف هذي المدن الأخرى

معنى دمي...

2

كيف أقول دائما ــ

مرتّبا كلامي المخبّأ الرّجراج ــ

ـ المتنبّي...؛

أقولها مرارا.

وتفيض الحروف من ذاكرتي،

يخونني الكلام...

تنوش قلبي السّهام ــ

كلّما أوليت وجهي نحوه...

ـ أحمد... يا جعفيّ!

هات يديك أقرأ ــ

أشجاني!!

لنبك لحظة

معا...

في صمتنا الأخير.

ـ أحمد أنت تعرف البكاء،

وتعرف الممالك الّتي تبيع كلّ شيء:

من صرخة الضّمير ــ

لمقعد الأمير...

لنبك لحظة.

 واحده.

في الجسر، يا جعفيّ،

ذكرته...

واللّيل حاجب يوارب المدائن

                   الحزينه ــ

لم تستطع أن تسكت القصيدة

                   الأخيره...

والصّمت يصنع الكلام،

يصنع الآلام ــ

هذا الصّمت، يا جعفيّ!!

ذكرت عبد الله،

والنّغمة الشّجيّة الحزينه.

( ومصر هذه

لها كافورها

وبابها الأغلال في يدك!!)

3

للدّمع طعم الملح، طعم الماء تنضحه الزّوارق خلفي، تعييني العبارة، ظلمة اللّيل الأسير، وشكل نافذتي الّتي أغلقتها، وفتحتها، لا بيت لي ـ عذرا ـ ونــافذتي المجاز، خواطري، أوردتي، شراشفي، ولون ذاكرتي، وأزمنة العتاب... أرى الكلام ـ أسمعه، فتحترق الأصابع! لماذا تحترق الأصابع؟ لماذا تحترق الأصابع، يا سيّدي البهلول، حين ينزعني الكلام، يمزّقني؟! لماذا يحترق الكلام؟!... سأقول إنّ الحرف إصبعيّ المنقوص، إصبعيّ المقصوص؛ وإنّ الحرف عيني الرّمداء، تؤلمني، فأشقى بها قليلا، أداور الألم بها، فأنسى أنّ الحرف مطلق كائنين هوائيّين، وأنّ الحرف ترميه اللّغات، فيشرب من دمي...! يا أحمد، يا من أخفتني في منامي، يا شريد الأماكن مثلي، أريد أن أنأى مليّا في اعتراف حاسم... أريد أن نحيا قليلا خارج الأوزان، خارج اللّحظات... أريد أن نحيا ـ أنا وأنت ـ: أنا صدقي الخطأ، صدقي اللاّمسمّى، وأنت أحمد ـ أحمد الكنديّ، في دمعة تأتي من سمرقند، تأتي من سفور الرّافدين، وليلة قمراء، تأتي هكذا، في غيمتين من الكافور والمسك المعطّر، تشرب من يدي، أسقيك من قلبي، لعينك، يا حبيبي، فأنت منّي الجرح، منّي الحروف القاتلات، دمي منّي، أريد أن أبكي، وأن تأتي فتحضن ساعديّ بلا كلام...

للدّمع طعم الملح، الحرف ملح آخر، الحرف عضو هارب منّي، يقتفي أثري، والحرف لا معنى، بلا مبنى، فاللّغة الّتي تحكي انتفت، واللّغة الّتي تأتيني بالشّعر، وبالصّور الّتي أدمنتها زمنا، رصفتها في خاطري، دررا تذيب أوردتي، فأحسبني الأمير، هذه الصّور انتفت أيضا، ولم يبق سوى الحرف الشّقيّ الهارب من فلول أزمنتي، الشّريد المرّ...! آه لهذا الحرف منّي، عضوي المبتور، يبكي وحيدا ـ ضائع تلفظه الأزقّة والمضائق، تلفظه القصائد، والبحور، تسحبه الأماكن من وريد وريده، والجرح باق في الضّلوع!! الجرح شيء ثابت كالحرف، لا معنى، بلا مبنى، يمزّقني، جسدي بذا الحرف احتراق في متاهات التّدلّه والتّجاذب في مدار المستحيل وممكن الأشياء، وتراتب في سلّم الوجد، المقام القادم، الصّوت الخفيّ إذا انجلت للرّوح مملكة القصّاد! الجرح شيء ثابت كالحرف؛ من دون الحروف، جسدي يتيه في حمّى النّشيج، يساوره التّشتّت من فراغ القلب، آلام الضّجيج، وغيمة سوداء تأتي كي تقيم ممالكا في الرّأس الثّقيل... عفوا، يا حبيبي، أنت بعد الشّاعر التّيّاه ـ يا أحمد، وقطعا تذكر الحروف جميعها، وتذكر الأسباب خفيفها وثقيلها، تذكر الأوتاد، والأعجاز، القوافي؛ لكنّما الحرف لتعرفه لا بدّ أن تنسى الكلام، وأنّ الحرف الّذي أدمنته في الشّعر قد صار منّي عضوي المبتور... الحمّى، الحرارة ذاتها، وبمصر، في فراغ الخوف، في نفس الحجاز، وفي السّماوة، في بريد لا يبلّغه السّعاة، وفي كلّ  شيء يتخلّى عن ألوانه، ويبدّل ثوبه... الحمّى... الحمّى... لو لم أخف أن يرجموني لقلتها! لو لم أخف أن يحرقوني لقلتها! وستغفر لي، فمقام وجدنا واحد، والحمّى شيء واحد، فابذل لي مطارفك الثّقيلة أغطّيها بها، يا حبيبي، ولأغنّ راقصا حدّ الدّوار:( بذلت لها المطارف والحشايا / فعافتها وباتت في عظامي )

4

لا أدري بعد ما أريد، أو كيف يحملني الكلام إلى الكلام، أو كيف تسحبني القواقع خلفها، البحر أطلبه فيجذبني الضّجيج، وتثبتني المدائن بينها ترسا لأزمنة التّرسّل والضّياع... وتثبتني المدائن صاريا في جوفها، وأنا الشّريد، أريدها أن تختفي كي أبني الجدران ثانية، وأقول للأشجار، يا شجري الحبيب، فلنرحل معا، ولتعطني أوراقك الخضراء، أكتب فوقها ألمي الجديد؛ وأقول للأشجار، يا شجري وداعا! فلتفكّر أن تراني آخرا،  الجرح جرحي ، لا القصائد كلّها، لا الأبحر العذراء، لا الجرس الشّتيت؛ وأنا هنا، لحن جديد! الصّمت يسكنني، السّكون، أرى المدائن تختفي بيني وبيني، أرى الصّواري تقتفي أثري ، فأهرب خلفي تماما كي أقول لدمعتي الأخرى سلاما!!... إنّني أحرقتها، أعطيتها شعري القديم، ورغبتي الأخرى بان نحيا معا، وبأن نموت إن متنا معا، وبأن نرطّب دمعنا، ونقول للأحزان هيت لك، ونموت إن متنا معا... لكنّني مسخ جديد هارب من أسطري، من خانة الأوزان، هذا الشّعر يهرب من دمي، لغتي قبر لأزمنة الضّياع؛ وليتها تنأى المدائن، تختفي، فأقول إنّ البحر أعتقني، وإن الموج يحيا من جديد!!

5

سنكون في مقهى إذ شئنا ــ

+ تأت معي؟!

نشرب الشّاي،

ونضحك في السّكون...

الثّانية ظهرا.

ستخطئ إذ ترى النّدل

وأنفاس الدّخان،

وصوتها يأتي من الزّمن المهرّب /

                             في الجفون...

وستخطئ...

كم مرّ من حول ولم ترني؟

كم مرّ من صيف ولم نشرب معا؟

كم غالبتنا الأغنيات...؟

إنّها خمس عجاف،

في خريف العمر:

تبدلني الضّجيج بهدأة الصّمت الحزين،

وتبدلني الأماكن بالمنافي،

تبدلني المدائن ــ

هل حقّا سلوت الشّمس في مدني الضّنينة بالبكاء؟

هل حقّا غرزت الخنجر المسموم في أحشائها؟

هل حقّا سلوت الموت في أعطافها؟

عذرا، ستمنحني السّيجارة

إذ نرى النّدل معا:

يضع الطّبق المهيّأ للتّداعي،

ويرسم الشّفتين خطّا للنّشيد،

ونراه ينأى مثل حلم الثّانيه...

ظهرا...

ستمنحني السّيجارة...

+ كم مرّ من صيف ولم نشرب معا؟

لم ندخّن؟

إنّها الخمس العجاف!

ستعذرني، فقد أدمنتها،

ولا يحلو لي الشّاي ــ

وأشربه!

أمّا الدّخان فليتني...

لكنّي أقلعت عنه!!

( هذا المكان أراه ينأى، والقلب مذ أغلقته صرت حبيسا في مدار جنونه، يا ليت ما كان انتهى يأتي فيفتح طاقة للشّعر وللنّثر معا، يا ليت ما كان انتهى يضع الطّلاسم مرّة أخرى فتحملني السّنون إلى المتاه وللنّشيد، ولغابتي الخضراء، للحبّ الذي أعطيته تفّاحتي، وملأته من سجسج الأشواق، والحلم الوليد... هذا المكان ( خمس خلون ) ـ أرى غريبا، أرى شريدا يلبس الأسمال، شيخا فانيا، والنّبض يحبو حافيا، الجمّة الغبراء، والنّعل الّذي أدمى الأصابع... والشّفاه رأيتها، ورأيتها بحرا، وملحا، وملاّحا رماه البحر خلف الملح كي يقضي ولا يقضى عليه... هذا المكان ـ هي المدائن، والزّمان هو المدائن، يا ليتها الـ ـ الخمس الـ ـ خلون تعيدني النّبض الضّنين، وتعيدني شيئا من الشّعر القليل، تعيدني كوبا من الشّاي المعطّر في شتات الأزمنه... وتعيدني سيجارة أشقى بها ريحانة ـ

بعضا من الصّمت العليل؛ لكنّني... ) 

6

كلّما حاولت أن أهوي على الأوراق أدركني، وقال لي استنطق جوابك، واقترف شيئا فشيئا بعض شدو الحرف تسرقه، وتعطيه لمعمعة السّؤال؛ هذا الكلام: بسيطه وغريبه، وقريبه وبعيده، مجازه بين الإشارة والعبارة، والكنايات الّتي لا تفجع القلب المرير، فتحجب السّرّ المرنّق بالنّشيج، والشّقشقات، وما للحروف من وعد الهروب إلى المجاهل والأقاصي، وما للحرف من لغز يبلّغه الحجاب، فيرتكي بين الطّنافس، سيّدا، يعطي الأمير بداية السّمر الموشّح بالحكايا، عن ملوك الجنّ... عن ترنيمة تقصي النّقاط عن الحروف... عن ترنيمة تأتي بمدّ البحر بين الدّور تحجبها، وعن ترنيمة تستنطق الأسوار والأسرار... يا سادتي:ـ هذا الأمير، يخامر كالمقامر، والحروف مباهج ياسمين، وأحمد الآن الشّويعر حين يشقى بالمديح. كلّ الحروف يقولها وتقوله، وتقوله ويقولها، ويخامر كالمقامر، كالأمير، فالذّكريات هنا انتفاء، لا التّاج تاج، لا المدائن، كلّها كانت ضحايا قهقهات الحرب، صلبانا لمعمعة الصّهيل...

7

كلّما حاولت أن أهوي أراه، فيرعبني السّؤال، ولا خيار، منه اعتنقت الحرف سيفا، وانتهيت للإجابة عن سؤال الشّعر؛ منه انتفيت ساعة خلف احتضار الحروف، علّمني الهروب من المدائن للمدائن، واستقاني من ألف باب للبحور: سيظلّني وأظلّه، ويضلّني عن سؤال الحرب... عن بيروت في ذاك المديح... وإذا أحجمت عن هربي الأخير، لأنّني أحببته، لا بدّ أن يلقي يديه فأقرأ الخطّ المديد ـ بلا حروف؛ هنا القنابل تختفي بين المضائق، ترسم الوجه الطّريّ خرائطا للموت، تهرق الحلم انكسارا في الوريد، هنا الجدار ولا جدار، هنا النّهار وساعة أخرى ليحتفل الرّصاص بنهنهة الوليد... يا أيّها الحرف الوحيد، الأبجديّة سافرت مذ طلّقتني، والهوى لا شيء إن جاش الكلام فلا يرام؛ ولا كلام اليوم، يا "درويش"، غير غضاضتي، فانزع سؤالك عنّي، واعفني، إنّي أحاول أن أرى هربي مليّا، وأن أطلّق كلّ سور في المدينة، أن أهرّب شارعا، نافذة حزينه؛ لأقول للقصّاد: بيتي ههنا، جوزوا إلى الأسرار، والحوا خلفكم سجف الجواب. بيتي أنا حرف الإشارات وزمزمة النّشيد!!

8

الأماني كالغواني، إن أطلت السّؤل مالت للتّداني، ريثما ألبستها حلل الكلام، وزنتها في الوصف أسوارا من الفيروز والمرجان، أوطأت الفؤاد لها بساطا للحنان ساعة كي تغنّي:"هل ترى يحلو زماني للتّداني؟!!"... الأماني كالغواني إن خطوت انصرفت عنك بصدّ، فإذا جزت السّلوّ احترقت شوقا وذوبا للتّداني!! يا زماني، لم أجد غير البديع، وقلبي المقتول لم يأنس لشيء كالبديع، فما الأماني غير أحلام حسان...ربّما ـ شيخي أقلني!! ـ يمّحي كلّ المديح على "المواقف"، فإذا تناظرنا تخاطبنا، وكان البيت والبيتان أشباها لذكرى؛ ربّما إن مسّدتني مقلتاك، وجست في قلبي، فأقررت التّراقي، لملمت كفّي شتاتي، واحتملت الرّابض المسكون بالشّعر فألقيت احتراقي، واشتقاقي، وانطلاقي، وانعتاقي؛ ربّما ألقيت درّاقي، وعشّاقي، وسرّاق الفؤاد، ودارة الأشواق خلفي، كي أطير بلا جناح... هات بدايات الإشارة، شدّني من جانحي روحي أر... الأماني ساعة: بيتي، وأحبابي، وقصّادي، وشارعا في اللّيل يأنس لهجتي، نخلا تهدّل من نسيم الاعتلال، مضغة في القلب أعيته: شذاها، سلسلا في الخدّ أحياها، لماها، طرفها المكحول، ليلا سابلا كاللّيل يرقص في النّسيم إذا اثنت تمتدّ كشحا، ثمّ جيدا، ثمّ خصرا، ثمّ كعبا، ثمّ سنّا ضاحكا يشتقّ فاها!!... أي أنا، شيخي رقاني خلف أغصان الهجوع، وجانحا روحي تسامرا في الوقوف، فلا جسد، كلّ العوارض سافرت نحو البلد، والحرف لا معنى، بلا مبنى، رقاني الصّوت بالصّمت، احتبست لحظة، كانت يداه على فؤادي... الصّابرون!... الصّابرون!... و"التّين والزّيتون"... انظر تر... نفسا رقى، فيك اعلتى بالنّور، أنهار المنى... انظر بعيني فؤادك، ما ترى؟!! كلّ الأساطين!؟! ولكن طيف من هذا؟ طيف من هذا؟ تمهّل، يا مريد، فمقام الوجد للبصر الحديد؛ وإنّما هذا المقام بداية المعراج وزمزمة الصّعود!!... الصّابرون... الصّابرون... الحامدون على "المواقف": كانت يداه على يدي، ثمّ استكنت على يديه، هشاشة الطّيف اعترتني، وجدت مسّا كالخرير، رأيت بحرا ساجيا، الماء أعرفه، أو كنت اعرفه، لكنّني أثبتّ ألواحا حسانا، أردت أن تمتدّ عيناي إلى الحرف المبعثر في اللّغه، قامت يداه ستائرا، كانت سوادا، قال لي:ـ مازلت تغرق في الكلام، مازلت أرضيّا، والرّوح تثقله العوارض، هات يديك على يدي، وافتح مرامك في الإشاره... 

المتلوّي في: 15 – 1 – 2007