دارفورُ كَفَى نحيباً

عبد الرحمن هارون

[email protected]

كنا صِغاراً وكانَ الأوانُ خريفاً

نلهو بوردِ البراري نرعى البَهَمْ

نصنعُ من الطِينِ قيثاراً وطَبلاً

نمضي النهارَ نعزفُ أروعْ نغمْ

وعندَ الهُطولِ نهُبُّ سِراعاً

نجمعُ ثلجَ السماءِ بكفٍّ وفمْ

ننصُبُ للطيرِ حولَ الغديرِ شِراكاً

ما أشهى الشِواءُ بوادي الكَرَمْ

قُبيلَ المغيبِ نسوقُ القطيعَ بطيئاً

وحزنٌ كثيفٌ يجيشُ بنفسٍ وغَمْ

فما بالُ النهارِ يولِّي كسهمٍ

يقتلُ لهوَ الصغارِ فيطغى الألمْ

يَشُحُ المنامُ فتمضي الليالي ثِقالاً

وكيفَ ينامُ قَريراً من لشوقٍ كَتَمْ؟!

الشوقُ لصحبٍ كوردٍ تفتَّحَ فجراً

شمائلُهم ما بدتْ في الأُمَمْ

ما هَمَّني من أيِ القبائلِ جاءوا

فكلُّ ما عدا صُحبَتي لا يَهُمْ

نعمْ في البَدءِ كُنا قبائلَ .. أعراقَ شتى

فِينا الأعاجمُ وفينا فصيحُ الكَلِمْ

ثم كان الجِِوارُ تلاهُ انصهارٌ

كإنصهارِ كِرامِ المعادنِ في خَتَمََْ

فصارَ الكلامُ خليطاً جميلاً

من القلبِ ينبعُ حُلوُ الطعمْ

وصارَ البعيدُ قريباً حَميماً

كأنِّي بهِ أخٌ من رحِمْ!

زالت حواجزُ .. ذابت ثلوجٌ

فصارَ الإخاءُ بديلاً لثأرٍ ودمْ

تراهم جميعاً يهُبونَ فجراً

يومَ النفيرِ(*) فتعلو الهِِممْ

وعندَ النوائبِ كانوا أُسوداً

ما تأخَّرَ القومُ يوماً حتى اللَمَمْ

صًفَتْ أنفُسٌ وطابتْ نوايا

فجادَ الإلهُ الكريمُ بخيرٍ أعَمْ

عَمَّ البلادَ إزدهارٌ وأمنٌ

جزاءً لطِيبةِ قلبٍ وشُكرِ النِعَمْ

لخُلُقٍ رفيعٍ وفيضِ حياءٍ

لأرِيحيَّةٍ ونُكرانِ ذاتٍ ونُبلِ القِيَمْ

دارفورُ يا مَهدَ الأمانِ تكلَّمي

فالصمتُ صمتُكِ هدَّنا يا خيرَ أمْ

دارفورُ كفى نحيباً أفصِحي ماذا جرى

حتى توارى الخَصْبُ في مَوجِ العَدَمْ

وحتى صارَ لونُ الأرضِ أحمرَ قانياً

فكم سالتْ دِماءٌ .. كَمْ وكمَْ؟!

وكسى السوادُ حقولَنا يا للأسى

بعد إخضرارٍ حَفََّها منذُ القِدَمْ؟

وتحوَّلت البيوتُ إلى ركامٍ بائسٍ

أينَ الشُموخُ .. أينَ الرحابةُ والزَخَمْ؟

حتى المساجد والمدارس دُمِِّرَت

وأُغتيلَ من فيها بقسوةِ مُنتقِمْ!

ذُبِحت نساءٌ كالنِعاجِ ورُضَّعٌ

وفعلَ الذابحِ (الصِنديدِ) لا أحدٌ يَذُمْ!

الذبحُ طالَ منْ بالأمسِ كانوا إخوةً

ما نجا منهم سقيمٌ أو كفيفٌ أو هَرِمْ!

يُنهبْ مسافرُنا ويُقتلُ إنْ أبى!

وكان المسافرُ عبرَ ربوعِنا يُفدى بدَمْ

فماذا جرى حتى تحوَّل كاملاً

هذا الذي بين الضُلوعِ تطرَّفَ وانفصَمْ

الحزنُ في مُحَيَّاكِ يا دارفورُ عذَّبنا

أما كفانا ما ذُقناهُ من ألمَََْ؟

أعلمُ كم قاسيتِ من العُقوقِ مُلازِماً

وتوالت الأزمات دارتْ كالحِممْ

وكم كانت جِراحُ الغدرِ غائرةً

يأتيكِ من كلِّ ناحيةٍ رُمحٌ وسهمْ!

ولكن لا مَناصَ من الكلامِ حبيبتي

فالبَوحُ مطلوبٌ لمعرفةِ السَقَمْ

هل دسَّ شِرارُ القومِ سُمَّهمو

زرعوا العَداوةَ بيننا وأَدوا القِيَمْ؟

أمْ هي الأطماعُ ما بَرِحَت تُراوِدُ بعضَنا

فماتت ضمائرُهم .. خرِبتْ ذِمَمْ؟

أم التعصبُ للقبيلةِ هذا الذي نرى

هل لجاهليةٍ عُدنا؟ .. وا عجبي نَعَمْ!

كم بَسُوساً(*) خاضها آهلُ التعصُّبِ يا تُرى

ماذا جنوا غيرَ التحسُّرِ والندمْ؟

وما هذا التعطُّشُ للدِماءِِ يجِيشُهم

كانوا كمَن إقتاتَ بالدمِ أو بِهِ فُطِمْ!

دارفورُ كنتِ لنا الملاذَ ودَوحةً

كنتِ الدواءَ لكلِّ نازلةٍ وهَمْ

كنتِ السماحةَ والبَشاشةَ والقِرى

كنتِ السماءَ لنا وقمَّةً فوقَ القِمَمْ

دارفورُ غاليتي لا تيأسي

قاومي الضيمَ العظيمَ بصبرٍ ينهزمْ

فالضَيمُ مهما اشتدَّ أو طالَ ليلُهُ

لابدَّ مُنقَشِعٌ في الفجرِ لم يَدَُمْ

الذبحُ طالَ منْ بالأمسِ كانوا إخوةً

ما نجا منهم سقيمٌ أو كفيفٌ أو هَرِمْ!

يُنهبْ مسافرُنا ويُقتلُ إنْ أبى!

وكان المسافرُ عبرَ ربوعِنا يُفدى بدَمْ

....................................

(*) النفير: عمل جماعي تطوعي يتسم بالحماس و التفاني.

(*) بسوسا: إشارة إلى حرب البسوس الشهيرة في الجاهلية.