قصيدتان ... للنوبة

السيد إبراهيم أحمد

لصناجة النوبة

السيد إبراهيم أحمد

[email protected]

صدق من قال أنه يندر أن تجد قصيدة عربية إلاّ وبها حنين إلى الوطن أو ذكر المنازل والديار، ولعل من يتابع قصائد شعراء المهجر ليلمس بحق جروحهم النازفة بألم الإغتراب وتباريح الاشتياق إلى مهاد الطفولة الغريرة ، ومطالع الصبا والشباب ، ومراتع الهوى ، والحنين إلى دروبٍ طالما داستها أقدام العاشقين.

ألم يحن شعراء العرب القدامى إلى ديارهم ، ألا فليرجع من شاء إلى ( المعلقات ) ليجد الكلمات المشتاقة ما تزال ساخنة كأنها كنبت بالأمس ،ألم يقل امرؤ القيس بن عمرو الكندي :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل

   ألم يحن الصحابة رضوان الله عليهم إلى المكرمة مكة أم القرى وهم فى المدينة المنورة ،بل خرج الشعر من حنايا سيدنا بلال الحبشى متطلعاً لأيامه بها وهى التى شهدت وقائع تعذيبه على يد أمية بن خلف ومع هذا اشتاقها حتى قال متمثلاً :

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بواد وحولي أذخر وجليل

وهل اردن يوماً مياه مجنة

وهل يبدون لي شامة وطفيل

      وهل خرج الشاعر محى الدين صالح عن قانون عشق الوطن حين صدح بصبابته وجهر بلوعته شعراً صارخاً / صامتاً يكابده فى حناياه وحده كالنائحة الثكلى على فقد وليدها .

والحق أن شاعرنا لم يخرج عن سرب الشعراء الذين يعاينون الغربة ويعانونها فى صمت وفى أدب وفى لوعة فلم أعهد الرجل إلا هكذا ؛ إذن فلم يكن غريباً أن يخرج علينا بقصيدتيه عن موطنه الحبيب ( النوبة ) وقصة تهجير الأحبة منها حيث عالم جديد مازالوا حتى تاريخه نبت غريب فيه ، لم تألف جذورهم تربته ولم تتوحد مع أرضه برغم أنهم لم يذهيوا بعيداً عنه ، وقصة التجير طويلة ومريرة ولعل من أرد متابعتها وتعمقها فليرجع إلى كتاب : [ قصة تهجير أهالى حلفا ( هجرة النوبيين ) تأليف :حسن دفع الله ] .

دعونى أدعوكم للاستماع والاستمتاع بالتياع صناجة النوبة حيث يقول:     

القصيدة الأولى  :

’’  نِداءٌ مِن النوبة  ’’

سعتْ  في ربوع المَجدِ تذرِفُ iiأدمُعا
تُـعـانـي عُقوقا .. لا يليقُ iiبمِثلِها
عـزيـزٌ عـلـيها أنْ تَفَرّق iiنسلُها
تـراءتْ لأهلِيها .. فمَا استبقوا iiإلى
مُـنـاهـا رِجـالٌ يحفظونَ تُراثها
وإمَّـا  .. فـتـىً جلدًا يُعيدُ iiشبابَها
فكنتُ  لها صَنَّاجةً [2] غَرِدًا .. iiوما
حـريصا  على نشر الوِئام iiوفضلِه
أُنـادي بـني قومي الكرامَ .. iiلعلنا
فـحـتـى متى نغشَى موائدَ iiغيرِنا
ويا  أمة الأمجادِ ... أين تليدُكم ii[3]
حـقـيـقٌ عـلينا أن نُوحِّدَ iiجمعَنا
شِـعـارُ الـتواصي سَمتُنا iiوسبيلنا
وإنـي وإيـاكـم نَـتوقُ إلى iiالعُلا
قـبـيـحٌ  بِـنـا ألا نعودَ iiلرُشدِنا
نُـنَـحّي  عداوات الخُصومةِ iiجانِبا
بِـهـذا – بـني قومي – نَبَرُّ iiبِأُمِّنا
















عـلـىَ  إرثِ أجـدادٍ أُبيدَ iiوَضُيِّعا
وتـبـكي  ربيعا في المحافلِ iiشُيِّعا
فُرادَىَ .. يُحيلون المراتعَ بلقعا ii[1]
حِـمـاها.. وإن كانوا هُنالِكَ iiشُرَّعا
وتـرجـو  بَـنـيها للقيام بِها iiمَعا
إذا راحَ يـدعـو الناسَ قال iiفأسمَعا
تـخـلفتُ  يوما عن إجابة مَنْ iiدَعا
بـمـا  كانَ في العُقبى أجَلَّ iiوأنفَعا
نُـلـبـي  نِداها .. خِيفةً iiوتضرُّعا
وتـاريخُنا  يَحوي المكارمَ أجمَعا ii؟
وإرثُ الأُلىَ طافوا المشارِقَ أربَعا ؟
فـنـرتـادُ  أفـقـا شامِخا iiمُتمنِّعا
لـنـمضي  به نحوَ الفضائلِ خُشَّعا
ولكنْ .. متى كان التشرذُمُ مَطمَعا ii؟
فـهـيـا  لجمعِ الشملِ نمدُدُ iiأذرُعا
ونـسـمُـوا على كل الفِعَالِ iiتَرَفُّعا
وإلا  .. دَعـوهـا iiلـلـوسـاوسِ

1- المراتع : الأراضي الخصبة التي فيها خير  ، والبلقع الأرض الجدباء التي لا خير فيها    2-  الصناجة : الذي يضرب بالصنج لينبه الناس ، واستعير للشاعر الذي يؤثر في الناس بشعره . 

 3-  التليد : المال الموروث.

*****************************   

 القصيدة الثانية :

’’ رسولٌ مِنَ النوبة ’’

ألا سـاءَ ميراثُ الصبا ، iiوصبابتي
ووصـمتي وخوفي من توابع iiرقدةٍ
خـلـعتُ رداء العاشقين .. iiطويتُه
فمن  سَجن حبي .. واعتقال iiأحبتي
إلـى  بـعـث تمساحٍ يريد iiإبادتي
وتشريد  أبنائي .. وسحق iiمشاعري
*               *               ii*
فـقَـدتُ  رفاقي حين كنتُ iiأريدهم
وأُفـردتُ  فـي قـاع المياه iiأسيرةً
وقـاومتُ طوفان العناء ... iiفهالني
تـجـرعـتُ آلام الـفراق iiمريرةً
وأعـلـنتُ في كل المحافل iiثورتي
*               *               ii*
سـألـتُ إلـه العالمين ... iiرجوته
فـنـوديتُ من بين الركام : iiتأهبي
كـأن خـطى الأحفاد بين iiأضالعي
ودربـاً بـأفـواج الأحـبة iiيحتفي
ولـمـا تـبينتُ الحقيقةَ ... iiوالذي
بـعـثـتُ إلـيكم أستحثُ iiخياركم
فإن  كان ما يُرجى ... فثَمّ iiوجودكم
وإن كانت الأخرى ... فتلك iiنهايتي




















وأصـداءُ مأساتي ، ووقعُ iiمصيبتي
أصـابـت شريط الذكريات iiبرجفة
وواجـهـتُ  ألوان الهلاك iiبغربتي
وتـبـديد  إرثي في موائد صُحبتي
وإهـدار  حقي ... وانتهاك حقيقتي
وتـسـلـيط أسماكٍ لتنهش iiثروتي
*               *               ii*
وفـارقـني  الأحباب ذات iiصبيحة
فـواريتُ أوجاعي .. بحكم iiأمومتي
ومـا كنتُ أحكي ما رأيتُ iiلإخوتي
فـسارعتُ أستدعي الجميع iiلنجدتي
وأعرضتُ عن بعض الأمور لحكمة
*               *               ii*
لـيوقظ  قومي ... بل يُعجِّل iiبعثتي
وبُـشِّـرتُ في دنيا الوصال iiبرؤية
تـمورُ ... وأصواتا تداعب مهجتي
يـمـوجُ بـهـم بين الأنام iiبفرحة
يُـحـاكُ لتاريخي العريقِ iiوسيرتي
رسـولاً  من الأجداد تحت iiبحيرتي
وكـنـتُ  لوادي النيل خيرَ iiذخيرة
ولـلـه أشـكو من أضاع iiوصيتي

لعلى بعد عرض بوح الشاعر أكون قد تخلصت قليلاً  ربما  من وخز الضمير بأننى لم أفعل شيئاً تجاه النوبه ، فها قد حاولت أن أدخل صوته الهادىء الصارخ فى صمت داخل حنجرتى لأضم صوتى إلى صوته ، وأهتف معه :

قبيحٌ بِنا ألا نعودَ لرُشدِنا فهيا لجمعِ الشملِ نمدُدُ أذرُعا

نُنَحّي عداوات الخُصومةِ جانِبا ونسمُوا على كل الفِعَالِ تَرَفُّعا

بِهذا – بني قومي – نَبَرُّ بِأُمِّنا وإلا .. دَعوها للوساوسِ مَرتعَا