محكمة الليل

عبد الله بن إسحاق الشريف

أنا عائد لا تسألين لما صفقت علي بابي

ولما احتضرت وراء جدران الأسى خلف اضطرابي

ولما عزفت قصائدي بالصمت في مقل العذاب

ولما احتسيت مدامع الآهات من كأس انتحابي

ولما نبشت مقابر الأحزان فوق شقا ترابي

أنا عائد و القهر فوق خطاي يهزأ باقترابي

يسقي ثراي دمي و ينبت فيه أشواك اغترابي

ويلوك في فمه حكاياتي و يجتر ارتيابي

ويذيب مهجته بكأسي كي يجرعني شرابي

شفتاي أسئلة و آلامي إذا انهمرت جوابي

أنا أموج هنا هناك و فيك يلفظني عبابي

أنا عائد قلبي بكف الحزن يعصره إهابي

بيديّ ألف قصيدة ثكلى يهدهدها مصابي

ولديّ آلاف الروايات التي اختصرت جنابي

ودمي مداد قضيتي تبكي بأدمعه صعابي

وبريشتي حلم على أطيافه يغفو كتابي

وعبارتي الحيرى تأن على قصاصات اكتئابي

والليل محكمة على أعوادها شنقت رغابي

وتأرجحت و الفجر ينهض في تثاؤبه احتسابي

ويطل كالمعتوه لي من خلف أقبية السحاب

أهلاًِ صباح الخير ثم يغيب في لجج الضباب

أهلاً صباح الخير أين الخير إن أبديت مابي

شفتاك أغنيتي و صوتك يا مدلهتي ربابي

ويداك عشر أنامل كانت كما أرجو صحابي

و منىً كوجه الغيث إن طلت على الأرض اليباب

أغرودة أحيت حنين الصب في لهف التصابي

وأنا و أنتي والهوى حلم بأجفان الرحاب

واليوم أين مدينتي الو لهى وتأريخ انتسابي

أين الصبا قلبٌ يناجي لحنه الحاني شبابي

أين الزمان العبقري الفذ يلهمني صوابي

أين القوافي الغيد في عينيه شامخة الكعاب

أين الرؤى والحلم في جنباتها خضر الثياب

أين الرشيد وقد تأهبت السحابة للذهاب

أين المفاخر فوق كف المجد تستهدي ركابي

أين الكتائب صارماً يزهو بألوية الغلاب

ما عاد شيء أنما ذكرى يغص بها إيابي

ومشاهد فيها يئن الأمس في القلب المذاب

ما عاد إلا أنت يا بغداد مثخنة الضراب

وقوافل الأشباح في الطرقات أحجية الخراب

ومنازل محمومة تهذي بأنواع السباب

تستصرخين: فتاي إن البغي أمعن باغتصابي

وأراق ميضأتي ومزق وسط أعينكم حجابي

ويموت صوتك غيلة بعواء قطعان الذئاب

والقوم حولك أحرف كسلا يسطرها التغابي

ذبلت معانيها و غابت خلف هوهوة الكلاب

وتهافتت كجنادب تستف وهج الالتهاب

بغداد و الوعد العليل يبث وشوشة الشعاب

أمل على ثغر الفرات و في ضحى عينيك خابي

قبلٌ يجف رضابها و جلاً على شفة الروابي

وحداك أنت برغم نزف الدم يخفق في طلابي

ويعيدني رغم احتضار الدرب في عيني غيابي

وبرغم كل كتائب الطاغوت في العجب العجاب

وبرغم صوت الموت و هو يهز أفئدة الهضاب

وبرغم من مردوا على سبل النفاق بلا حساب

وبرغم كل ذريعة في وهدة الفكر المحابي

أنا عائد و النصر في كنفي و سيفي في جرابي

وصهيل فجر النصر ملحمة بألحان عذاب

فتأهبي يا دار مكرمتي و عزي و ارتقابي

فغداً ستعتنق الشعوب إليك فلسفة الحراب