فقه الدعوة، موضوعات في الدعوة والحركة 1

أ.د. أحمد حسن فرحات

سيد قطب

اختارها من الظلال وجمع بينها على الخط الذي ينتظمها

من خلال منهج المؤلف

أحمد حسن

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة

بين يدي الكتاب

«فقه الدعوة»: موضوعات لشهيد الفكر الإسلامي «سيد قطب»: كتبها على أرض المعركة من وراء القضبان؛ ليثبت للناس قوة «الفكرة» في عالم لم يعد يؤمن إلا بـ«الحديد». وتخترق «الفكرة» جدران السجن وأسواره لتصل إلى قلوب الناس وأفئدتهم، فإذا هم على نور من ربهم، وإذا هم أمة تلتقي على «معالم في الطريق».

وتستحيل الفكرة موقفاً تاريخياً بطولياً يكتب فيه «سيد قطب» بدمه ملحمة البطولة والجهاد، بعد أن سطر بقلمه آيات الفكر والبيان...

... ويسجل التاريخ أن «سيد قطب» سقى تربة الدعوة بدمه، وغذاها بفكره، وأطعمها من وقته وأعصابه وراحته، وغدا كوكباً في سماء هذه الأمة يضيء لها الطريق، وقطباً تهتدي به في ظلمات البر والبحر، وحادياً تمشي قوافل الإيمان على حدائه، ورائداً على طريق الإسلام والحركة يترسم العاملون خطاه...

... لقد مات سيد قطب، ولكن آثاره لم تمت، فقد خلَّف من بعده كتباً وآثاراً ستبقى خالدة على التاريخ لأنه كتبها مرتين: مرة بمداد العالِم، ومرة بدم الشهيد.

ولكتب سيد قطب مكانة خاصة في نفوس أبناء هذا الجيل، لا تساويها كتب أي كاتب آخر، كما أنها تعد مدرسة قائمة بنفسها، ومنعطفاً في تاريخ الفكر الإسلامي الذي ولّى وجهه شطر «العودة إلى الأصول» بعد رحلة طويلة، ومعارك متصلة مع أشتات المذاهب، وأخلاط الفلسفات التي شابت تصوره، ونقاءه في نفوس المسلمين، وخففت من حرارة إيمانهم، وحيويته، الأمر الذي جعلهم يخلدون إلى الأرض، ويعيشون على هامش التاريخ والحياة، بعد أن كانوا خير أمة أخرجت للناس.

أما مميزات هذه المدرسة الفكرية وخصائصها فهي:

1- الجدية:

وتظهر في اعتماد الكاتب على القرآن والسنة كمصدر للبحث والدراسة، يستوحيهما ويستلهمهما بدون مقررات سابقة؛ باعتبارهما المصدرين الصحيحين لهذا الدين، ولقد بعد الناس عن هذين المصدرين خلال التاريخ، وشغلوا عنهما بالكتب التي وسمت بالعلمية!! مما باعد بينهم وبين الينابيع الثرة الغنية، فخسروا بذلك خيراً كثيراً، وكان خسرانهم – على صعيد الواقع والتاريخ – أمراً واضحاً مبيناً.

وقد أدرك سيد قطب هذه الحقيقة، فكتب كتبه الثلاثة: «التصوير في الفني في القرآن»، و«مشاهد القيامة»، و «في ظلال القرآن». وكان يرمي من وراء هذه الكتب أن ينقل الناس إلى جو القرآن من جديد، بحيث يتذوقونه غضاً طرياً كما أنزل، واستطاع الرجل بأسلوبه العذب، وإدراكه العميق لما وراء الكلمات والحروف، أن يكشف للناس عن أسرار ومعانٍ لم يسبق إليها، وأن يضع المسلم في مناخ قرآني يشم عبيره، ويستروح نسماته، ويعيش – وهو في القرن العشرين – في ظلال القرآن.

وتظهر الجدية في الموضوعات التي عالجها، والبحوث القيمة التي قدمها، حيث كان يكتب في مشكلات الساعة، وقضاياها الملحة التي يعيشها الناس، ويعانون من شرورها وآثامها، ووضع الحلول الصالحة التي يعتقد صوابها وجدواها.

ففي مواجهة شرور الشيوعية والرأسمالية كتب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«السلام العالمي والإسلام»، و«معركة الإسلام والرأسمالية»، وفي مواجهة انحرافات الحضارة وأخطائها كتب: «الإسلام ومشكلات الحضارة»، وفي مواجهة العقائد والتصورات والمناهج الضالة، كتب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، و«هذا الدين»، و«المستقبل لهذا الدين»، وفي منطلقات العمل وخطواته الحركية، كتب: «معالم في الطريق »...

وهو في كل ما كتب يهدف إلى أمرين أساسيين: أولهما توضيح صورة الإسلام – كما أنزله الله -، والأمر الثاني: توضيح واقع المسلمين البعيد عن تلك الصورة، وبتعبير آخر: كان يسعى في توضيح الجاهلية وإبرازها سعيه في تجلية الإسلام وإظهاره، لتستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، ولتقوم المفاصلة بينهما على أساس العقيدة.

وتظهر الجديّة أيضاً في الاهتمام بالكليات والأصول، والابتعاد عن الجزئيات والفروع التي تستهلك أوقات المسلمين وأعمارهم في معارك كلامية جانبية، وجدل فارغ عقيم، وتوجيه طاقاتهم وقواهم إلى جذور القضايا، وأمهات الأمور التي هي – في الحقيقة – وراء مشكلات المسلمين وتخلفهم، ومن ثم لا نجده في كتاب «الظلال» يعرض تفاصيل الأحكام الفقهية واختلافاتها، كما نجده في كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» يبتعد عن مصطلحات المتكلمين، ومذاهبهم المختلفة، وجدلهم اللفظي، ليصل القارئ بحقائق العقيدة، كما تبدو من خلال النص القرآني.

كذلك تظهر هذه الجديّة في عرضه للحقيقة الإسلامية من خلال معاركها الواقعية الحركية خلال التاريخ، فهو لا يعرضها كفلسفة نظرية مثالية، يتطلع إليها الفلاسفة والحكماء والمصلحون، وإنما يعرضها من خلال معركة واقعية يخوضها المجاهدون المؤمنون خلال عصور التاريخ.

فنجده في كتاب «العدالة الاجتماعية» مثلاً يتصدى لعرض الواقع التاريخي بعد عرضه للحقائق النظرية، ونجده في كتاب «الظلال» يقول: موضوع سورة الأنعام هو العقيدة، وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة، ولكن سورة الأنعام تعرضها كحقائق مقررة، في حين تعرضها سورة الأعراف في صورة معركة مع الجاهلية خلال التاريخ.

 ونجده في كتاب «المعالم» يقول: إنه لا يستفيد من هذا الكتاب، إلا الذين يمارسون العمل الإسلامي حقيقة، وإلا الذين قد وصلوا في عملهم إلى مستوى رفيع بحيث لا يكون هناك تضخم فكري على حساب الناحية العملية.

 ويقول في كتابه «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»:

 لا أريد بهذا البحث ان أضيف كتاباً في ما يسمى بـ«الفلسفة الإسلامية»، فالموضوع عندي لا يساوي جهد البحث فيه؛ وإنما أهدف إلى الحركة من وراء الفكرة.

 ويقول في «الظلال»: إن العمل في الجانب الفكري النظري – وحده – عمل سهل ومريح! لأنه مأمون العاقبة! وخير لهؤلاء الذين يعملون في هذا الميدان – وهو يظنون أنهم يخدمون الإسلام – أن يشتغلوا بعمل آخر، يتكسبون منه، كالزراعة والصناعة وغيرها، ثم يقول: وأحسب – والله أعلم – أن العمل في هذا الميدان مضيعة للعمر وللأجر أيضاً!!.

2- أسلوبه في الكتابة:

يكتب سيد قطب: بأسلوب الداعية، وحرارته وصدقه، لا بأسلوب الفيلسوف وخيالاته، وجفاف عبارته، ويبدو أنه قد تأثر بأسلوب القرآن كثيراً، من طول مطالعته له ومدار سته، وإنك لتشعر في كل كلمة من كلماته بالحيوية والحركة، تتفجر من خلال العبارات، وفي ثنايا السطور، كأنها دقات قلب، أو نبضات عرق.

وهو لا يعمد إلى استعمال المصطلحات الفنية والعلمية المعقدة، يعرض الحقيقة من خلالها، وإنما يتذوق الحقيقة ويتمثلها، ثم يصوغها بعبارته الرشيقة، وبيانه الأدبي الذي يدخل إلى القلوب، دونما عناء أو كلل.

 انظر إلى قوله في كتاب «العدالة الاجتماعية» حينما يقارن بين النصرانية، والشيوعية، والإسلام، كيف يصوغ هذه الحقائق:

 «وبهذا نرى المسيحية رؤيا في عالم المثال المجرد، تلوح للبشر من آفاق السماء، وأن الشيوعية هي حقد البشرية الدفين يتجلَّى في جيل من أجيال الناس، وأن الإسلام هو حلم البشرية الخالد يتجلَّى في حقيقة تعيش على الأرض».

ويمتاز في أسلوبه عن غيره من الكتاب، بأنه لا يخاطب فئة معينة من المثقفين،

أو المتخصصين في بعض جوانب المعرفة، وإنما يخاطب المسلم المثقف، بغض النظر عن اختصاصه، ومن ثم يبتعد عن المصطلحات العلمية والفنية، التي تحول دون فهم الفكرة عند غير المختصين، الأمر الذي يجعل من كتبه منهلاً عذباً يقبل عليه -الشباب المسلم - بكافة مستوياته، واختصاصاته.

3- مواقفه:

ونضيف إلى خصائص الكاتب وميزاته الموضوعية والفنية، مواقفه التاريخية الرائعة، التي آمن بها، والفكرة التي أوضحها وجلاها، وبذلك اكتسبت مؤلفاته وأفكاره رصيدها الحقيقي، وحياتها الخالدة، وأقبل الناس على قراءة كتبه من جديد، وكأنها ولدت لتوِّها، وفعلاً لقد كان استشهاد سيد قطب حياة جديدة لأفكاره وكتبه.

«كتاب فقه الدعوة»:

والكتاب الجديد الذي نقدمه للقراء اليوم، باسم «فقه الدعوة» هو كتاب على نهج «المعالم» وصنوه، ولقد أشار الأستاذ سيد في مقدمة «المعالم» إلى انه أخذ أربعة فصول من الكتاب من كتابه: «في ظلال القرآن»، وضم إليها بحوثاً أخرى، ثم قال: «ويجمعها كلها انها «معالم في الطريق»، وكان ينوي: أن يخرج الجزء الثاني من هذه المعالم، غير أن استشهاده حال دون ذلك.

 فعمدنا إلى ما يصلح أن يكون جزءاً ثانياً لهذا الكتاب، وجمعناه من مظانه في «الظلال»، وأغلبه في المقدمات التي يقدم بها للسور القرآنية – في الطبعة الثانية الموسعة – وكلها موضوعات تتصل بالعمل الإسلامي، والحركة الإسلامية ومنطلقاتها، عرضت من خلال القرآن الكريم، وربطنا بين هذه الموضوعات، ووضعنا لها العناوين المناسبة، بحيث أصبحت كتاباً في «فقه الحركة»، أو «فقه الدعوة»، يرجع إليها العاملون للإسلام في كل مكان... وإنا لنأمل أن نكون بهذا العمل قد قدمنا خدمة على طريق العمل الإسلامي والحركة الإسلامية.

1390 هـ - 1970 م- بيروت

هذا القرآن

كتاب هذه الدعوة

هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة. هو روحها وباعثها. وهو قوامها وكيانها. وهو حارسها وراعيها، وهو بيانها وترجمانها، وهو دستورها ومنهجها، وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل، ومناهج الحركة، وزاد الطريق...

ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة، بيننا وبين القرآن، ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية، وفي رقعة من الأرض كذلك. معركة تموج بالتطورات، والانفعالات، والاستجابات.

وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية، التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين!

بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا، نشأ عنه وجود، ذو خصائص في حياة «الإنسان» بصفة عامة، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.

ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.

ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل .. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة .. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ويتنزل القرآن

-حينئذ- ليواجه هذا كله، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة: مع نفسها التي بين جنبيها، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما .. وفيما وراءهما كذلك...

أجل ... يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ونتمثلها في بشريتها الحقيقية، وفي حياتها الواقعية، وفي مشكلاتها الإنسانية، ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة، وهي تتعثر وتنهض، وتحيد وتستقيم، وتضعف وتقاوم، وتتألم وتحتمل، وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة، وفي صبر ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.

ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى. وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.

إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى، ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا. وسنحس أنه معنا اليوم وغدا. وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى، وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.

إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة، كهذا الكون ذاته، الكون كتاب اللّه المنظور، والقرآن كتاب اللّه المقروء، وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع، كما أن كليهما كائن ليعمل .. والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه. الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدّي دورها، والقمر والأرض، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني ..، والقرآن كذلك أدّى دوره للبشرية، وما يزال هو هو، فالإنسان ما يزال هو هو كذلك، ما يزال هو هو في حقيقته، وفي أصل فطرته، وهذا القرآن هو خطاب اللّه لهذا الإنسان ذاته، لم يتبدل خلقاً آخر، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدَّلت من حوله، ومهما يكن هو قد تأثَّر وأثر في هذه الظروف والملابسات([1]).

 والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير، ويملك أن يوجه حياته اليوم وغداً؛ لأنه معد لهذا، بما أنه خطاب الله الأخير، وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.

وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلاً: هذا نجم قديم «رجعي؟»، يحسن أن يستبدل به نجم جديد «تقدمي!»، أو أن هذا «الإنسان» مخلوق قديم «رجعي»، يحسن أن يستبدل به كائن آخر «تقدمي» لعمارة هذه الأرض!!!

إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن. خطاب الله الأخير للإنسان.

بصائر تهدي

إن هذا القرآن... بصائر تهدي، ورحمة تفيض ... لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم ...

إن هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب - في جاهليتهم - يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية، مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة!

إن هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه .. من أي جانب من الجوانب- شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان - لا يستثنى من ذلك من كان من الناس، ومن يكون إلى آخر الزمان!

فهذا جانبه التعبيري .. ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه - بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني، ويتفاخرون به في أسواقهم! ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر، تحداهم الله به، وما يزال هذا التحدي قائماً.

 والذين يزاولون فن التعبير من البشر، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز .. سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة، أو لا يؤمنون .. فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية، يستوي أمامها المؤمنون، والجاحدون ..

وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن - في جاهليتهم - ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم - وهم جاحدون كارهون - كذلك يجد اليوم وغدا كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون! ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد.. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة - متى خلي بينها وبينه لحظة! - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً، وتتململ قلوبهم أحيانا تحت وطأة هذا السلطان، وهم يستمعون إلى هذا القرآن!

إن الذين يقولون كثيرون .. وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات .. ولكن هذا القرآن ينفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم، فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاّب! ..

ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم - ويقولون لأنفسهم في الحقيقة -: ﴿لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ .. لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم!

وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل - مع ذلك كله - غلاباً .. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون!

ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه... وما تتسع صفحات عابرة للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه ...فالقول لا ينتهي، والمجال لا يحد!

وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟!

منهج هذا القرآن العجيب، في مخاطبة الكينونة البشرية، بحقائق الوجود .. وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها، ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه!

منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق، والتجاوب الحي، والرؤية الواضحة، وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة.

منهج هذا القرآن العجيب، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، ويصعد بها - في هينة ورفق، وفي حيوية كذلك وحرارة، وفي وضوح وعلى بصيرة - درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة .. في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة .. إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة ..

منهج هذا القرآن العجيب، وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة! أو أن يكون هذا وتر استجابة! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب، ذلك أن مُنزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق، وهو أقرب إليه من حبل الوريد!

ذلك المنهج؟ .. أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج .. وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئا .. ﴿قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ .. ﴿وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ﴾ ..

إن الذي يكتب هذه الكلمات، قضى - وللّه الحمد والمنة - في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً، يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب، في شتى حقول المعرفة الإنسانية - ما طرقته معارف البشر، وما لم تطرقه، ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب .. ويرى .. يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن، وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة، وتلك النقر الصغيرة .. وتلك المستنقعات الآسنة أيضا!

في النظرة الكلية في هذا الوجود، وطبيعته، وحقيقته، وجوانبه، وأصله، ونشأته، وما وراءه من أسرار، وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء .. الموضوعات التي تطرق جوانب منها «فلسفة» البشر!([2]).

في النظرة الكلية إلى «الإنسان» ونفسه، وأصله، ونشأته، ومكنونات طاقاته، ومجالات نشاطه وطبيعة تركيبه، وانفعالاته، واستجاباته، وأحواله وأسراره .. الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع! والعقائد والأديان([3]).

في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية، وجوانب النشاط الواقعي فيها، ومجالات الارتباط والاحتكاك، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية([4]).

وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات، يحار في كثرتها ووفرتها! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة!

إنني لم أجد نفسي مرة واحدة - في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية - في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن - فيما عدا قول رسول اللّه e، وهو من آثار هذاالقرآن - بل إن أي قول آخر ليبدو هزيلاً - حتى لو كان صحيحاً - إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب ..

إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات، والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات... وما لي أن أثني على هذا الكتاب ... ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً، ليضيفوا إلى كتاب اللّه شيئاً، بما يملكون من هذا الثناء!

لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد .. جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية - لا من قبل ولا من بعد - جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن...

لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ - بمشيئة اللّه وقدره - هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر، وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً .. وهي معجزة واقعة مشهودة .. أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة ...([5]).

ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام، تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه، وتوجيهاته وإيحاءاته... كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية... حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى، التي تفوقه في الإمكانيات المادية - بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة - ولكنها لا تطاوله في «الحضارة الإنسانية»!([6]).

إن الناس اليوم - في الجاهلية الحديثة - يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن! .. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة، وجهالتهم العميقة - كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك - دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب!.

فأما أهل الجاهلية الحاضرة، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور «العلم البشري» الذي فتحه اللّه عليهم في عالم المادة، وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم، ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل، وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة، وتراكم التجارب، وتجدد الحاجات، وتعقدها كذلك!

كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي؛ الذي لم يكفّ لحظة واحدة عن حرب هذا الدين، وكتابه القويم، وعن محاولة إلهاء أهله عنه، وإبعادهم عن توجيهه المباشر، بعد ما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة: أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته، وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته! ..

 هو كيد مطّرد مصرٌّ لئيم خبيث .. ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين - وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين! - وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين؛ ولتدارس قرآن غير قرآنه، يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة، كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب اللّه في هذه الشؤون!!!

إن هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم؛ لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم! بعد ما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم، ومن الجهل المزري، ومن التعاليم المغرورة، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث!

إن هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية، والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه! إن هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير:

﴿هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾...

ولكن العجيب في شأن هذا القرآن، أنه - على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه - ما يزال يغلب! ..

إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة، والسلطان القاهر على الفطرة، ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها، وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين، وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين!

إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها؛ ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية، بحيث يذيعه - على السواء - اليهود، ويذيعه الصليبيون، ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين!

وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس «المسلمين»! - إلى مجرد أنغام وتراتيل، أو مجرد تمائم وتعاويذ! وبعد أن أبعدوه - حتى في خاطر الناس .. المسلمين! .. من أن يكون مصدر التوجيه للحياة، وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون .. ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد، وسيظل يعمل، وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدّية هذا الكتاب، وتتخذه وحده مصدر التوجيه، وهي ترتقب وعد اللّه لها بالنصر والتمكين من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد ..

وما كان مرة لا بد أنه سيكون ..

حقائق القرآن ونظريات العلم

إن مجال القرآن هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية، وإن وظيفته أن ينشئ تصوراً عاماً للوجود، وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود، وارتباطه بربه، وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاماً للحياة، يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته .. ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل - بالبحث العلمي - في الحدود المتاحة للإنسان - وبالتجريب والتطبيق - وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج، ليست نهائية، ولا مطلقة بطبيعة الحال.

إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته... أما العلوم المادية، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته، بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه ..

والقرآن يصحح له فطرته، كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه، كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له، ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون، وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه - وهو أي الإنسان أحد أجزائه - ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات، والانتفاع بها في خلافته .. ولا يعطيه تفصيلات، لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي.

وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك، وما إليها .. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!

إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها .. لأنه هو الإنسان ذاته، الذي يكشف هذه المعلومات، وينتفع بها .. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان.

والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني، الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.

كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحياناً عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود، وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه... لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن، بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه: «حقائق علمية»، مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.

إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أياً كانت الأدوات المتاحة له - فهي حقائق غير نهائية، ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه، وظروف هذه التجارب وأدواتها ..

فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري!

هذا بالقياس إلى «الحقائق العلمية» .. والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى «علمية»، ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه .. وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها .. فهذه كلها ليست «حقائق علمية» حتى بالقياس الإنساني، وإنما هي نظريات وفروض، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدراً أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيراً أدق! ومن ثم فهي قابلة دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!

وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة، كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم ..

الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن، والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.

والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق - بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية - مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة!

والثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد، وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا ..

ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن .. كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال اللّه سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ .. ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق، وفي الأنفس من آيات اللّه، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.

فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:

يقول القرآن الكريم مثلاً: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ .. ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة، وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون .. الأرض بهيئتها هذه، وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا ... وبآلاف من الخصائص .. هي التي تصلح للحياة وتوائمها .. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة، ولا مصادفة غير مقصودة...

هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ وتعميقه في تصورنا .. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه ..

وهكذا ..

هذا جائز ومطلوب .. ولكن الذي لا يجوز، ولا يصح علمياً، هذه الأمثلة الأخرى:

يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾  .. ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون، تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان .. فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية، لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!

لا .. إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية، فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً، وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه، ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يبطلها، وهي معرضة غداً للنقض والبطلان .. بينما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها، فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان، ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة، وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية .. وكفى ..

ولا زيادة ..

ويقول القرآن الكريم: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾ .. فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس، وهي أنها تجري ..

ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية... ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها، تجري جميعا بسرعة 170 ميلا في الثانية، ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية.

إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان .. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري - وكفى .. فلا نعلق هذه بتلك أبداً.

ويقول القرآن الكريم: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما﴾ .. ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها .. فنحمل النص القرآني، ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية، ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية!

لا .. ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية، فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء .. كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية .. ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!

آصرة العقيدة

ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح .. نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله! إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة، وفي خطها الحركي أيضاً .. وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق ..

﴿وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾...

﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ...﴾.

﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ * قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾.

﴿وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ * قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ * قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾.

إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة، تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.

إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة ..

إن هذه الوشائج جميعها قد توجد، ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد، كما قال اللّه سبحانه وتعالى لعبده نوح u وهو يقول: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ .. ﴿يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ ثم بين له لماذا يكون ابنه .. ليس من أهله .. ﴿إنه عمل غير صالح﴾ .. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: ﴿فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ، أما المعلوم المستيقن، فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك! وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة .. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب، وآنا هي الأرض والوطن، وآنا هي القوم والعشيرة، وآنا هي اللون واللغة، وآنا هي الجنس والعنصر، وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك .. وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي!

والمنهج الرباني القويم - ممثلاً في هذا القرآن - الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول e وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه، قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير ..

والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق ..

وهذا المثل الذي يضربه في قصة نوح وابنه، فيما يكون بين الوالد والولد، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها ..

* ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد، وذلك فيما كان بين إبراهيم u وأبيه وقومه كذلك:

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا * قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي * عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا * وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ (مريم: 41 - 50).

* وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه اللّه سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه.

ويبشره ببقاء ذكره، وامتداد الرسالة في عقبه:

﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ .

﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 124 - 126).

* وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته.

وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون:

﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (التحريم: 10 - 11).

* وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم، وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم، وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...

﴿قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ...﴾ (الممتحنة: 4).

﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً * فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا:رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً * هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً﴾ ... (الكهف: 9 - 16).

وبهذه الأمثلة التي ضربها اللّه للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين؛ الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة، وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها، وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة ..

هذه نماذج منها ..

* ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (المجادلة: 22).

* ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ﴾ (الممتحنة: 1).

* ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾... إلخ.. (الممتحنة: 3 - 4).

* ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ (التوبة: 23).

* ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة: 51).

وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي، وفي طبيعة بنائه، وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً إلى آخر الزمان، ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها اللّه للأمة المختارة، والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام، وإما أنهم يرفضونه، والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم، وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلاً!

وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماماً - لننظر في جوانب من حكمة اللّه في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة ..

* إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة، وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيراً إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقاً أساسياً عن الحيوان([7]).

ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع؛ لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم، ولا تكون آصرة التجمع عنصراً يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى، والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة .. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة، وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!

* كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم .. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد، وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختاراً، ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش ..

ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه، ونسبه، ولونه، وقومه، وجنسه، كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها .. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي، إنما هي تفرض عليه فرضاً سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معاً - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضاً لم يكن مختاراً ولا مريداً، وبذلك تسلب إنسانيته مقوماً من أخص مقوماتها، وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان، بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق!

ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها اللّه له متمشية مع تلك الخصائص، يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي، والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية، وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية التي لا يد له فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.

* ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشىء مجتمعاً إنسانياً عالمياً مفتوحاً، يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم، واختيارهم الذاتي، لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا، وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية، ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض([8]) ..

* ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته، وهم الذين يقول اللّه تعالى فيهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ﴾ .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس ..

ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم ... لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناماً تعبد من دون اللّه، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس».

وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية»، وتارة باسم «الجنسية الطورانية»، وتارة باسم «القومية العربية»، وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!!

وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ .. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية .. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود!

وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي .. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون ..

حتى يأذن اللّه بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد ..

وأخيراً فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة للّه وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم.

يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب أن يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات ..

إن الوثنية ليست صورة واحدة، هي وثنية الأصنام الحجرية، والآلهة الأسطورية!

إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى، كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صوراً متعددة وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون اللّه أيا كانت أسماؤها، وأيا كانت مراسمها.

وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان .. وما إليها .. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى اللّه وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!

لذلك قسَّم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري .. أمة المسلمين من أتباع الرسل - كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون ..

وعند ما أراد اللّه أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ .. ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود:

إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء!

ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس!

ولا لصهيب الرومي: إن أمتك هي الرومان!

ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة!

إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقاً على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم .. كما جاء في سورة الأنبياء: (آيات: 48 - 91).

هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف اللّه سبحانه .. فمن شاء له طريقا غير طريق اللّه فليسلكه. ولكن ليقل:

إنه ليس من المسلمين!

أما نحن الذين أسلمنا للّه، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا اللّه. واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين ..

وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين.

في العبادات

عبادة الله وحده

إن المتتبع لسياق سورة هود كلها - بل المتتبع للقرآن المكي كله - يجد أن هنالك خطاً أصيلاً ثابتاً عريضاً عميقاً، هو الذي ترتكز عليه، وهو المحور الذي تدور حوله وإليه ترجع سائر خطوطها، وإليه تشد جميع خيوطها كذلك ... إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله... وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلاً ...

وسنحتاج – هنا - أن نقف وقفات إجمالية على ذلك الخط، وعلى هذا المحور - كما     يتجلى  في سياق سورة هود:

إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله... سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد e، أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى التاريخ البشري، أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول اللّه e إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص، ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية...

إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله ...هي التركيز على الأمر بعبادة اللّه وحده، والنهي عن عبادة غيره... وتقرير أن هذا هو الدين كله ...وإقامة الوعد والوعيد، والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة...

ويبقى هنا أن نجلي أولاً طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة، وقيمة هذه الطريقة:

إن حقيقة توحيد العبادة للّه ترد في صيغتين هكذا:

﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...﴾.

﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ...﴾.

وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي ... فهل مدلولهما واحد؟

إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة اللّه، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه. ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير اللّه.

والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه... ولكن الأول «منطوق» والآخر «مفهوم» ... ولقد اقتضت حكمة اللّه - في بيان هذه الحقيقة الكبيرة - عدم الاكتفاء بالمفهوم، في النهي عن عبادة غير اللّه. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل، وإن كان مفهوما ومتضمنا في الأمر الأول!

إن هذا يعطينا إيحاء عميقاً بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة، ووزنها في ميزان اللّه سبحانه، بحيث تستحق ألّا توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة اللّه، وتقرير أن لا إله يعبد سواه ، وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل، يتضمن النهي بالنص المباشر، لا بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم!

كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها ...عبادة اللّه. وعدم عبادة سواه ...

إن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء، وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة اللّه، وتقرير أن لا إله يعبد سواه. وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده ...ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون اللّه، ولا يتركون عبادته، ولكنهم - مع هذا - يعبدون معه غيره، فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون!

ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، بالأمر، وبالنهي معاً، بحيث يؤكد أحدهما الآخر، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة ..

وقد تكرر مثل هذا في التعبير القرآني في مواضع شتى هذه نماذج منها من هذه السورة، ومن سواها:

* ﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ .. (هود: 1 - 2).

* ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ ... (هود: 25 - 26).

* ﴿وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾ (هود: 50).

* ﴿وقالَ اللَّهُ: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ. فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (النحل: 51).

* ﴿ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (آل عمران: 67).

* ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 79).

وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، له دلالته من غير شك، سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة، وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها. أو في دلالة هذه الطريقة على علم اللّه - سبحانه - بطبيعة الكائن الإنساني، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو، الذي يتجلى فيه القصد والعمد... وللّه الحكمة البالغة ...

وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

_ _ _

ثم نقف أمام مدلول مصطلح «العبادة» الوارد في السورة - وفي القرآن كله - لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة اللّه وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة.

نقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه، ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو، إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون ..

ليس فقط في ماضيها التاريخي، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان، وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة، وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك، ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان .. وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد ودليلها في الحركة في كل حين.

نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة .. دعوة توحيد العبادة والعبودية للّه، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: ﴿قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ ..

ولقد كنا دائماً نفسر «العبادة» للّه وحده بأنها «الدينونة الشاملة» للّه وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي .. فإن «عبد» معناها: دان وخضع وذل، وطريق معبد طريق مذلل ممهد، وعبّده جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً .. ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ، وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية.

بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عند ما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة للّه وحده في أمره كله، وخلع الدينونة لغير اللّه من عنقه في كل أمره .. ولقد فسر رسول اللّه e «العبادة» نصاً بأنها هي «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية، وهو يقول لعدي بن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً:

«بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» .. إنما أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورة من صور الدينونة للّه في شأن من الشؤون .. صورة لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة!

فلما بهت مدلول «الدين» ومدلول «العبادة» في نفوس الناس، صاروا يفهمون أن عبادة غير اللّه التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية، هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير اللّه، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية، وأصبح «مسلماً» لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله ...

إلى آخر حقوق المسلم على المسلم!

وهذا وهم باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ «العبادة» التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه - وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة للّه في كل شأن، ورفض الدينونة لغير اللّه في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة، والذي نص عليه رسول اللّه e نصاً، وهو يفسر قول اللّه تعالى:

﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ..

وليس بعد تفسير رسول اللّه e لمصطلح من المصطلحات قول لقائل([9]).

هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا- في هذه الظلال، وفي غيرها- في كل ما وفقنا اللّه لكتابته حول هذا الدين، وطبيعته ومنهجه الحركي.. فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية، ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه، وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها، وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ ..

إنه لم يكن يعني: يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير اللّه! كما يتصور الذين انحسر مدلول «العبادة» في مفهوماتهم، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة للّه وحده في منهج الحياة كلها، ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها... والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير اللّه...

 فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة اللّه وحده - أي الدينونة له وحده - إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي: جحودهم بآيات ربهم، وعصيان رسله. واتباع أمر الجبارين من عبيده: ﴿وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ كما يقول عنهم أصدق القائلين اللّه رب العالمين...

وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل، واتباع الجبارين ...فهو أمر واحد لا أمور متعددة ...

ومتى عصى قوم أوامر اللّه المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله، بألا يدينوا لغير اللّه، ودانوا للطواغيت بدلاً من الدينونة للّه، فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك - وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض، فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض، وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض. إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام ...وهكذا إلى يومنا هذا...

والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية، ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد. وردهم إلى الدينونة للّه وحده في كل أمر، وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.

إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة ... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان .. لا لأن اللّه سبحانه في حاجة إليه، فاللّه سبحانه غني عن العالمين.

ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم، ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية، في كل جانب من جوانبها.

مصطلح العبادات

إن إطلاق مصطلح «العبادات» على الشعائر، وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاق مصطلح: «المعاملات» على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل... إن هذا جاء متأخراً عن عصر نزول القرآن الكريم، ولم يكن هذا التقسيم معروفاً في العهد الأول.

ولقد كتبنا من قبل في كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئاً عن تاريخ هذه المسألة، نقتطف منه هذه الفقرات:

«إن تقسيم النشاط الإنساني إلى «عبادات»، و«معاملات» مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة «الفقه»، ومع أنه كان المقصود به - في أول الأمر - مجرد التقسيم «الفني» الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه - مع الأسف - أنشأ فيما بعد آثاراً سيئة في التصور، تبعها - بعد فترة - آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة «العبادة» إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله «فقه العبادات»، بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله «فقه المعاملات»! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه، فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.

«ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى «العبادة» أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولاً وأخيراً.

«وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة، وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج ...

«ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى «العبادة» في حياة الإنسان .. والنشاط الإنساني لا يكون متصفاً بهذا الوصف، محققاً لهذه الغاية - التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني - إلا حين يتم هذه النشاط وفق المنهج الرباني، فيتم بذلك إفراد اللّه - سبحانه – بالألوهية، والاعتراف له وحده بالعبودية ...وإلا فهو خروج عن العبادة؛ لأنه خروج عن العبودية، أي خروج عن غاية الوجود الإنساني، كما أرادها اللّه، أي خروج عن دين اللّه!

«وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم «العبادات»، وخصوها بهذه الصفة - على غير مفهوم التصور الإسلامي - حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها، وهي أنها لم تجئ مفردة، ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم «المعاملات» ...إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي، باعتبار هذه كتلك شطراً من منهج «العبادة» التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية.

«إن ذلك التقسيم - مع مرور الزمن - جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا «مسلمين» إذا هم أدوا نشاط «العبادات» - وفق أحكام الإسلام - بينما هم يزاولون كل نشاط «المعاملات» وفق منهج آخر... لا يتلقونه من اللّه، ولكن من إله آخر ..! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به اللّه!

«وهذا وهم كبير، فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين - على هذا النحو - فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين.

«وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم، يريد أن يحقق إسلامه، ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني»([10]).

قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية

ولقد قلنا من قبل: «إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم -، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة المؤمنون على مدار الزمان!

إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردّهم إلى الدينونة للّه وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء.

«إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة ...إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان .. لا لأن اللّه سبحانه في حاجة إليه، فاللّه سبحانه غني عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء».

وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بياناً، والآن نبين إجمالاً قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء:

ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد - على هذا النحو الشامل - في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي، وحاجته الفطرية، وتركيبه الإنساني ...أثرها في تصوره .. وأثر هذا التصور في كيانه:

«إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل - بكل معاني الشمول - يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، جهة تطلب عندها كل شي ء، وتتوجه إليها بكل شيء، جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها، وتبتغي رضاها، جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء.

«كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وشرائعها وقوانينها، وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها، وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام.

«عندئذ تتجمع هذه الكينونة ...تتجمع شعوراً وسلوكاً، وتصوراً واستجابة، في شأن العقيدة والمنهج، وشأن الاستمداد والتلقي، وشأن الحياة والموت، وشأن السعي والحركة، وشأن الصحة والرزق، وشأن الدنيا والآخرة، فلا تتفرق مزقاً، ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق، ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق!

«والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها؛ لأنها تكون حينئذ في حالة «الوحدة» التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها...

فالوحدة هي حقيقة الخالق - سبحانه - والوحدة هي حقيقة هذا الكون - على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال - والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء - على تنوع الأنواع والأجناس - والوحدة هي حقيقة الإنسان - على تنوع الأفراد والاستعدادات - والوحدة هي غاية الوجود الإنساني - وهي العبادة - على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها - وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود...

«وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق «الحقيقة» في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية، وفي أوج تناسقها - كذلك - مع «حقيقة» هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه ومع «حقيقة» كل شيء في هذا الوجود، مما تتأثر به وتؤثر فيه... وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار.

«وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع اللّه بها في الأرض أدواراً عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كيان التاريخ الإنساني ...

«وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى - وهي لا بد كائنة بإذن اللّه - سيصنع اللّه بها الكثير، مهما يكن في طريقها من العراقيل، ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشيء قوة لا تقاوم؛ لأنها من صميم قوة هذا الكون، وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضاً.

«...إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني، وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة، يقوم عليها بناء الحياة كله.

 بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق، فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة للّه، وحين يصبح كل نشاط فيها - صغر أم كبر - جزءاً من هذه العبادة، أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه، وهو إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية ...هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه، وهو المقام الذي بلغه رسول اللّه e في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها... مقام تلقي الوحي من اللّه، ومقام الإسراء أيضاً:

﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً﴾ (الفرقان: 1).

﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ. لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ... (الإسراء: 1)([11]).

* وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة للّه وحده، وآثارها في الحياة الإنسانية:

إن الدينونة للّه تحرر البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر - غير النظام الإسلامي - يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة ...

سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع... فكلها عبودية وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير اللّه، بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير اللّه، والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة، والذين لا يدينون للّه وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير اللّه، في كل جانب من جوانب الحياة!

إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة:

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ﴾ ... (محمد: 12).

ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة للّه وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.

ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد ... يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم - سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم - فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري، لا يستمد من اللّه وحده، ولا يتقيد بشريعة اللّه لا يتعداها ..

ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين .. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شي ء! ..

إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية، ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة!

ونضرب مثالاً لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ .. كل الذين يسمونهم متحضرين ..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء - سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات ... إلخ .. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي، ولا لجاهلية أن يفلت منها، أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس - في هذه الجاهلية «الحضارية!» للّه بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادا متبتلين! ..

فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!

وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها، وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها، فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!

وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس للّه وحده، وحين يدينون لغيره من العبيد ..

وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر!

* وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عند ما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة .. سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور ..

إن الدينونة لغير اللّه في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي، والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها، وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها، وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال - وأحياناً من الأولاد! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة، والتصور المنحرف، ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن .. ومن .. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء، حتى تتقطع أعناقهم، وتتوزع جهودهم، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء! وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير اللّه في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع - إلى جانب الأعراض والأخلاق - في سبيل هذه الأرباب!

إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ، وعلى تصفيف الشعر وكيه، وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة، والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء! ... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة ..

إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله، ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال، ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة، وهما في هذا الكد الناصب، أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضيحات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء!

وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية ..، وما من أضحية يقدمها عابد اللّه للّه، إلا ويقدم الذين يدينون لغير اللّه أضعافها للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض ..

وتقام أصنام من «الوطن»، ومن «القوم»، ومن «الجنس»، ومن «الطبقة»، ومن «الإنتاج» ... ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب .. وتدق عليها الطبول، وتنصب لها الرايات، ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد، وإلا فالتردد هو الخيانة، وهو العار ..

وحتى حين يتعارض العرض مع متطلبات هذه الأصنام، فإن العرض هو الذي يضحي، ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام!

إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل اللّه؛ ليعبد اللّه وحده في الأرض، وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده اللّه للإنسان .. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل اللّه ليبذل مثلها، وأكثر من يدينون لغير اللّه! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد، وخسارة الأنفس والأولاد والأموال، إذا هم جاهدوا في سبيل اللّه، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير اللّه في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض .. إن تكاليف الجهاد في سبيل اللّه في وجه طواغيت الأرض كلها، لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير اللّه، وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!

وأخيراً فإن توحيد العبادة والدينونة للّه وحده، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه، ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة، كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها.

وهناك ظاهرة واضحة متكررة... وهي أنه كلما قام عبد من عبيد اللّه، ليقيم من نفسه طاغوتاً يعبّد الناس لشخصه من دون اللّه .. احتاج هذا الطاغوت كي يُعبد (أي يُطاع ويُتبع) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات: أولاً لحماية شخصه، وثانياً لتأليه ذاته، واحتاج إلى حواشٍ وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده، وترتل ذكره، وتنفخ في صورته «العبدية» الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان «الألوهية» العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها، وحشد الجموع - بشتى الوسائل - للتسبيح باسمها، وإقامة طقوس العبادة لها ...!

وهو جهد ناصب لا يفرغ أبداً، لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل، وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد!

وفي هذا الجهد الناصب، تصرف طاقات وأموال - وأرواح أحياناً وأعراض! - لو أنفق بعضها في عمارة الأرض، والإنتاج المثمر، لترقية الحياة البشرية وإغنائها، لعاد على البشرية بالخير الوفير .. ولكن هذه الطاقات والأموال - والأرواح أحياناً والأعراض - لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون للّه وحده، وإنما يدينون للطواغيت من دونه.

ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة للّه وحده، وعبادة غيره من دونه .. وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض، والقيم والأخلاق، وفوق الذل والقهر والدنس والعار!

وليس هذا في نظام أرضي دون نظام، وإن اختلفت الأوضاع، واختلفت ألوان التضحيات.

والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها - وهذه السورة نموذج منها - أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية - التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة - هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام، وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام!

إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم، وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد، وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق ..

ثم هي بعد - بعد ذلك لا قبله - قضية منهج للحياة الواقعية، يتمثل في شريعة ونظام وأحكام، وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام، وتنفذ فيها الأحكام.

وكذلك فإن قضية «العبادة» ليست قضية شعائر، وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام، وأوضاع في واقع الحياة .. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين .. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات، واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.

فقه الحركة وفقه الأوراق

إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ! ...

 لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية، كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم، إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي...

وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة، كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي، وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.

والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة، دون إدراك لهاتين الحقيقتين، ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص، ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة، والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها، وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها، وتحكمها وتعيش فيها ...

الذين يفعلون ذلك، ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ، وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ .. هؤلاء ليسوا «فقهاء»! وليس لهم «فقه» بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلاً!

إن «فقه الحركة» يختلف اختلافاً أساسياً عن «فقه الأوراق»، مع استمداده أصلاً وقيامه على النصوص التي يقوم عليها، ويستمد منها «فقه الأوراق»!

إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره «الواقع» الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام، ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركباً لا تنفصل عناصره، فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه!

ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها ...

 إنه لم ينشأ في فراغ، ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ!

ونأخذ مثالاً لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس، وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قوله تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ ومن قول رسول اللّه e: «إنا واللّه لا نولي هذا العمل أحداً سأله»..

لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ليطبق في هذا المجتمع، وليعيش في هذا الوسط، وليلبي حاجة ذلك المجتمع، وفق نشأته التاريخية، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي، فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي ... وقد نشأ في وسط واقعي، ولم ينشأ في فراغ مثالي، وهو من ثم لا يطبق، ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي .. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة ...

 وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقوّمات كلها، يعتبر «فراغاً» بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح له، ولا يصلحه كذلك! ..

ومثل هذا الحكم، كل أحكام النظام الإسلامي، ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما، كي يختاروا لمجلس الشورى، أو للإمامة، أو للإمارة ...

إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم، كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل، لا يغري أحداً بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب، وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان اللّه تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم.

وهؤلاء يجب أن يمنعوها! ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضاً ...

إن الحركة هي العنصر المكوّن لذلك المجتمع، فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية ..

أولاً: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي، متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات -، أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند اللّه، وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك -، فيستجيب للدعوة ناس يتعرضون للأذى، والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة، فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد اللّه عليه، فيقضي نحبه شهيداً، ومنهم من ينتظر حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه بالحق ...

هؤلاء يفتح اللّه عليهم، ويجعل منهم ستاراً لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له، ليقيم مملكة اللّه في الأرض - أي لينفذ حكم اللّه في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء، إنما هو نصر لدين اللّه، وتمكين لربوبية اللّه في العباد.

وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة، ولا عند حدود جنس معين، ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة، أو مقوّم واحد من تلك المقوّمات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا «الإنسان» .. كل الإنسان: في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير اللّه، وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أياً كانت هذه الطواغيت.

وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لا حظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع، ويقوم هذا التحديد، وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية، الجميع يتعارفون عليها، من البلاء في الجهاد، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة...

وكلها قيم يحكم عليها الواقع، وتبرزها الحركة، ويعرفها المجتمع، ويعرف المتسمين بها .. ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم، ولا أن يطلبوا الإمارة، أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية ..

وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين ثم الأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل، ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام...

 في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضاً، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحياناً فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة - من جانب آخر - إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم، ويطلبوا الإمارة، أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية...

ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة .. لن يوجد اليوم أو غداً، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها ..

 وهذه نقطة البدء .. ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا اللّه عليه، فيقضون نحبهم ويموتون شهداء، وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية، كما يكره أحدهم أن يلقى في النار حتى يحكم اللّه بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكّن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض اللّه نظام إسلامي ...

 ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية، وفق الموازين والقيم الإيمانية .. ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم، يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم!

ولقد يقال بعد هذا: ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى، فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟ وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين! إن هذا الدين يتحرك دائماً، ولا يكف عن الحركة .. يتحرك لتحرير «الإنسان»... كل الإنسان .. في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير اللّه؛ وليرفعه عن العبودية للطواغيت، بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم، أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة!

وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب، ولا تقف أبداً ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام - وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس، وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائماً وعاملاً في محيطه الملائم .. ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه.

ثم يقال: ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضاً، ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها، وطلب العمل على أساس هذه التزكية!

وهذا القول كذلك وهم ناشئ من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة .. إن المجتمع المسلم يكون أهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية، والتكوين والتوجيه، والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم، موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية، فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية ... سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية، أما الإمارات العامة، فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له .. يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة، والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.

إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغاً لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام، ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام...

 إن تركيبه العضوي مناقض تماماً للتركيب العضوي للمجتمع المسلم، فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام، مع تحمل ضغوط الجاهلية، وما توجهه من فتنة وإيذاء، وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء، وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف، أما المجتمع الجاهلي الحاضر، فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية ...

وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغاً لا يعيش فيه هذا النظام، ولا تقوم فيه هذه الأحكام!

هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية!

كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها، والناس لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة!

 كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصاً يضمن ولاءهم له، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟

وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جواباً في هذه المتاهة!

أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة .. إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم، وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر، وبقيمة وأخلاقه الحاضرة!

هذه نقطة البدء في المتاهة...ومتى بدأ منها الباحث، فإنه يبدأ في فراغ، ويوغل في هذا الفراغ، حتى يبعد في التيه، وحتى يأخذه الدوار!

إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي، ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام ...

 لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظام الإسلامي، وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ؛ لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ، ولم تتحرك في فراغ كذلك!

إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي .. ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية – لإنشائه، وتحددت أقدارها، وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.

إنه مجتمع جديد .. ومجتمع وليد .. ومجتمع متحرك دائماً في طريقه لتحرير «الإنسان»، .. كل الإنسان .. في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير اللّه، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت .. أيا كانت هذه الطواغيت ..

ومثل قضية التزكية، وطلب الإمارة، واختيار الإمام، واختيار أهل الشورى ... وما إليها ... قضايا كثيرة تثار، ويطرقها الباحثون في الإسلام ... في الفراغ ... في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه .. بتركيبه العضوي المختلف تماماً عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم .. وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماماً عن قيم المجتمع المسلم، وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته ..

أعمال البنوك وأساسها الربوي .. شركات التأمين وقاعدتها الربوية .. تحديد النسل، وما أدري ماذا؟! إلى آخر هذه «المشكلات» التي يشغل «الباحثون» بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم .. إنهم جميعاً - مع الأسف - يبدؤون من نقطة البدء في المتاهة! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر، فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام! وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة!

إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم، إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانياً، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمداً من أصول الشريعة الكلية .. والعكس لا يمكن أن يكون أصلاً!

إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا يعيش في فراغ كذلك .. لا ينشأ في الأدمغة والأوراق، إنما ينشأ في واقع الحياة، وليست أية حياة، إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد .. ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولاً بتركيبه العضوي الطبيعي، فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق .. وعندئذ تختلف الأمور جداً ..

وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية، وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين، وتحديد النسل ... إلخ، وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفاً أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها، ولا شكلها، حتى نشرّع لها سلفاً! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها .. ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها، ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها، ولا بتلبيتها كذلك!

إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل، الذي يجب على دين اللّه أن يطابق نفسه عليه! ولكن الأمر غير ذلك تماماً .. إن دين اللّه هو الأصل الذي يجب على البشرية أن تطابق نفسها عليه، وأن تحور من واقعها الجاهلي، وتغير حتى تتم هذه المطابقة .. ولكن هذا التحور، وهذا التغير لا يتمّان عادة إلا عن طريق واحد .. هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية اللّه في الأرض، وربوبيته وحده للعباد، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت، بتحكيم شريعة اللّه وحدها في حياتهم ..

وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء، فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد، ويصدق اللّه من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد، ويصبر من يصبر، ويمضي في حركته حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه بالحق، وحتى يمكن اللّه له في الأرض، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه، وتميزوا بقيمه ... وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها، وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية، ومطالبها وطرق تلبيتها .. وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام، وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات ..

ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلاً أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة، وتنفق في مصارفها، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة، ثم بين كل أفراد الأمة، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر .. إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية .. من يدرينا أن مجتمعاً كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلاً؟! وعنده كل تلك التأمينات، والضمانات مع تلك الملابسات، والقيم والتصورات؟! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين، فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته؟!

وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلاً؟ .. وهكذا ..

وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلماً، ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه ..

فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب، شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته!

إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها.

كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين اللّه أن يطابق نفسه عليه، وأن يحور ويطور، ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها .. حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلاً من مخالفتها للإسلام، ومن خروج حياتها جملة من إطاره!

ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية، والمجتمعات الجاهلية، والحاجات الجاهلية، وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولاً إلى الإسلام، وأعلنوا خضوعكم سلفاً لأحكامه .. أو بعبارة أخرى .. تعالوا أنتم أولاً فادخلوا في دين اللّه، وأعلنوا عبوديتكم للّه وحده، واشهدوا أن لا إله إلا اللّه بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به، وهو إفراد اللّه بألوهيته في الأرض، كإفراده بالألوهية في السماء وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها، وتنحية ربوبية العباد للعباد، بتنحية حاكمية العباد للعباد، وتشريع العباد للعباد، وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود، وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة اللّه فعلاً ..

فأما قبل قيام هذا المجتمع، فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس، باستنبات البذور في الهواء، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء!

إن العمل في الحقل «الفكري» للفقه الإسلامي عمل مريح! لأنه لا خطر فيه! ولكنه ليس عملاً للإسلام، ولا هو من منهج هذا الدين، ولا من طبيعته! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملاً للإسلام في هذه الفترة فأحسب - واللّه أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضاً!

إن دين اللّه يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول، ومجرد خادم مطيع، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه، المتنكر له، الشارد عنه .. الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه ..

إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ، ولا تعمل في فراغ .. وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان اللّه ابتداء، هو الذي صنع هذا الفقه، وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع .. ولن تنعكس الآية أبداً.

إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائماً واحدة، والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوماً ما سهلاً ولا يسيراً.

ولن يبدأ أبداً من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي، ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على «الجاهز»، والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام، وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية «الجاهزة»!

وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة .. إلى آخر ما يخادع به بعضهم، وينخدع به بعضهم الآخر!

كلا! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية للّه، فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض للّه وحده.

وتخرج بذلك من الإسلام خروجاً كاملاً، يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة .. ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون اللّه - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أرباباً متفرقة معبودة مطاعة، وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك .. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام ..

وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاماً في الأرض، وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة الماديّة.

وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة، إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى، وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها، ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية، ثم يحكم اللّه بين من يسلمون للّه وبين قومهم بالحق .. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة في هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ، وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا -، ولا يمكن التكهن بها سلفاً، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين!

إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلاً من الوجهة الشرعية، ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائماً الآن فعلاً، ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقاً بقيام ذلك المجتمع .. ويبقى الالتزام بها قائماً في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي، ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي، ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة، وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية ..

إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير، كلما قامت الجاهلية، وقامت في وجهها محاولة إسلامية .. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة اللّه في خلال القرنين الأخيرين، وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام، وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر،/ تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين، وتوهمهم أنه لا يزال بخير، وهو يمحى من الوجود محواً!

إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد .. وجد من يوم أن قيل للناس: اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره، فعبدوه، ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت، إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدأ، فلم تكن بعد قد نزّلت شرائع! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة للّه وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع، وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة ..

وهذا هو الطريق وحده، وليس هنالك طريق آخر ..

وليت هنالك طريقاً سهلاً عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان، وببيان أحكام الإسلام! ولكن هذه إنما هي «الأمانيّ»! فالجماهير لا تتحول أبداً من الجاهلية، وعبادة الطواغيت، إلى الإسلام وعبادة اللّه وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة .. والذي يبدؤه فرد، ثم تتبعه طليعة، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم اللّه بينها وبين قومها بالحق، ويمكِّن لها في الأرض .. ثم .. يدخل الناس في دين اللّه أفواجاً .. ودين اللّه هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (آل عمران: 85).

معركة أحد

في ميدان الأرض .. وميدان الفس

غزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده إنما كانت معركة كذلك في الضمير .. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين؛ لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه .. ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم .. وكان القرآن هناك، يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!

وكان النصر أولاً، وكانت الهزيمة ثانياً، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة .. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين.

وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة - بعد ذلك - متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم، وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على اللّه وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى اللّه وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.

وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث، أكبر وأخطر - بما لا يقاس - من حصيلة النصر والغنيمة .. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة .. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة .. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة، وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى، كذلك من حصيلة النصر والغنيمة، وكان تدبير اللّه العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر .. كان تدبير اللّه العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة اللّه الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبير كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم، وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن، ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة!

لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة، وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد اللّه، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة، وكان ما شاءه اللّه وما دبره، وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير.

ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع .. وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقلة المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة، وضعف الحرص والشح، والرغبات الدفينة.

ولعل مما يلفت النظر أكثر، الكلام - في صدد التعقيب على معركة حربية - عن الربا والنهي عنه، وعن الشورى والأخذ بها، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائج السيئة للمعركة!

ثم .. سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية، وفي الحياة الإنسانية، وتعدد نقط الحركة فيها، وتداخلها، وتكاملها العجيب...

ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج، وهذه السعة، وهذا التداخل، وهذا التكامل، فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد، وتدبير حربي فحسب .. فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة .. إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير، وخلوصه، وتجرده، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته، وتقعد به دون الفرار إلى اللّه! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة، وفق منهج اللّه القويم، المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها - لا في نظام الحكم وحده - وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي، والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام!

والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة، على إثر معركة لم تكن - كما قلنا - معركة في ميدان القتال وحده.

إنما كانت معركة في الميدان الأكبر، ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية .. ومن ثم عرج على الربا، فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء، فحض عليه، وعرج على طاعة اللّه ورسوله، فجعلها مناط الرحمة، وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها كلها مناط الرضوان، كما عرج على رحمة اللّه المتمثلة في رحمة الرسول e، ولين قلبه للناس، وعلى مبدأ الشورى، وتقريره في أحرج الأوقات. وعلى الأمانة التي تمنع الغلول.

وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات ..

عرج على هذا كله؛ لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع، الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.

وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية، ونشاطها كله، ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة للّه، والعبودية له، والتوجه إليه في حساسية وتقوى، وإلى وحدة منهج اللّه في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها، في كل حال من أحوالها، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج، وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثير كل حركة من حركات النفس، وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.

وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في «أحد» إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى اللّه، والالتصاق بركنه الركين، والتطهر من الذنوب إذن، والالتصاق باللّه، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان!

 واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر، والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك.

كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته .. حقيقة قدر اللّه. ورد الأمر إليه جملة.

وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحاً حاسماً جازماً، وفي الوقت ذاته تقرير سنة اللّه في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم، وخطئهم وإصابتهم، وطاعتهم ومعصيتهم، وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه، واعتبارهم بعد هذا كله ستاراً للقدرة، وأداة للمشيئة، وقدراً من قدر اللّه يحقق به ما يشاء سبحانه.

ثم .. في النهاية .. إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء، إنما هو تدبير اللّه لتنفيذ قدره، من خلال جهادها، وأجرها هي على اللّه، وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض، ولا لحسابها الخاص يؤتيها اللّه النصر إذ يشاء، إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها اللّه.

 وكذلك الهزيمة، فإنها حين تقع بناء على جريان سنة اللّه، وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط، إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها اللّه بحكمته وعلمه لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلية الحقائق، وإقرار القيم، وإقامة الموازين، وجلاء السنن للمستبصرين ..

ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري، أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني، في الانتصار على النفس، والغلبة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده اللّه في حياة الناس، ليكون كل نصر نصراً للّه ولمنهج اللّه، وليكون كل جهد في سبيل اللّه ومنهج اللّه.

وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية، ولا خير فيها للحياة، ولا للبشرية، إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق، والحق واحد لا يتعدد، إنه منهج الله وحده، ولا حق في هذا الكون غيره، وانتصاره لا يتم حتى يتم أولاً في ميدان النفس البشرية، وفي نظام الحياة الواقعية، وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها، ومن مطامعها وشهواتها، ومن أدرانها وأحقادها، ومن قيودها وأصفادها، وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق، وحين تنسلخ من قوتها، ومن وسائلها، ومن أسبابها، لتكل الأمر كله إلى الله، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة، وحين تحكم منهج الله في الأمر كله، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها، حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصاراً في ميزان الله، وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة!

ومن ثم كان ذلك الازدواج، وكان ذلك الشمول، في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد، في ذلك الميدان الفسيح، الذي يعد ميدان القتال جانباً واحداً من جوانبه الكثيرة .

وقائع المعركة

وقبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة، يحسن أن نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة؛ لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك، ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم، في تناول الوقائع والأحداث:

كان المسلمون قد انتصروا في بدر، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه - في ظل الظروف التي وقع فيها - رائحة المعجزة، وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر، ورؤوسه من قريش، فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب - بعد ذهاب أشرافهم في بدر -، فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر، وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت، فلم تقع في أيدي المسلمين؛ فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين .

وقد جمع أبو سفيان قريباً من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش([12])، وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة؛ وجاؤوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا،. ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد.

واستشار رسول الله e أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألاَّ يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها؛ فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت([13])، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ (رأس المنافقين)، فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة - ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر -، فأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة .

فنهض e ودخل بيته -بيت عائشة- ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك، وقالوا: أكرهْنا رسول الله e على الخروج! فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل،. فقال رسول الله e:

 (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).

... وألقى عليهم بذلك درساً نبوياً عالياً؛ فللشورى وقتها، حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله، ولم يعد هناك مجال للتردد، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء ... إنما تمضي الأمور لغاياتها، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء . .

وكان رسول الله e قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة . . فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة ... وكان إذن يرى عاقبة المعركة، ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى، ونظام الحركة بعد الشورى، لقد كان يربي أمة، والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث ... ثم لقد كان يُمضي قدر الله، الذي تستقر عليه مشاعره، ويستقر عليه قلبه، فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول ...

وخرج رسول الله e في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، فلما صار بين المدينة وأحد، انعزل رأس النفاق: عبد الله بن أبيّ بنحو ثلث العسكر، وقال: يخالفني، ويسمع للفتية! فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر بن عبد الله يوبخهم، ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم .

وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود . . فأبى e، فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر، فما ليهود بها؟ والنصر من عند الله - حين يصح التوكل عليه، وتتجرد القلوب له - وقال: (من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟)، فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.

فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر .

وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.

وظاهر رسول الله e بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.

واستعرض الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال، وكان منهم عبد الله بن عمرو، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزام، وأجاز من رآه مطيقاً، وكان منهم سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة!

وتعبأت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف، وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل .

ودفع رسول الله e سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة، وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب .

وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق، وكان يسمى: «الراهب»، فسماه رسول الله e «الفاسق»، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله e بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله e، ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه، فكان أول من لقي المسلمين، فنادى قومه، وتعرف إليهم، فقالوا له: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً .

ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسناً، هو وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والنضر بن أنس، وسعد بن الربيع.

وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار؛ حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم، وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين، حتى انتهوا إلى نسائهم، وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات!

فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله e ألا يبرحوها، وقالوا: يا قوم، الغنيمة! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله e، فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد!

عندئذ أدركها خالد، فكرّ في خيل المشركين، فوجدوا الثغر خالياً فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين، وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالداً والفرسان قد علوا المسلمين، فأحاطوا بهم!

وانقلبت المعركة، فدارت الدائرة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد، وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة.

وخلص المشركون إلى رسول الله e، وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا، وقد جرح وجهه e، وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل، وهشمت البيضة على رأسه، ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين، وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته .

وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: إن محمداً قتل ...، فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة، لا يحاولون قتالاً، مما أصابهم من اليأس والكلال!

ولما انهزم الناس، لم ينهزم أنس بن النضر t، وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله e، فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله e، ثم استقبل المشركين، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد، واهاً لريح الجنة، إني أجدها من دون أحد! فقاتل حتى قتل . . ووُجد به بضع وسبعون ضربة، ولم تعرفه إلا أخته، عرفته ببنانه ...

وأقبل رسول الله e نحو المسلمين، وكان أول من عرفه تحت المغفر، كعب بن مالك، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله e، فأشار بيده: أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب، وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم ... فلما امتدوا صعوداً في الجبل، أدرك رسول الله e أبي بن خلف على جواد له اسمه العود، كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمداً، فلما سمع بذلك رسول الله e قال: (بل أنا أقتله إن شاء الله) ... فلما أدركه تناول e الحربة من الحارث، وطعن بها عدو الله في ترقوته، فذهب يخور كالثور، وقد أيقن أنه مقتول، كما قال رسول الله e من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته!

وأشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد؟ فقال رسول الله e:

(لا تجيبوه)، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة .

فقال: مخاطباً قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر t نفسه أن قال: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! فقال: قد كان في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني! «يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة t بعد أن قتله وحشي، حين بقرت بطنه، واستخرجت كبده، فلاكتها ثمّ لفظتها!».

ثم قال: اعلُ هُبل! فقال رسول الله e: (ألا تجيبونه؟)، قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: (قولوا: الله أعلى وأجل)، قال: لنا العزى، ولا عزى لكم! قال رسول الله e: (ألا تجيبونه؟)، قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: (الله مولانا، ولا مولى لكم)، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال عمر t: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار .

ولما انقضت المعركة، انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري، وإحراز الأموال، فشق ذلك عليهم، فقال النبي e لعلي بن أبي طالب t: (اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن هم جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده، لو أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزهم فيها).

قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة .

فلما كانوا في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم ... فبلغ ذلك رسول الله e، فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم، وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك، قال: (لا)، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف؛ وقالوا: سمعاً وطاعة، واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال: يا رسول الله، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد، فأذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله e والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد؛ وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله e، فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال: وما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فلا تفعل، فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة .

ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة؛ فقال: هل لك أن تبلغ محمداً رسالة، وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم، قال: أبلغ محمداً أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله، ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولم يفت ذلك في عضدهم، وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون، ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين فعادوا إلى المدينة . .

وقائع موحية

وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور كل جوانبها، ولا يسجل كل ما وقع فيها، مما هو موضع المثل والعبرة ... ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية، تكملة لرسم الجو واستحيائه:

كان عمرو بن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله e حين أفرد في فترة اضطراب المعركة، عقب تخلي الرماة عن أماكنهم، وإحاطة الكفار بالمسلمين، والصيحة بأن محمداً قتل، وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم .

وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم، كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله e قتالاً شديداً، وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة، ولكن وَقَتْهُ درعان كانتا عليه، وضربها هو بالسيف فجرحها جرحاً شديداً على عاتقها . .

وكان أبو دجانة يترّس بظهره على النبي e، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك، ولا يكشف رسول الله e.

وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعاً إلى رسول الله e، ويقف دونه وحده، حتى يصرع، في صحيح ابن حبان عن عائشة، قالت: «قال أبو بكر الصديق: لمّا كان يوم أحد، انصرف الناس كلهم عن النبي e، فكنت أول من فاء إلى النبي e، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه، ويحميه، قلت: كن طلحة! فداك أبي وأمي! كن طلحة! فداك أبي وأمي! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي e، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال e:

(دونكم أخاكم فقد أوجب)، وقد رُمي النبي e في وجنته، حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعها عن النبي e فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله e، ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذه، فجعل ينضنضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ... ثم قال رسول الله e: (دونكم أخاكم فقد أوجب)، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة .

وجاء علي t بالماء لغسل جرح رسول الله e، فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة تغسله، فلما رأت أن الدم لا يكف، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم .

وقد مصّ مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله e حتى أنقاه، فقال له: (مجه)، فقال: والله لا أمجه أبداً! ثم ذهب، فقال النبي e:

(من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا).

وفي صحيح مسلم أنه e أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: (من يردهم عني وله الجنة؟)، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه، فقال: (من يردهم عني فله الجنة، وهو رفيقي في الجنة) ... فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله e: (ما أنصفنا أصحابنا) ... ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة ...

وقد بلغ الإعياء برسول الله e أنه وهو يصعد الجبل، والمشركون يتبعونه، أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها، وحانت الصلاة، فصلى بهم جالساً .

ومن أحداث هذا اليوم كذلك:

إن حنظلة الأنصاري (الملقب بحنظلة الغسيل) شد على أبي سفيان، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله، وكان جنباً، فإنه لما سمع صيحة الحرب، وهو مع امرأته، قام من فوره إلى الجهاد، فأخبر رسول الله e أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: (سلوا أهله ما شأنه؟)، فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر!

وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله e يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله e يقرأ عليك السلام، ويقول لك: (أخبرني كيف تجدك؟) فقال: وعلى رسول الله e السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله e، وفيكم عين تطرف... وفاضت نفسه من وقته .

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم .

وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم، قبل أُحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء، قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت، فذكرت ذلك لرسول الله e، فقال: (هذه الشهادة يا أبا جابر).

وقال خيثمة - وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله e يوم بدر: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول:

الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد - والله يا رسول الله - أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله e بذلك، فقتل بأحد شهيداً .

وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك!

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله e إذا غزا، فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله e فقال: يا رسول الله، إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله e: (أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد)، وقال لبنيه: (وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله U أن يرزقه الشهادة؟)، فخرج مع رسول الله e فقتل يوم أحد شهيداً .

وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه، والمسلمون يريدون قتله، لا يعرفونه، وهم يظنونه من المشركين، فقال حذيفة: أي عباد الله، أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال: يغفر الله لكم، فأراد رسول الله e أن يؤدِّي ديته، فقال حذيفة: قد تصدقت بديته على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيراً عند رسول الله .

وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً، أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة، وأتبصره، حتى رأيته كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هداً، ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة، أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه، فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ورجعت إلى المعسكر، فقعدت فيه، إذ لم تكن لي بغيره حاجة، إنما قتلت لأعتق ...

وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فبقرت بطن حمزة، وأخرجت كبده، ولاكتها فلم تقدر عليها، فألقتها.

ولما وقف رسول الله e بعد المعركة على جثمان حمزة t تأثر تأثراً شديداً، وقال e: (لن أصاب بمثلك أبداً، وما وقفت قط موقفاً أغيظ إلي من هذا)، ثم قال رسول الله e:

(أكلت شيئاً؟) قالوا: لا، قال: (ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار).

وقد أمر رسول الله e أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة، وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم، فنادى منادي رسول الله e برد القتلى إلى مصارعهم فردوا، ووقف - صلوات الله وسلامه عليه - يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد، وكان يسأل: أيهم أكثر أخذاً في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجلَ قدمه في اللحد، ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد؛ لما كان بينهما من المحبة .

فقال:(ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد).

_ _ _

هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة، لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان، وإلا مخالفة عن الأمر، وإلا حركة من الهوى، وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية، والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة، وفي تاريخ النفاق والهزيمة!

وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين ... وهذه وتلك أنشأت - وفق سنة الله وقدره - هذه النتائج التي ذاقها المسلمون; وهذه التضحيات الجسام التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله e، والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام، وقد دفعوا الثمن غالياً ليتلقوا الدرس عالياً؛ وليمحص الله القلوب، ويميز الصفوف، وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها: مهمة القيادة الراشدة للبشرية، وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية . .

فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن .

أسلوب القرآن في معالجة الموقف

إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض; ولكنه يتتبع دخائل النفوس، وخوالج القلوب; ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه . .

وهو لا يعرض الحوادث عرضاً تاريخياً مسلسلاً بقصد التسجيل; إنما هو يعرضها للعبرة والتربية، واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث; ورسم سمات النفوس، وخلجات القلوب، وتصوير الجو الذي صاحبها; والسنن الكونية التي تحكمها; والمبادىء الباقية التي تقررها . وبذلك تستحيل الحادثة محوراً أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات والنتائج والا ستدلالات .

يبدأ السياق منها؛ ثم يستطرد حولها؛ ثم يعود إليها؛ ثم يجول في أعماق الضمائر، وفي أغوار الحياة؛ ويكرر هذا مرة بعد مرة حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها، وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل، والقيم والمبادىء لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها، وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث، وعقابيله في الضمائر فجلاها، ونقاها وأراحها في مواضعها، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقاً، ولا تحس فيها لبساً ولا دخلاً . .

وينظر الإنسان في رقعة المعركة وما وقع فيها - على سعته وتنوعه - ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني، وما تناوله من جوانب؛ فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك، وأبقى على الزمن، وألصق بالقلوب، وأعمق في النفوس، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية، وحاجات الجماعة الإسلامية في كل موقف تتعرض له في هذا المجال على تتابع الأجيال، فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان .

وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان في أي زمان وفي أي مكان.

حقائق ضخمة

وبعد . . فقد تمخضت المعركة، والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة يصعب إحصاؤها، ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض، فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها؛ ليقاس عليه سائر ما في الغزوة، كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:

1- لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية، وفي طريقته في العمل في حياة البشر، وهي حقيقة أولية بسيطة، ولكنها كثيراً ما تنسى، أو لا تدرك ابتداء، فينشأ عن نسيانها، أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين: في حقيقته، وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية، وفي دوره أمس واليوم وغداً .

إن بعضنا ينتظر من هذا الدين - ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة! دون اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقتهم الفطرية، ولواقعهم المادي في أية مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم!

وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة، وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية، وحدود الواقع المادي للبشر، وأن هذه الطاقة، وهذا الواقع يتفاعلان معه، فيتأثران به في فترات تأثراً واضحاً، أو يؤثران في مدى استجابة الناس له، وقد يكون تأثيرهما مضاداً في فترات أخرى، فتقعد بالناس ثقلة الطين، وجاذبية المطامع والشهوات، دون تلبية هتاف الدين، أو الاتجاه معه في طريقه اتجاهاً كاملاً . . حين يرون هذه الظواهر، فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها! - ما دام هذا الدين من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً!

وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد، هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين، وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة .

إن هذا الدين منهج للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري في حدود الطاقة البشرية، ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي، ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود جهدهم البشري، وطاقتهم البشرية، ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم، وجهدهم من بلوغه .

وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة في أية خطة، وفي أية خطوة عن طبيعة فطرة الإنسان، وحدود طاقته، وواقعه المادي أيضاً، وأنه في الوقت ذاته يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة - ما لم يبلغه، وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق .

ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها، ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري، والتي تبدل فطرة الإنسان، وتنشئه نشأة أخرى، لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته، وواقعه المادي كله!

أليس هو من عند الله؟ أليس ديناً من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء؟ فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية؟ ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل؟ ثم لماذا لا ينتصر دائماً؟ ولا ينتصر أصحابه دائماً؟ لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحياناً؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه، وهم أهل الحق أحياناً؟

وكلها - كما نرى - أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين، وطريقته، أو نسيانها!

إن الله قادر - طبعاً - على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه - وكان قادراً على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى .

ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة، وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة، وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة، وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً، ولا تمحى ولا تبدل ولا تعطل، وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية، وشاء أن يبلغ «الإنسان» من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة .

وليس لأحد من خلقه أن يسأله: لماذا شاء هذا؟ ما دام أن أحداً من خلقه ليس إلهاً! وليس لديه العلم، ولا إمكان العلم بالنظام الكلي للكون، وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا «التصميم» الخاص!

و « لماذا؟ » - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله كذلك ملحد جاد ... المؤمن لا يسأله؛ لأنه أكثر أدباً مع الله - الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته -، وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال ... والكافر لا يسأله؛ لأنه لا يعترف بالله ابتداء، فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته!

ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع، لا هو مؤمن جاد، ولا هو ملحد جاد .. ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به، ولا الجد في أخذه!

وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية . . فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر، إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية - حتى يعرفها، فهو مؤمن، أو ينكرها، فهو ملحد . . وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراءا!

ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة؟ ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة لا تمحى، ولا تعدل ولا تعطل! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية؟

ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية، ويفسر التاريخ البشري على ضوئها; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية، ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى .

هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام - كما جاء به محمد e، لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله، ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يُمضي الله ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية .

إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه - بقدر طاقتها -، وتجعله وظيفة حياتها، وغاية آمالها؛ وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين، وفي حياتهم العملية كذلك; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة ... تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري في أنفسها، وأنفس الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج . . وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر، على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً; ولا تغفل واقعهم ومقتضيات هذا الواقع في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها . . ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها، وعلى نفوس الناس معها تارة; وتنهزم في المعركة مع نفسها، أو مع نفوس الناس تارة، بقدر ما تبذل من الجهد; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب . .

وقبل كل شيء، وقبل كل جهد، وقبل كل وسيلة . . هنالك عنصر آخر: هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض، ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج، وثقتها به، وتوكلها عليه .

هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته، وهذه هي خطته الحركية ووسيلته . .

وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يربيها بأحداث معركة أحد; وبالتعقيب على هذه الأحداث . .

حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة، وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها، وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها، وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً بغض النظر عن تصورها وتصرفها، حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة; وتعاني آلامها المريرة، ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة:

 ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 165).

ولكنه - كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص - لا يترك المسلمين عند هذه النقطة، بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج، ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة . .

إن ترك المنهج الإلهي يعمل، ويتحقق عن طريق الجهد البشري، ويتأثر بتصرف البشر إزاءه ... هو خير في عمومه، فهو يصلح الحياة البشرية، ولا يفسدها أو يعطلها، ويصلح الفطرة البشرية، ويوقظها، ويردها إلى سوائها ... ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان، مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان، ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية .

وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد، والصبر على الأذى، والصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضاً - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة -، وحتى يتمحص القلب، ويتميز الصف، وتستقيم الجماعة على الطريق، وتمضي فيه راشدة صاعدة متوكلة على الله .

حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان؛ لأنه يجاهد نفسه أولاً في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً، وهو قاعد آمن سالم; وتتبين له حقائق في الناس، وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه، وبانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً، بدون هذه التجربة الشاقة المريرة .

وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة، حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها مدى احتمال كل لبنة، ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام .

وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهو يربيها بالأحداث في «أحد»، وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة، وهو يقول لها، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ (آل عمران: 166، 167) .. وهو يقول:

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179)، ثم ...

وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعاً؛ فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة:

﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 140-141)..

وإذن فهو - في النهاية - قدر الله وتدبيره، وحكمته من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات ... وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل يستقر في النفس من وراء الأحداث، والتعقيب المنير على هذه الأحداث.

2- وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية، وطبيعة الفطرة الإنسانية، وطبيعة الجهد البشري، ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:

إن النفس البشرية ليست كاملة - في واقعها -، ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء، حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .

وها نحن أولاء نرى قطاعاً من قطاعات البشرية - كما هو وعلى الطبيعة - ممثلاً في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها:

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110)

 وهم أصحاب محمد e المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق . . فماذا نرى؟ نرى مجموعة من البشر فيهم الضعف، وفيهم النقص، وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ (آل عمران: 155)، ومن يبلغ أن يقول الله عنهم:

﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ (آل عمران: 152) . . وفيهم من يقول الله عنهم:

﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (آل عمران: 122) ...

وفيهم من ينهزم وينكشف، وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله:

﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ (آل عمران: 153)...

وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق، كانوا في دور التربية والتكوين، ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر، مسلمين أمرهم لله، مرتضين قيادته، ومستسلمين لمنهجه، ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه، بل رحمهم وعفا عنهم; وأمر نبيه e أن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، وأمره أن يشاورهم في الأمر بعد كل ما وقع منهم، وبعد كل ما وقع من جراء المشورة! نعم إنه - سبحانه - تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك، وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير ... ولكنه لم يطردهم خارج الصف، ولم يقل لهم: إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف . .

لقد قبل ضعفهم هذا، ونقصهم، ورباهم بالابتلاء، ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء، والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات، في رحمة، وفي عفو، وفي سماحة; كما يربت الكبير على الصغار; وهم يكتوون بالنار؛ ليعرفوا ويدركوا وينضجوا، وكشف لهم ضعفهم، ومخبآت نفوسهم، لا ليفضحهم بها، ويرذلهم، ويحقرهم، ولا ليرهقهم، ويحملهم ما لا يطيقون له حملاً، ولكن ليأخذ بأيديهم، ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم، ولا يحتقروها، ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين .

ثم وصلوا . . وصلوا في النهاية، وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة، وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح، يخرجون مع رسول الله e غير هيَّابين، ولا مترددين، ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173) .

ولما كبروا بعد ذلك شيئاً فشيئاً ... تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار.

بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين، تلك المؤاخذة العسيرة، يجد الفرق واضحاً في المعاملة; ويجد الفرق واضحاً في مراحل التربية الإلهية العجيبة...

كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد، والقوم يوم تبوك . . وهم هم . . ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق، ولكنهم مع هذا ظلوا بشراً، وظل فيهم الضعف، والنقص، والخطأ، ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله .

إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج; ولا يبدلها أو يعطلها، ولا يحملها ما لا تطيق، وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.

وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية، لتحاول وتبلغ، في ظل هذا المنهج الفريد، فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه، وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق، زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية، متخلفة في كل شيء، على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس .. وكل ذلك يعطي البشرية أملاً كبيراً في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي، مهما تكن قابعة في السفح، ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر، فهي ليست وليدة خارقة عابرة، إنما هي وليدة المنهج الإلهي الذي يتحقق بالجهد البشري في حدود الطاقة البشرية - والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير!

هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها، ومن الواقع المادي الذي هي فيه، ثم يمضي بها صعداً، كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة . . من السفح . . ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان إلى ذلك الأوج السامق . .

شرط واحد لا بد أن يتحقق . . أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج، أن تؤمن به، وأن تستسلم له، وأن تتخذه قاعدة حياتها، وشعار حركتها، وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل . .

3- وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها . . حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة، وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان، الارتباط بين العقيدة والتصور والخلق والسلوك، والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي . . وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة . . فكل هذه عوامل أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة .

والمنهج الإلهي - من ثم - يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية، وفي الحياة البشرية، مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط، متكاملة في الوقت ذاته، وشاملة، والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط، والتناسق بين هذه الساحات كلها، والنقط والخطوط والخيوط . .

وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل، الذي يأخذ الحياة جملة، ولا يأخذها مزقاً وتفاريق، والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعاً، ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة في قبضته، فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة، لا تصيب النفس بالفصام، ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام .

ومن نماذج هذا التجميع، وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه - في التعقيب القرآني - عن الخطيئة، وأثرها في النصر والهزيمة، فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا:

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ (آل عمران: 155) . .

كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا - وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به - بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 146 – 148) . .

وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة، توجيهها للتطهر والاستغفار:

 ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

(آل عمران: 133 – 135) . .

ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم: الاعتداء والمعصية: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 112) .

وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة، كما نجد الكلام عن «التقوى»، وتصوير حالات المتقين، يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة، ويربط بين جو السورة كلها - على اختلاف موضوعاتها - وجو المعركة، كما نجد الدعوة إلى ترك الربا، وإلى طاعة الله والرسول، وإلى العفو عن الناس، وكظم الغيظ والإحسان . . وكلها تطهير للنفس وللحياة، وللأوضاع الاجتماعية . . والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي المهم .

4- وحقيقة رابعة . . عن طبيعة منهج التربية الإسلامي . . فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث، وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات، ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث . . على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد . . وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة؛ ليصحح تأثره، ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح! وهو لا يدع جانباً من الجوانب، ولا خاطرة من الخواطر، ولا تصوراً من التصورات، ولا استجابة من الاستجابات، حتى يوجه إليها الأنظار، ويسلط عليها الأنوار، ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية، ومنحنياتها الكثيرة، ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية; وبذلك يمحص الدخائل، وينظفها ويطهرها في وضح النور; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم; ويقر المبادئ التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين، وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة...

 مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير، والتربية على أوسع نطاق . .

وننظر في التعقيب على غزوة أحد، فنجد الدقة والعمق والشمول . . الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة; والشمول لجوانب النفس، وجوانب الحادث، ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج، والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف المسيرة للحادث، كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجاً عميقاً عنيفاً، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب، فهو وصف حي، يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر، والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير .

5- وحقيقة خامسة كذلك . . عن واقعية المنهج الإلهي . . فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع، مزاولته بالفعل، فهو لا يقدم مبادئ نظرية، ولا توجيهات مجردة . . ولكنه يطبق، ويزاول نظرياته وتوجيهاته، وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة، هو موقفه إزاء مبدأ الشورى.

لقد كان في استطاعة رسول الله e أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها - وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها - نقول كان في استطاعة رسول الله e أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة، مستنداً إلى رؤياه الصادقة; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة; ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد!

ولكنه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى، وأنفذ ما استقرت عليه، ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي، وتبعة العمل؛ لأن هذا في تقديره e، وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه، أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة، فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة وحرمانها التربية!

ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى - بعد المعركة كذلك - تثبيتاً للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة .

فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية، وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية . .

إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبداً لمزاولته إلا إذا زاولته فعلاً، وإن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية - كمبدأ الشورى - شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله، وأن الأخطاء في مزاولته - مهما بلغت من الجسامة - لا تبرر إلغاءه، بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت؛ لأنه إلغاء، أو وقف لنموها الذاتي، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف، بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقاً!

وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى - بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (آل عمران: 159).

كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلَّى في تصرف الرسول e عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين، واعتباره هذا تردداً وأرجحة، وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم، والشلل الحركي، فقال قولته التربوية المأثورة:

(ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له)

 ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير:

﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (آل عمران: 159) . .

فتطابق في - المنهج – التوجيه، والتنفيذ . .

6- وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله e، والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله . . وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله . .

إن منهج الله ثابت، وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون، ويصيبون في قواعد التصور، وقواعد السلوك، ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيراً لقيمه وموازينه الثابتة.

وحين يخطىء البشر في التصور أو السلوك، فإنه يصفهم بالخطأ، وحين ينحرفون عنه، فإنه يصفهم بالانحراف، ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم -، ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم!

ونتعلم نحن من هذا أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أياً كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه، فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ، أو الانحراف . .

فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص، والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل، وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم، وإنما هو كل فعل، وكل وضع صنعوه موافقاً تمام الموافقة للمنهج ومبادئه، وقيمه الثابتة .

وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام، وعلى تاريخ الإسلام; إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه: من خطأ، أو انحراف، أو خروج على الإسلام . .

 إن تاريخ «الإسلام» ليس هو تاريخ «المسلمين»، ولو كانوا مسلمين بالاسم، أو باللسان! إن تاريخ «الإسلام» هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس، وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم ونظام مجتمعاتهم . .

فالإسلام محور ثابت، تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت، فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار، أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً، فما للإسلام وما لهم يومئذ؟

وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام، أو يفسر بها الإسلام؟

 بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام، وأبوا تطبيقه في حياتهم، وهم إنما كانوا مسلمين، لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم، لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون؟!

وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للأمة المسلمة، وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة، ويسجل عليها النقص والضعف، ثم يرحمها بعد ذلك، ويعفو عنها، ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه، وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء!

وسوم: العدد 929