مذكرات الدكتور معروف الدواليبي

عبد الله الطنطاوي

مذكرات الدكتور معروف الدواليبي

د. عبد القدوس أبو صالح

عرض: عبد الله الطنطاوي

إعداد: د. عبد القدوس أبو صالح

تحرير: د. محمد علي الهاشمي

آخر مرة التقيت الدكتور الدواليبي – رحمه الله وغفر له - في رمضان عام 1418هـ - 1998م في منزل شيخنا الجليل الأديب الكبير علي الطنطاوي – رحمه الله رحمة واسعة – وسألته – فيما سألته - عما إذا كان قد قرأ مذكرات الأستاذ الراحل أكرم الحوراني.

قال: نعمْ قرأتها.

سألته: ما رأيك فيما جاء فيها؟

أجاب: فيها كذب كثير، وتضليل، ومبالغات.

- هل ستردّ عليها، وتوضح الحقائق؟

فلم يجب، فكررت عليه السؤال مرتين، فأجاب في شيء من الضيق:

- سمعت سؤالك، ولن أرد عليه.

- لماذا؟

- لأنني لا أستطيع الرد.

- لماذا؟

وبعد حوقلة خافتة أجاب:

- لأنني إذا رددت عليه، فسوف أضطر لذكر أشياء لا أريد ذكرها، فقد أسيء إلى من أحسن إلي.. إلى صاحب الفضل عليّ، الملك فيصل الذي أكرمني، وجعلني مستشاره..

وذكر أشياء جميلة عن الملك فيصل – رحمه الله - منها أنه دعاه إليه، وأكرمه، وقرّبه منه، وقال له:

- اطلب ما تريد.

قال له الدواليبي:

- أريد الجنسية السعودية.

فنظر إليه الملك وقال:

- إلا هذه.

- لماذا؟

- لأنك رمز لسورية والسوريين، فأنت رئيس وزراء سورية، وأنت رجلها. وسوف أعطيك جوازاً أحمر (دبلوماسياً) وأنت أخي ومستشاري، وأما أهلك وأولادك ومن تحب أن يمنح الجنسية السعودية، فلهم ما تحب.

ويتابع الدكتور الدواليبي:

- وفي لقاء آخر، دخلت على الملك، وأنا ألبس الدشداشة واللباس السعودي، فابتسم وقال:

- لا.. لا أريدك بهذا اللباس.. أريدك دائماً بلباسك السوري، ببذلتك، وربطة عنقك.. لا تنس أنك رئيس وزراء سورية، وأنت رمزها هنا..

وقصَّ علينا ذكريات أخرى.

سألته: هل كتبت مذكراتك؟

أجاب: لا.

وكنت سألته هذا السؤال عندما حضر المؤتمر الإسلامي الشعبي في بغداد عام 1984 وأجاب بأنه يفكر بكتابتها، ولكن مشاغله الكثيرة تحول دون ذلك.

والخلاصة: أنه لم يكتب مذكراته، ولا يستطيع الكتابة.

قلت له: إذن. سوف يقول الناس: إن ما كتبه الأستاذ الحوراني في مذكراته صحيح، لأنكم قرأتموها، ولم تردّوا عليها.

ثم ظهرت مذكرات الدكتور الدواليبي، وهي عبارة عن ذكريات استطاع الدكتور عبد القدوس أبو صالح أن يستلها منه، من خلال الأسئلة التي كان يوجهها إليه، وهي قليل جداً من كثير دُفن مع الدواليبي، ولم يتعرض له الدواليبي في إجاباته هذه.

هذا لأن الدواليبي شخصية كبيرة، وعاش عمراً مديداً، وكانت حياته، منذ كان فتى يافعاً، حافلة، فيها الحلو وفيها المرّ، وقد استمعت إليه مرتين في بغداد، في جلستين وليلتين، وكان في إحداهما المشير الرائع سوار الذهب، سألته فيها عن القائد فوزي القاوقجي، الذي أنوي الكتابة عنه، فتحدث طويلاً عنه، وشوّه الصورة التي كانت في نفسي عنه –عن القاوقجي- تحدث عن عمالته للإنكليز، وعن خيانته لألمانيا، وعن تآمره على المفتي الحاج أمين الحسيني، وأرجع خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، إلى خيانة القاوقجي لها، كما وردت في هذه المذكرات..

وتحدث عن الخبراء الألمان الذين استقدمهم – عندما كان وزيراً للدفاع - لصناعة الصواريخ في سورية، وصنَّعوها، ثم كان الانقلاب العسكري عليه، وخيانة رئيس الأركان شوكت شقير، وبيعه أولئك الخبراء بثمن بخس، وتعطيله المشروع الرائد في صناعة الصواريخ، وتحدث عن جمال عبد الناصر الذي أخذ ما أنجزه الخبراء الألمان من تلك الصواريخ، وزعم أن صواريخ الناصر، والظافر، والقاهر، صناعة مصرية ناصرية، وهي –في الحقيقة- غير ذلك.

وتحدث –كما ورد في الكتاب الذي بين أيدينا- عن المفتي بإعجاب، وعن علاقته به..

كل ذلك، ونحن نستمع. ولم يعلق المشير سوار الذهب بكلمة على ما كان يسمع من ذكريات الدواليبي. كما لم يعلّق غيره من الحاضرين.

وفي جلسة أخرى مع المكتب السياسي للتحالف الوطني لتحرير سورية، في بغداد، وكان الدواليبي هناك لحضور المؤتمر الإسلامي الشعبي، حضرها –الجلسة- الفريق أمين الحافظ، والأستاذ عدنان سعد الدين، والأستاذ شبلي العيثمي، والأستاذ أبو عمر برهان وسواهم..

في هذه الجلسة تحدث عن انقلاب الشيشكلي، كما جاء في هذا الكتاب، وعن ثورة جبل الدروز على الشيشكلي، وعن صلته –الدواليبي- بالعراق، وبنوري السعيد من أجل الخلاص من الحكم العسكري الجاثم على صدر دمشق، وأطنب في الحديث، وكنت أقول في نفسي: آه لو سكت.. ليته يسكت.. ولم تكن الجلسة موفقة، وخرجنا منها بمرارة بل بمرارات..

في حياته وعمره الطويل كانت إشراقات، وكانت انتكاسات، وسبحان الذي جعل العصمة لأنبيائه ورسله، وتفرد بالكمال، وجعل النقص في مكونات الإنسان، كائناً من كان.

في هذه المذكرات التي حررها الدكتور محمد علي الهاشمي بغير القلم الذي يسمو بقارئه سمواً شاعرياً، تحدث الدكتور الدواليبي – في قسمه الأول المرحلة السورية - عن أصله ونسبه الذي ينتهي إلى الصحابي اليماني فيروز الديلمي، وعن نشأته وتعليمه في مسقط رأسه –حلب- وعن علاقته بالكتلة الوطنية، وألوان نضاله مع رجالها حتى تحررت سورية من الاستعمار الفرنسي، وتحدث عن دور فوزي القاوقجي، وتهريب المفتي من فرنسا، وإنقاذ حياته، وعن إقناعه -الدواليبي- الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول بضرورة منح الاستقلال لسورية ولبنان، وتحدث عن الماسونية، وعن بعض رجالات سورية، مثل الثائر المجاهد إبراهيم هنانو، والرئيس هاشم الأتاسي، والرئيس شكري القوتلي، وسعد الله الجابري، ورشدي كيخيا، والرئيس الدكتور ناظم القدسي، وعدنان أتاسي، وخالد العظم وسواهم..

د. محمد علي الهاشمي

وتحدث عن انشقاق الكتلة الوطنية إلى حزبين: حزب الشعب في حلب، والحزب الوطني في دمشق. وتحدث عن الانقلابات العسكرية، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم، وارتباطها بالخارج، بأمريكا، وأن مايلز كوبلائد –صاحب كتاب (لعبة الأمم) و(لاعب اللعبة) كان، بوصفه موظفاً في الاستخبارات الأمريكية، يدبر الانقلابات، وكان مستشاراً لحسني الزعيم ولأديب الشيشكلي، ولجمال عبد الناصر، فهذه الانقلابات الثلاثة، كان وراءها السي آي آيه .

وتحدث عن الأسلحة السوفيتية، وعن مشروع معاهدة الدفاع المشترك، ونظرية الفراغ.

وتحدث عن الوحدة بين سورية ومصر، وعن الانفصال.

وفي القسم الثاني: المرحلة السعودية، تحدث عن ذهابه إلى السعودية، وصلته بالملك فيصل، ثم بالملك فهد، وتحدث عن القضية الأفغانية، وعن الصراع على البترول في الشرق الأوسط، وعن الهجمة العالمية على الإسلام، وعن دور الإسلام في نقل الإنسانية إلى عالمية متعارفة، وتحدث عن الإسلام والإنسانية وحقوق الإنسان، كما تحدث عن أزمة الخليج، ودور إسرائيل في الحرب بين العراق وإيران.

كان الدكتور الدواليبي يسترسل في بعض القضايا، ويوجز في بعضها، ولو أن مثل هذه الجلسات كانت قبل عشرين سنة مثلاً، لكنا حصلنا على معلومات وفيرة، والله أعلم. وعلى أي حال، شيء خير من لاشيء، فكثير من رجالاتنا، بل أكاد أقول كلهم لم يكتبوا مذكراتهم، وماتت أسرارهم بموتهم، وتركوا لخصومهم وأعدائهم الكتابة عنهم، وهؤلاء ليسوا ملومين –في عرفهم- فيما يكتبون عن سورية وتاريخها، ورجالاتها..

ولنا أن نتساءل: أين دور الإخوان فيما كان يجري؟

قرأت لكاتب بعثي عن تاريخ سورية، فلم يكتب إلا عن تاريخ البعث.

وقرأت للدواليبي مذكراته، فلم يكتب إلا عن الكتلة الوطنية ورجالاتها، ولم يذكر الدكتور السباعي إلا عرضاً، وكأن الرجل لم يكن له أي دور في حياة سورية، لا هو ولا جماعته. الإنصاف، والصدق، والموضوعية مفقودة في كثير من الكتابات.. ومنها هذه المذكرات.

والذي يقرأ هذه المذكرات يخرج بنتيجة هي أن الدكتور الدواليبي كان محور الأحداث، وأنه هو الذي حرر سورية، بإقناعه الجنرال ديغول بضرورة استقلال سورية ولبنان، واقتنع ديغول، وجلا الفرنسيون عن أرض الوطن.

أين دور المجاهدين وثوراتهم في سائر المدن والأرياف السورية؟

أين.. وأين.. وأين؟

ومع ذلك أقول:

جزى الله الأساتذة الدكاترة: معروف الدواليبي، وعبد القدوس أبو صالح، ومحمد علي الهاشمي على ما بذلوا وقدموا، ويا ليت الذين عايشوا تلك المراحل يدلون برأيهم في بعض ما جاء في هذه المذكرات، ففيها ما يثير القلق، والجدل.

بقي أن نقول:

هذا الكتاب من منشورات مكتبة عبيكان في الرياض، وجاء الكتاب في 263 صفحة من القطع العادي.