رحلة في ذاكرة النشيد الإسلامي مشاعر ومواقف ومحطات

 

يشكل النشيد الإسلامي واحدة من أبرز المظاهر الإسلامية التي سبقت العصر الرقمي، وشكلت نموذجًا مميزًا لتفاعلات النشيد مع قضايا الأمة وما تعانيه في تلك الحقب الزمنية من أفغانستان وصولًا إلى فلسطيني، ولا ينحصر اللفظ الإسلامي بموضوع "الضوابط" في مقابل الفن، بل من حيث ما يحمله النشيد من رسائل، وخاصة ما رافق تلك الفترة الزمنية من تقلبات سياسة وأحداث كبرى، استطاع النشيد الإسلامي معالجتها، وهو ما لم يحصل في المراحل الزمنية اللاحقة، التي شهدت أحداثًا لا تقل أهمية، ولكن النشيد لم يعد موجودًا كحالة عامة كما كان في الفترات الزمنية السابقة.

وتظل أواخر الثمانينات والشطر الأول من التسعينات مرحلة ذهبية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهي زاخرة بأروع ما أنتجه النشيد الإسلامي، إن من حيث القضايا التي عالجها حينها، والقامات التي كانت تقدم هذه القصائد المغناة، إن كانوا شعراء أو منشدين، ومن حيث الرسالية في كل كلمة كانت تقدم، وقد نشأ جيل كبير على أناشيد أبو الجود وأبو راتب وأبو دجانة وعلى فرق اليرموك والروابي وغيرهم الكثير، إضافة إلى أسماء أخرى تخصصوا في الابتهالات الدينية والمدائح النبوية.

وإنني مثل الكثيرين ممن نشأ على هذه الأناشيد، وتشبع من معانيها، وما زلت حتى يومنا هذا أطرب لنشيدة ماضٍ بصوت أستاذنا الكبير محمد أبو راتب، وعن تلك المعاني التي لا يمكن أن تجدها اليوم، لن أدخل في مقارنات الموسيقى والصخب وجودة التسجيل، فهي تفاصيل لها خلفيات شرعية أو تقنية وزمنية، ولكنني أعني هنا جوهر النشيد، ما يحمله من معاني تتصل بالمتلقي، وتبعث في نفسه ما يرفع الهمة ويشد الأزر، ليمضي في طريقة وهو يعرف أن حياته "صيغت على لحن الكفاح"، فلا حيرة وجودية ولا أسئلة عامة هلامية، بل رسائل واضحة جلية، والطريق لا بد من المضي بها مهما امتلأت بالشوك والرماح...

وعن أثر النشيد وموقعه وحيويتيه، لا يمكننا إلا أن نحيي المنشد القدير د. محمد أبو راتب الذي أنشد لفلسطين والجزائر ولسوريا وطرابلس، وحول الأخيرة أدى أبو راتب نشيدة عن مدينة طرابلس، وكان تسجيلها كما سمعت من أكثر من مصدر على مسجل بسيط في قاعة مسجد، يقول في مقدمتها:

بكت طرابلس فالدنيا غماما ... وأدبر نورها فالكون هاما
عروس الشام أغنية العذارى ... تنادي ترتدي السود القتاما
عروس الشام لا تبكي فإني ... أذوب لدمعك الهامي اغتماما
أأبكي اليوم أغنية العذارى ... أم أبكي القدس أم أبكي الشآما
وتدمر والمآذن في حماة ... وغزة لم تنم فيَّ احتداما

وقد تعرضنت المدينة حينها لقصف وحشي، وحصار بربري من جيش النظام السوري، واستبيحت المدينة على أثرها أياما طويلة وللحديث عنها مناسبة أخرى بعون الله، والأنشودة بحق من أجمل ما قيل في المدينة، وقد حدثني ثقة أن السائر في أزقة منطقة باب التبانة في المدينة كان يستمع لها من مذياع إلى آخر وهو يمشي في شوارعها لما كان لها من صدى وأثر في نفس المحاصرين، وقد ذكر فيها أهوالًا أخرى مرت على لبنان والمنطقة، من مجازر صبرا وشاتيلا وما جرى في حماة والشام، فهي قطعة نادرة لهموم بلاد الشام وما حاق فيها من آلام في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين.

أما فلسطين فكانت درة كل منشد، فمن نشيدة "والله ما نسينا"، إلى "أرض الإسراء تنادينا"، وغيرها الكثير مما لا يمكن حصره في هذه التدوينة، ولكل منها مناسبة وذكرى، ومكانة في قلب المستمع، وهي التي شكلت أولى أواصر التعلق القلبي مع فلسطين والقدس، وجبلت النفس على حبهما، فأي متابع لا يمكنه إلا أن يعرف "يا قدس يا مزيونا"، و"أنا اسمي القدس"، و"مولاي إني سائر" تلك النشيدة الرائعة التي أداها الدكتور محمد الحسيان الذي لا يمكنك أن تمل منها مهما كررتها...

وربما كنا من الجيل الذي لا يعي انطلاقة أبرز حركات المقاومة وأهمها، فكانت حاضرة في أذهان من لم يعاصرها من خلال النشيد، فسمعنا "سيري سيري يا حماس" و"ألف تحية لفلسطين ولجند حماس، إسلامية إسلامية والمسجد كان النبراس"، فعرفنا هذه الحركة المباركة، وشكلت "ثوري" نداء ثوريا إسلاميًا، فزاد تعلقنا بقادتها الميامين من الياسين والرنتيسي وغيرهم، وقد عاينا في رحلة العمر كيف ارتقوا الواحد تلو الآخر، والتحقوا بالرفيق الأعلى متمسكين بالجهاد طريقًا، والإسلام منهجا..

كانت فلسطين حاضرة في سيل من الأناشيد، يغني المنشد في المقطع الأول "دمشق في القلب"، وفي المقطع الثاني "نهديك سلاما يا جزائر"، ومن ثم يغني لفلسطين ويقول "يا فلسطين الدار الدار" و"أماه ديني"، كل نشيدة منها لها ذكريات لا تنسى، وشكلت كل واحدة وجبة دافئة من المعاني والثوابت والمثل العليا، التي قلما تجدها اليوم، مع ما يعانيه النشيد من ترهل وتفلت، وتساوق مع "الفن"، فغابت الرسالة وبقي اللحن والأداء والصوت الجميل فقط، وأحيانا كثيرة غابت هي أيضًا.

هذه أطياف مبعثرة ومشاعر جلجلت في صدر كاتبها، وهو يحن إلى زمن كانت الرسالة أهم من "الفن" وكانت القضية أسمى من المال والشهرة، وكان للإنشاد روح تسري في الأمة، يخرج الصوت من الأردن فيسمع صداه في المغرب، ويخرج الإصدار من الكويت، فتسمعه في شوارع طرابلس... لن نشكو الأيام، ولكنها دعوة للتذكر، عل الكلمة الطيبة تعود لتأخذ موقعها مجدًدا...

وسوم: العدد 959